السلام
كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...
العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المنجيات |
بالعدل قامت السماوات والأرض, وبه يصلُحُ حال الدنيا, وبه تكون الأُلفة, وبه تَعْمُر البلاد, وبه يُدْفع إلى الطاعة, وبه تنمو الأموال, وبه تُحفظ الأعمال, وبه تأمن الرعية والراعي, وبه يكون القبر روضة من رياض الجنة, وبه تَبيضُّ الوجوه, وبه تَثْقُلُ الموازين, وبه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فبالعدل قامت السماوات والأرض, وبه يصلُحُ حال الدنيا, وبه تكون الأُلفة, وبه تَعْمُر البلاد, وبه يُدْفع إلى الطاعة, وبه تنمو الأموال, وبه تُحفظ الأعمال, وبه تأمن الرعية والراعي, وبه يكون القبر روضة من رياض الجنة, وبه تَبيضُّ الوجوه, وبه تَثْقُلُ الموازين, وبه تُزحزح عن النار وتَدخل الجنة.
بالعدل تُحبِّبُ الناسَ بالإسلام, بالعدل تُحبِّبُ الناسَ بالقرآن, بالعدل تُحبِّبُ الناسَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم-, بالعدل تُحبِّبُ الناسَ فيك, بالعدل تَكبُرُ في أعين الناس, بالعدل يخلد ذكرك بعد موتك.
أيُّها الإخوة الكرام: ربَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على خُلُق العدل, ربَّاهم على العدل بين الناس جميعاً, ربَّاهم على أنَّ الحق أحقُّ أن يُتَّبع مهما كانت العواطف في نفوسهم من حبٍّ أو بغض.
هذا سيدنا عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- يبعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل خيبر ـ وما أدراك ما أهل خيبر, أهل خيبر منهم تلك المرأة التي قدَّمت الذراع المسموم لسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, هذه امرأة من نسائهم فكيف برجالهم؟ - أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- إليهم ليخرص عليهم -ليقدِّر عليهم- ثمارهم وزروعهم, فأرادوا أن يرشوه ليَرفُقَ بهم. فقال: "يا أعداء الله تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ, ولأنتم أبغض إليَّ من عدَّتكم من القردة والخنازير, ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا اعدل بينكم" فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض [رواه البيهقي].
معشر المسلمين: إن المجالات التي يدخل فيها العدل كثيرة جداً منها: في الولاية العامة, والولاية الخاصة, وفي القضاء, وفي الشهادة, وفي الكتابة, وفي معاملة الزوجات, وفي معاملة الأولاد, وفي الكيل والأوزان، إلى غيرها من المجالات.
أيُّها الإخوة المؤمنون: أريد أن أقف معكم في هذه الخطبة مع مسألة العدل بين الأولاد, حيث أرى الكثير من الأبناء وقع في العقوق لوالديه بسبب جور الأب أو الأم أو كليهما في تعاملهما معه, وأسمع كثيراً من النساء مَنْ وقعت في العقوق لوالديها بسبب الجور والظلم منهما, حتى وصلت بعض النساء إلى درجة اللعن لوالديها بعد موتهما, وأما الشقاق والنزاع وتقطيع الأرحام فيما بين الإخوة والأخوات بسبب جور الآباء فحدِّث عنه بلا حرج.
أيُّها الآباء أيَّتُها الأمهات: أريد أن أذكِّر نفسي وأُذكِّركُم ببعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تحثُّنا على العدل.
أولاً: يقول الله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90] الله يأمرك بالعدل بشكل عام, فيجب عليك أن تعدل مع جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم, فكيف لا تعدل بين أولادك؟
ثانياً: يقول -تعالى-: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى: 15] تنبَّه إلى قوله تعالى: (وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)، وقوله: (الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير) فما أنت قائل لربك إذا جمع بينك وبين ولدك؟ سيسأل الله الولد: لماذا عققت والديك؟ هيِّئ الجواب لله -تعالى- أيُّها العاقُّ لوالديه, وسيسألك الله -تعالى- أيُّها الأب: لماذا لم تعدل وقد أمرتك بالعدل؟ هيِّئ الجواب لمولاك أيُّها الأب.
ثالثاً: يقول الله -تعالى-: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) [النساء: 11] هذه وصية الله -عز وجل- لكم أيُّها الآباء والأمهات: (يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلاَدِكُمْ) بدون قيد ولا شرط ما داموا مؤمنين: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) فلماذا الجور والظلم في وصيتكم؟ وهذا لهذا, الذهب للبنات... المعمل والمصنع للذكور... البيوت والمزارع للذكور... والنزر اليسير للبنات... لا تقسم التركة بعد موتي, كل شيء على حاله حتى تموت أمكم...
اسمع -يا أخي-: إنَّ وصيتك هذه أبطلها الشرع؛ لأنه ما بقي لك حق في مالك بعد موتك, وأعطى الله -عز وجل- الحقَّ لورثتك فهم ينفذونها أَوْ لا, فإن كانوا أبراراً فلا حاجة لوصيتك لأنَّهم سيلتزمون شرع الله -تعالى- في القسمة فلا يضيعوا حق أحد, وإن كانوا غير ذلك فلا قيمة لوصيتك؛ لأن الذي كان عاقَّاً لوالديه في حال حياتهما فهو من باب أولى أن يكون عاقَّاً لهما بعد موتهما إلا إذا تاب إلى الله.
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لماذا هذا العبث في الأحكام؟ لماذا هذا الهوى الذي قالَ بنا عن جادة الإسلام والله -تعالى- يقول: (فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ) [النساء: 135]؟ لماذا هذا الجور في التعامل؟
لا تقل: أنا حر في مالي, أنت لست حراً بل أنت عبد مملوك لله -عز وجل-, والمال مال الله -تعالى- استأمنك عليه, فلا تتصرف فيه إلا بما رسم لك مولانا -عز وجل- في القرآن العظيم
رابعاً: تعال واسمع يا من جُرْتَ في وصيتك إلى ما يحدِّثُك به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً, فَإِذَا أَوْصَى حَافَ فِي وَصِيَّتِهِ, فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ, فَيَدْخُلُ النَّارَ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ, فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ, فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ" [رواه الإمام أحمد] قَالَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَة َراوي الحديث: وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِين) [النساء: 13 - 14].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً, ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ, فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ" ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ) [النساء: 12] إِلَى قَوْلِهِ: (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [النساء: 13] [رواه الترمذي وقال: "هذا حديث حسن صحيح"] هذه الآيات جاءت بعد آيات المواريث في سورة النساء, والتي ابتدأت بقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلاَدِكُمْ).
خامساً: اسمعوا -أيُّها الإخوة الأعزاء- يا من يقسمون أموالهم في حال حياتهم، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ بَشِيرٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ نَحَلَ ابْنَهُ غُلَامًا فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَرَادَ أَنْ يُشْهِدَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ ذَا؟" قَالَ: لَا, قَالَ: "فَارْدُدْهُ" [رواه النسائي].
وفي رواية عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيما رجل نحل ابنه نحلاً فبان به الابن, فاحتاج الأب, فالابن أحق به, وإن لم يكن بان به الابن, فاحتاج الأب, فالأب أحقُّ به" [رواه الطبراني في الأوسط].
أيُّها الإخوة الكرام: عليكم بالعدل بين الأبناء وإياكم والجور والظلم, بسبب العواطف عواطف الحب أو عواطف البغض, فالحق أحق أن يُتَبَع, أعينوا أبناءكم على البر, ورحم الله والداً أعان ولده على بره, لا تزرع الحقد في قلوب أبنائك عليك ولا فيما بينهم, اعدل بينهم في حال الحياة وسوِّ بين جميع أبنائك في العطاء للذكر مثل حظ الأنثى, وإياك أن تجور في الوصية عند موتك, واسمع أخيراً واحفظ: العقوق لا يمنع من الحقوق.
أقول هذا القول، وكلٌ منا يستغفر الله فيا فوز المستغفرين.