البحث

عبارات مقترحة:

البارئ

(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...

الحميد

(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

الثقة بالله تعالى

العربية

المؤلف عبدالله بن عبده نعمان العواضي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. أهمية الثقة بالله .
  2. مفهومها .
  3. أثرها على القلوب .
  4. حاجة المسلم لها .
  5. ثقة نبينا والأنبياء والصالحين والصالحات بربهم .
  6. مجانبة طائفتين للثقة بربهم: الواثقين بأعمالهم والمتواكلين .
  7. وسائل لتقوية الثقة بالله تعالى .

اقتباس

إن الثقة بالله -تعالى- معراجٌ وثيقٌ يصل بين العبد وربه، يصل به إلى المحبوبات والمرغوبات، وينجو به من المكروهات والمرهوبات. والثقة بالله -تعالى- صرح شامخ في قلب المؤمن، لا تهزه عواصف المصائب والمحن، بل تزيده شموخاً ورسوخاً، ولا يهدمه إلا سوء الظن بالله، والشك في حصول فرجه، وكثرة التعلق بالمخلوقين، وتناسي الخالق -جل وعلا-.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق القول كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: إن تعلق العبد بخالقه ومعبوده -سبحانه وتعالى- مطلب من مطالب العبودية لله -تعالى-، وعلى قدره يكون تأييد الله -تعالى- ونصره وقربه وعونه لعبده.

وحينما ابتعد كثير من المسلمين في الأزمنة المتأخرة عن كثير من تعاليم دينهم وشريعة ربهم، وحلت بهم الخطوب والبلايا، نظروا أثناء ذلك إلى البشر، آملين أن ينجدوهم من مصائبهم، ولم يرجعوا إلى ربهم الذي بيده كل شيء. تعلقوا بخيوط العنكبوت ليخرجوا من هوتهم السحيقة، وتركوا الحبل المتين الكفيل بإخراجهم من كل مأزق.

عباد الله: في زماننا كثر القلق، وتواردت الهموم، وادلهمت الأحزان على بعض المسلمين عندما ينظر إلى حاله وحال سائر الناس. لقد كثر تعلق المخلوق بالمخلوق فصار يخشاه ويرجوه، وربما باع دينه بعرض من الدنيا قليل. قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيلقى الرجل وله إليه حاجة فيقول له: أنت كيت وكيت -يثني عليه-؛ لعله أن يقضي من حاجته شيئاً، فيسخط الله عليه، فيرجع وما معه من دينه شيء".

فأين الثقة بالله -تعالى- والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه؟ قال -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق:2-3]. وقال: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق:4].

قال ابن القيم: "أي: كافٍ من يثق به في نوائبه ومهماته، يكفيه كل ما أهمه، وكلما كان العبد حسن الظن بالله، حسن الرجاء له، صادق التوكل عليه، فإن الله لا يخيب أمله فيه البتة؛ فإنه -سبحانه- لا يخيب أمل آمل، ولا يضيع عمل عامل، وعبر عن الثقة وحسن الظن بالسعة؛ فإنه لا أشرح للصدر، ولا أوسع له بعد الإيمان من ثقته بالله، ورجائه له، وحسن ظنه به".

أيها الأحبة الكرام: إن الثقة بالله -تعالى- معراجٌ وثيقٌ يصل بين العبد وربه، يصل به إلى المحبوبات والمرغوبات، وينجو به من المكروهات والمرهوبات.

والثقة بالله -تعالى- صرح شامخ في قلب المؤمن، لا تهزه عواصف المصائب والمحن، بل تزيده شموخاً ورسوخاً، ولا يهدمه إلا سوء الظن بالله، والشك في حصول فرجه، وكثرة التعلق بالمخلوقين، وتناسي الخالق -جل وعلا-.

والثقة بالله -تعالى- اطمئنان قلبي لا يخالطه ريب، وتسليم مطلق لمن يصرّف أمور خلقه وحده.

الواثق بالله يعتقد أن الله -تعالى- إذا حكم بحكم وقضى أمراً فلا مرد لقضائه، ولا معقب لحكمه، فمن حكم الله له بحكم وقسم له بنصيب من الرزق أو الطاعة أو الحال أو العلم أو غيره فلا بد من حصوله له، ومن لم يقسم له ذلك فلا سبيل له إليه، فبهذا القدر يقعد عن منازعة الأقسام، فما كان له منها فسوف يأتيه على ضَعفه، وما لم يكن له منها فلن يناله بقوته.

عباد الله: إن الإنسان مهما بلغ من قوة الوسائل في الوصول إلى المطالب والرغائب فإنه ضعيف عاجز؛ لأن الضعف وصف خلقي ملازم للإنسان منذ خلق إلى أن يموت، قال -تعالى-: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) [النساء:28]؛ وهذا يوجب على الإنسان أن يطلب القوة والقدرة على ما يريد من القوي المتين -سبحانه وتعالى-، وأن لا يركن إلى نفسه وقوته؛ لأنه لو فعل ذلك لكان الخسران والخذلان في انتظاره.

                إذا لم يكن عون من الله للفتى

فأول ما يقضي عليه اجتهاده

أيها الإخوة الفضلاء: إن ما يجري في الكون لا يغيب عن علم الله العليم الخبير، وقد يكون شراً في ظاهره، ولكن عواقبه إلى الخير أقرب، والإنسان محدود العلم والقدرات، فلا يدرك الخفايا والعواقب، لكن الواثق بالله -تعالى- يسلم قياد أمره إلى من يتصرف في خلقه بعلمه وقدرته ومشيئته؛ لأنه -جل وعلا- الأعلم بما يصلحنا وينفعنا، واختياره لنا خير من اختيارنا لأنفسنا.

فأحسِن الظن بالله -أيها المسلم-، وثق به تسلم وتغنم؛ عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -جل وعلا- يقول: أنا عند ظن عبدي بي؛ إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله" رواه أحمد وابن حبان، وهو صحيح.

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما أعطي عبد مؤمن شيئاً خيراً من حسن الظن بالله -تعالى-، والذي لا إله إلا هو! لا يُحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه الله -عز وجل- ظنه، ذلك أن الخير في يده".

أيها المسلمون: إن الثقة بالله -تعالى- وسيلة نجاح يحتاجها المسلم في كل المجالات المشروعة، فيحتاجها في تحصيل الرزق، حيث يمشي في مناكب الأرض، ويسعى في جوانبها طالباً رزق الرزاق الكريم مما أحله الله له، معتقداً أن الرزق من عند الله وحده، حتى صار قلبه معلقاً بالله دون غيره، وما سعيه إلا بذل للسبب الممكن، راضياً بما قسم الله له، فلا يحسد الناس إن زادوا عليه في الرزق؛ لأنه يعلم أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر بعلمه وحكمته ورحمته، وأن الغنى لا يدوم، والفقر لا يبقى، وبهذا الشعور يجد البركة في رزقه وإن قل، ويذوق طعم الراحة والاطمئنان.

قال -تعالى-: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [هود:6]، وقال -تعالى-: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الشورى:12]، وقال -تعالى-: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن:11].

معشر المسلمين: ويحتاج المسلم الثقة بالله -تعالى- أيضاً عند المخاوف فيأمن بها من كيد أعدائه ومكر الماكرين به، فما دام من أهل الطاعة والاستقامة فليثق بأن الله -تعالى- يدافع عن الذين آمنوا، وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

لقد كان أنبياء الله ورسله -عليهم الصلاة والسلام- واثقين بالله -تعالى- ثقة لم تزعزعها رياح الابتلاءات وأعاصير الرزايا، فكان ذلك من أسباب نجاتهم ونصر الله لهم.

يقول -تعالى- عن نبيه نوح -عليه السلام-: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ * فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ) [يونس:71-73].

إنها كلمات مشرقة بالثقة بالله -تعالى- وتحدي أعدائه الذين كانت عاقبتهم الزوال، وعاقبة نوح ومن معه من المؤمنين النجاة والسلامة.

ويقول -جل وعلا- عن نبيه هود -عليه السلام-: (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود:54-56]، إلى قوله -تعالى-: (وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [هود:58-59].

وهذا خليل الله إبراهيم -عليه السلام- الذي ألقى به قومه المشركون في النار فوثق بالله وفوض أمره إليه فنجاه الله -تعالى-.

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173]. قالها إبراهيم -عليه السلام- حين ألقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، كما روى البخاري. قال -تعالى- في نجاة إبراهيم -عليه السلام-: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:69]. وقال في نجاة نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه -رضي الله عنهم-: (فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران:174].

وقال -تعالى- عن كليمه موسى -عليه السلام- حينما خرج ببني إسرائيل من مصر والبحر أمامهم والعدو خلفهم: (فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) [الشعراء:61-64].

عباد الله، إن البلاء إذا اشتد على أهل الإيمان قويت ثقتهم بالله -تعالى- ولم تضعف، فهذا الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يعقوب -عليه السلام- قد فقد حبيبه وقرة عينه: يوسف -عليه السلام-، ثم فقد بعده الحبيب الثاني بنيامين، فاشتد عليه الحزن حتى فقد حبيبتيه -أي: عينيه- لفقد ولديه الكريمين، ومع هذا كله لم يفقد ثقته بالله -تعالى- ولم يقنط ولم ييأس، بل قال لأولاده: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87].

فرد الله عليه بصره ورد إليه ولديه الحبيبين، قال -تعالى-: (فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف:96-100].

معشر المسلمين، إن نبينا محمداً -عليه الصلاة والسلام- كان على جانب كبير من الثقة بالله -تعالى- في حمايته له، ونصرة ما جاء به، ورفعة من اتبعه. فإن أبا طالب-كما ورد في السيرة- حينما رغّب رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في عرض قريش عليه بعض متاع الدنيا على أن يترك ما جاء به، قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته لشيء".

فحماه الله من كيدهم فخرج مهاجراً من بين أيديهم، حتى وصل غار ثور ثم المدينة النبوية. قال -تعالى-: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:40]. قال له صاحبه ورفيقه أبو بكر -رضي الله عنه-: "يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا"، قال: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" متفق عليه.

وفي يوم من الأيام خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع بعض أصحابه فتفرقوا يستظلون تحت الشجر من حر الهجير، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا اخترط سيفي، وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس". ثم لم يعاقبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. متفق عليه.

أيها المسلمون: لقد ضربت المرأة المسلمة -أيضاً- أمثلة رائعة من الثقة بالله -تعالى-، فها هي أم إسماعيل -عليهما السلام- حينما وضعها إبراهيم -عليه السلام- في مكة بوادٍ غير ذي زرع بلا أنيس ولا شيء قالت وهو يودعها وابنها: "يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يتلفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا" رواه البخاري. فحسن بعد ذلك حال هذه الأسرة المؤمنة هناك وجاءها القوت والجيران الصالحون.

وهذه أم موسى -عليهما السلام- أيضاً تضرب مثلاً آخر في الثقة بالله -تعالى-، فهي لما خافت على ولدها من ذبح فرعون ألهمها الله -تعالى- أن تلقي فلذة كبدها في الماء الذي هو مظنة الهلاك المحقق، ثم لو سلم فلا تدري إلى أين سيأخذه الماء! لكن الله -تعالى- ألهمها أن تلقي موسى الرضيع في اليم، فلثقتها بالله -تعالى- وبوعده الذي وعدها برده ألقته وانتظرت تحقق وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، فرجع إليها سالماً غانماً، وحصل الإكرام والمكانة المرموقة لأسرته لدى فرعون.

قال -تعالى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [ القصص:7-13].

عباد الله: إن الثقة بالله -تعالى- لا تعني تعطيل الأسباب، وانتظار القدر المنجي بدون سعي وعمل لجلب المرغوب ودفع المرهوب؛ وإنما الثقة بالله -تعالى- تعني: أن تفوض أمرك إليه، وتعلق قلبك به، وتتوكل في أمرك كله عليه، وتبذل ما في قدرتك ووسعك من الأسباب لتحصيل المحبوبات ودفع المكروهات.

ولذلك قال نبي الله -صلى الله عليه وسلم- : "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً وتروح بطاناً" رواه أحمد والترمذي وابن حبان وابن ماجة، وهو صحيح، فذكر -عليه الصلاة والسلام- أن الطير تخرج من أوكارها لطلب الرزق ولا تبقى فيها.

أيها الأحبة الكرام، إن الخطأ -كل الخطأ- في فهم هذا الأمر لدى طائفتين من الناس:

الطائفة الأولى: اتجهوا إلى العمل بالأسباب، واثقين بأنفسهم وما عندهم من القدرة، وتركوا الاعتماد على الله -تعالى-، وهذا تخلٍّ عن الله ووثوق بالنفس، ومن توكل على غير الله وكله الله إلى من توكل عليه، وليس له عند ذلك إلا الذم والخسارة.

والطائفة الأخرى: وثقت بالله ثقة مغلوطة بحيث انفصلوا معها عن العمل بالأسباب وقعدوا ينتظرون، وهذا هو التواكل الذي يذمه العقل والشرع.

وكلتا الطائفتين على خطأ، والصواب هو تعليق القلب بالله -تعالى-، وفعل ما يستطاع من الأسباب الممكنة المشروعة.

نسأل الله -تعالى- أن يبصرنا بديننا، وأن ينمي في قلوبنا الثقة بربنا، وأن يصلح بذلك جميع أحوالنا.

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد الله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وأصحابه الأخيار الأوفياء.

أما بعد: أيها المسلمون، إن الواقع الذي يعيشه كثير من المسلمين اليوم، شعوباً وحكومات، أفراداً وجماعات، واقع مرير، أوصل بعض الناس إلى شيء من الإحباط وضعف الثقة بالله -تعالى- الذي بيده مقاليد أمور الخلق؛ فاحتاج هؤلاء -بل نحتاج جميعاً- إلى وسائل تجذر الثقة بالله -تعالى- والركون عليه وحده في قلوبنا الذي هو خالقنا ورازقنا، ومالك أمرنا كله، وبيده حياتنا ومماتنا.

فمن تلك الوسائل التي تقوي الثقة بالله في قلب المسلم: العلم بالله -تعالى- عن طريق النظر والتفكر في أسمائه وصفاته، وفي مخلوقاته وصنعه -عز وجل- في خلقه، والعلم بقضائه وقدره، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن:11].

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا" رواه أحمد والترمذي وغيرهما وهو صحيح.

وكذلك العلم بدين الله -تعالى- عن طريق القراءة في القرآن والسنة وسؤال العلماء الناصحين عما لم يفهم منها؛ فإن ذلك يورث المسلم البصيرة والنور في معضلات الحياة.

ومن وسائل تقوية الثقة بالله -تعالى-: التحلي بالصبر؛ فإن الصبر مفتاح الفرج، وعلاج للألم، وبوابة للأمل، فمن صبر ظفر، فالحال السيئة لا تدوم، وتغييرها يسرع إليها أكثر من إسراعها لأهل العافية منها، وكلما اشتد الهم وتواترت المشقات آذنت بانفراج قريب، كالليل الذي تتكاثف ظلماته عند اقتراب الفجر، فإذا وصل المسلم إلى اليقين بهذه الحقائق نمت الثقة في قلبه نماء راسخاً. قال -تعالى-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح:5-6].

ومن الوسائل الناجعة لتقوية الثقة بالله -تعالى-: الإقبال على الله -تعالى-، والتضرع بين يديه، والإلحاح عليه بالدعاء؛ فإن المسلم إذا عاش مع الدعاء صادقاً فيه، مكثراً منه؛ وثق قلبه، واطمأنت نفسه، وقوي بالله وحده يقينه.

أيها المسلمون: إن الثقة بالله -تعالى- كنز عظيم، إذا ظفر به المسلم وصل إلى الراحة وذهاب القلق والهموم والغموم، وزاد إيمانه، وكثر إحسانه، واستمر في اللجوء إلى الله -تعالى-، وانتصر على عدوه، وغلب الماكرين به؛ لأن الثقة بالله -تعالى- من أمضى الأسلحة، وأقوى العُدد الناجحة.

قال -تعالى-: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [الأنفال:60]. جاء عن بعض المفسرين أن من معاني القوة في الآية: الثقة بالله -تعالى-.

فعلينا-معشر المسلمين- أن نكون واثقين بالله -تعالى- في إصلاح أحوالنا، وذهاب آلامنا، وتحقق آمالنا الخيّرة، فالليل المظلم عما قريب يدركه الفجر الصادق.

يا صاحب الهمّ إن الهم منفرجٌ

أَبْشِرْ بخيرٍ فإنَّ الفارجَ اللهُ

إذا بُلِيتَ فثق بالله وارضَ به

إن الذي يكشف البلوى هو الله

هذا وصلوا وسلموا على خير الأنبياء...