العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
ورد طرف من قصة نبي الله يونس بن مَتَّى -عليه السلام- في القرآن أربع مرات، وفيها من المواعظ ما يجدر الوقوف عندها، وسأعبر عن غرائب الإسرائيليات التي عج بها كثير من الكتب، وسأبقى على ما فيه عبر.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فقد قص الله علينا في كتابه العزيز قصص كثير من الأنبياء لنستنبط منها الدروس والعبر، ولتثبت إيماننا، وموعظة وذكرى للمؤمنين، وغير ذلك من الحكم؛ يقول -سبحانه-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111]، وقال -سبحانه-: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود:120].
معاشر الإخوة : ورد طرف من قصة نبي الله يونس بن مَتَّى -عليه السلام- في القرآن أربع مرات، وفيها من المواعظ ما يجدر الوقوف عندها، وسأعبر عن غرائب الإسرائيليات التي عج بها كثير من الكتب، وسأبقى على ما فيه عبر.
لقد أرسل الله نبيه يونس -عليه السلام- إلى قومه في مدينة نينوى التي تقع قريبا من الموصل شمال العراق، ونينوى كانت في يوم ما عاصمة الأشورية، يونس دعاهم إلى الله -عز وجل- مرارا وتكرارا، فكذبوه وتمردوا وأمعنوا في الكبر والعناد.
فلما طال عليه ذلك واستنفذ كل ما لديه من وسائل الإقناع، وأيقن ألا فائدة وأنهم لن يستجيبوا، غضب لربه غضبا شديدا، ونفض يديه منهم، وأنذرهم بالعذاب بعد ثلاثة أيام، وخرج من بين أظهرهم.
جاء في التفاسير أنه أوحي إليه أن العذاب نازل بهم بعد هذه المدة، فلما أشرفت المدة على الانقضاء وبدأت بوادر العذاب تظهر، وأظلهم العذاب بعلاماته دون أن ينزل؛ لأن السنة أن العذاب إذا نزل لم يرتفع، فلما أيقنوا بأن يونس كان صادقا وأن العذاب حالّ بهم تابوا إلى الله وتضرعوا، فرفع الله عنهم ذلك العذاب، كما قال -تعالى-: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس:98].
قال ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف: فلما خرج من بين ظهرانيهم -أي: يونس عليه السلام- وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم، فلبسوا المسوح –ثياب الرهبان- وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله -عز وجل-، وصرخوا وتضرعوا إليه، وتمسكنوا لديه، وبكى الرجال والنساء والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي، فرغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغث الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة؛ فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب الذي كان قد اتصل بهم سببه، ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم.
لكن يونس -عليه السلام- كان وقتها ذاهبا في طريقه ولم يدرِ بتوبتهم، قال -تعالى-: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87]، "ذا النون" أي: صاحب الحوت، فالنون في اللغة هو الحوت، كما في قوله -تعالى-: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ)، قال -تعالى-: (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ)، ليس المعنى هنا في قوله (نَّقْدِرَ) أي نستطيع؛ لا! وإنما المعنى ألا نضيق عليه، قال -تعالى-: (وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)، أي: ضيق عليه، (فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ).
فالمعنى: لم يدرِ أن الله -تعالى- سوف يضيق عليه في بطن الحوت، لم يدرِ، فإن الله -تعالى- قدر ليونس في طريقه أن يركب سفينة، وقدر أن السفينة ستثقل بأهلها فإما أن يغرقوا جميعا وإما أن يضحوا ببعضهم بإلقائهم في البحر، ثم إنهم لم يجدوا لأحد مزية في ذلك فاقترعوا على أن من غُلب ألقي في البحر، كل ذلك بتقدير وأمر من الله، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) [الصافات:139-142]، المدحض هو المغلوب، وَهُوَ مُلِيمٌ، أي: فعل ما يلام عليه، وقد ذكر طائفة من المفسرين أن الذي فعله يونس -عليه السلام- فكان ملوما عليه أنه استعجل الخروج من أرض قومه قبل أن يأذن الله -تعالى- له.
الله -سبحانه- لم يأمره بالبقاء فخرج، كلا، فهذه معصية ننزه نبي الله عنها، وإنما استعجل الخروج قبل أن يأذن الله له؛ ولهذا وصف فعله في الآية: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)، وأبق من آبق، والآبق: العبد الهارب من سيده، فوُصف هذا الوصف لخروجه قبل أن يأذن الله له.
ولما كان يونس في البحر إذ بحوت عظيم يأتي إليه بإذن الله ويبتلعه، ومن كان يدري أن هذا الحوت هو ابتلاء وفي الوقت ذاته هو نجاة ليونس؟ فالبحر ملئ بالأسماك المفترسة! فأصبح بطن الحوت -بأمر الله- ملاذا ليونس من بقية الأهوال، فلا عصارة بطن الحوت صهرته وأهلكته، ولا خواء الهواء خنقه.
شيء عجيب أن يظل حيا في بطن الحوت! لكنه واقع صار وتحقق، وهو على الله يسير، كما تحققت من قبله خوارق السنن بإذن بارئها وخالقها الرب -سبحانه وتعالى-، فالله خالق السنن، وقد انقلبت النار بردا وسلاما على إبراهيم بإذن الله -تعالى-، وسخر الله الرياح والجن لسليمان بإذنه -تعالى-، وألان الحديد لداود بإذنه -تعالى-، وقسم البحر فرقتين لموسى بإذنه -تعالى-، وولد عيسى من غير أب بإذنه -تعالى-، وكلم الناس في المهد بإذنه -تعالى-، وغيرها من الخوارق والمعجزات التي أكرم الله -تعالى- بها أنبياءه، قال -تعالى-: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87].
قال: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ)، لم يقل فدعا؛ لأن النداء فيه رفع للصوت بالضرورة، أما الدعاء فإنه قد يكون برفع الصوت، وقد يكون بخفضه، بل قد يكون بلا صوت مطلقا، فيونس وهو في تلك الظلمات الرهيبة الموحشة نادى ربه في الظلمات، والظلمات جمع ظلمة، والمراد ظلمة الليل، وظلمة قعر البحر، وظلمة بطن الحوت.
أيّ كرب عاشه يونس في تلك الظلمات! لا يدري حتى متى سيبقى فيها! ولذا نادى ربه وحبيبه ومولاه: (لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)! نداء بدعاء بالغ المعنى، بدأ بتوحيد الله: لا إله إلا أنت! إذ لا استغاثة إلا به -سبحانه- دون غيره من خلقه! لا استغاثة بالعباس ولا بزينب ولا بالبدوي ولا بغيره! ولكن الاستغاثة بالله –سبحانه وتعالى-، وهو خالص التوحيد: (لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ).
ثم التسبيح الذي فيه التنزيه من كل ناقصة، واثبات الكمال له في كل شأن، (سُبْحَانَكَ)! ثم اعتراف بالذنب وظلم النفس، وفي ذلك انكسار وذلة يحبها الله الكريم العظيم في عباده: (إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
والطلبُ في هذا النداء: (لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) متضمنٌ -وذلك لمقتضى الحال- حالَ يونس -عليه السلام-، فقد كان يونس في كرب شديد لا يقدر على تنفيسه إلا الله -عز وجل-، فتضمن النداء الطلب على ألطف وجه؛ ولذلك أعقبه -تعالى-: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فإن لدعاء يونس ذاك عند الله مكانة عظيمة، الدعاء المقصود: (لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، ففي مجمع الزوائد، بسند صحيح، قال سعد بن أبي وقاص: "مررت بعثمان بن عفان - رضي الله عنه - في المسجد، فسلمت عليه، فملأ عينيه مني، ثم لم يرد علي السلام، فأتيت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقلت: يا أمير المؤمنين، هل حدث في الإسلام شيء؟ مرتين، قال: لا، وما ذاك؟ قال: قلت: لا، إلا أني مررت بعثمان آنفًا في المسجد، فسلمت عليه، فملأ عينيه مني، ثم لم يرد عليّ السلام. قال: فأرسل عمر إلى عثمان -رضي الله عنه- فدعاه، فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام؟ قال عثمان -رضي الله عنه-: ما فعلت! قال سعد: قلت: بلى، قال: حتى حلف، وحلفت، قال: ثم إن عثمان -رضي الله عنه- ذكره، فقال: بلى، وأستغفر الله، وأتوب إليه، إنك مررت بي آنفًا، وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا والله، ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة!".
خشوع يجعله يغيب في معاني ذلك الكلام حتى لا يبصر ولا يسمع إلا ذلك الكلام أمامه، يغيب عن هذه الدنيا.
قال سعد: "فأنا أنبئك بها"، وسعد معروف بأنه صاحب فراسة، "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر لنا أول دعوة، ثم جاءه أعرابي فشغله حتى قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتبعته حتى إني أشفقت أن يسبقني إلى منزله، ضربت بقدمي الأرض فالتفت إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من هذا؟ أبو إسحاق؟" قلت نعم يا رسول الله، قال "فما؟"، قلت: لا يا رسول الله، إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة ثم جاءك هذا الأعرابي فشغلك، قال: "نعم، دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين؛ فإنه لن يدعو بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له".
وللكلام بقية إن شاء الله...