الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
التوكل: منزلة من منازل السائرين، وعباد الله الصادقين يُطمئن القلوب ويُزيل العيوب، يُذكر التوكل ويُكرر في زمن ضعف فيه التوحيد، ومعرفة حق الله على العبيد، وقلّ تدريس العقيدة ومتون التوحيد المفيدة، ومن أعظمها درسًا وتدريسًا وتقعيدًا وتأسيسًا الأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد هو كشف الشبهات والقواعد الأربع ومسائل الجاهلية، خمستُها لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وكذا لا تُنسى العقيدة الواسطية والطحاوية.
الخطبة الأولى:
الحمد لله جل في علاه أحمده سبحانه على نوالهِ ونِّعماه، مَن توكل عليه كفاه، ومَن اعتمد عليه حماه، ومَن فوّض أمره إليه تولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله لا معبود بحقٍ إلا إياه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله عصمه الله وكفاه صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لرسوله ومصطفاه..
أما بعد: عباد الله فتقواه عزٌ وفوزٌ ونجاة، فاتقوه حق تقواه.
أيها المسلمون مضى معنا في الجمعة الماضية الحلقة الأولى عن التوكل وآثاره، ومنزلته وثماره، وفي هذه اللحظات بقية تلك الكلمات.
التوكل: منزلة من منازل السائرين، وعباد الله الصادقين يُطمئن القلوب ويُزيل العيوب، يُذكر التوكل ويُكرر في زمن ضعف فيه التوحيد، ومعرفة حق الله على العبيد، وقلّ تدريس العقيدة ومتون التوحيد المفيدة، ومن أعظمها درسًا وتدريسًا وتقعيدًا وتأسيسًا الأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد هو كشف الشبهات والقواعد الأربع ومسائل الجاهلية، خمستُها لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وكذا لا تُنسى العقيدة الواسطية والطحاوية.
التوكل هو: اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة بالله وفعل الأسباب، والتبرؤ من الحول والقوة من كل ما سوى الله.
ومن آثاره: أن الله يكفي مَن توكل عليه أمور دينه ودنياه (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]، أي: كافيه، ومَن كان الله كافيه فلا لا أحد مطمعٌ فيه، ولا لعدو فيه، ولا يضره أذى إلا ما لابد منه كالحر والبرد والجوع والعطش، قال بعض السلف: "جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته" (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ولم يقل: فله كذا وكذا.
والتوكل: فريضة يجب إخلاصه لله وحده قال جل ذكره: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة:23]، وتقديم المعمول يفيد الحصر أي: وعلى الله فتوكلوا لا على غيره، ولا يحصل كمال التوحيد بأنواعه إلا بكمال التوكل عليه سبحانه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5]، وقال سبحانه: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس:84]، وقال سبحانه: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) [المزمل:9].
التوكل: من أعمال القلوب، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: التوكل عمل القلب، وكلما قويَّ توكل العبد كان إيمانه أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفًا كان دليلًا على ضعف الإيمان.
وقد جمع الله لعِظم منزلته التوكل بينه وبين أمهات العبادة، فجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية، فمنزلته في منزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك الإيمان ومقدماته وأعماله لا يقوم إلا على ساق التوكل.
واسمع إلى الكلمة الذهبية من ابن تيمية قال -رحمه الله-: "وما رجا أحدًا مخلوقًا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك" (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج:31]، ولهذا الله هو الكافي وحده، فقد كفى رسوله وعبده (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:64]، أي: الله وحده كافيك وكافي أتباعك ولا تحتاج معه إلى أحد.
توكلنا على الرحمن إنَّا | وجدنا الخير للمتوكلينَ |
ومَن لبس التوكل لم تجده | يخاف جرائر المتجبرينَ |
ولهذا مَن التفت بقلبه إلى ما سواه وكله إلى ما سواه، وفي الحديث: "مَن تعلق شيئًا وُكِل إليه"
وفوض إلى الله الأمور إذا اعترت | وبالله لا بالأقربين تُدافعُ |
التوكل: سياج منيع، وحصنٌ رفيع، ودرعٌ متين، وآمنٌ من رب العالمين، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهو سبحانه حسب مَن توكل عليه وكان مَن لجأ إليه وهو الذي يؤمّن من خوف الخائف، ويُجير المستجير، فمَن تولاه واستنصر به وتوكل عليه، وانقطع بكليته إليه تولاه وحفظه وحرسه وصانه، ومَن خافه واتقاه آمنه مما يخاف ويحذر. ويجلب إليه ما يحتاج إليه من المنافع، ولهذا التوكل نجاة في الشدائد، ومنجاة من المصاعب.
ولهذا نجا إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام من أعدائهما والأذى لهما بقوة التوكل وتحقيق التوحيد، فلما قام قوم إبراهيم (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ) [الأنبياء:68]، كانت النتيجة (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء: 69]، (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ) [الأنبياء:70]، وذلك حين قال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ومحمد -صلى الله عليه وسلم- بعد ما انصرف قريش والأحزاب من أُحد، بلغه أن أبا سفيان ومَن معه قد أجمعوا الكرة عليهم، فخرج في سبعين راكبًا حتى انتهى إلى حمراء الأسد، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، فرجع إلى مكة بمَن معه، ومر به ركبٌ من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قال: فهل أنتم مبلغون محمدًا عني رسالةً؟ قالوا: نعم، قال: فإذا وافيتموه، فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه، لنستأصل بقيتهم.
فمر الركب برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وذلك قوله سبحانه: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173) فكانت العاقبة (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران:174].
أيها المسلمون .. التوكل في حياة المسلم عملٌ وعمل، لا عجز وكسل، التوكل كما قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: التوكل جماع الإيمان.
ومن منافع التوكل: اسمع للكلمة القيّمة من ابن القيم الجوزية: "التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم".
وإذا أردت معرفة تحقيقك للتوكل، فاسمع لكلمة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- حيث قال: "التوكل على الله أن يتوكل على الله، ولا يكون في قلبه أحدٌ من الآدميين، يطمع أن يجيئه بشيء" انتهى من الآداب الشرعية.
فالتوكل دليل على قوة التعلق بالله وحده، وقوة اليقين به سبحانه
إذا انقطعت أطماع عبدٌ عن الورى | تعلق بالرب الكريم رجاؤه |
فأصبح حرًا عزة وقناعة | على وجهه أنواره وضياؤه |
وإن علقت بالعبد أطماع نفسه | تباعد ما يرجو وطال عناؤه |
فلا ترجو إلا الله في الخطب وحده | ولو صح في خل الصفاء صفاؤه |
التوكل: هو نصف الإيمان ونصف الدين، فالدين نصفان: التوكل نصف والإنابة النصف الثاني، فالدين استعانة وعبادة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، التوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة كما أفاده ابن القيم -رحمه الله-.
ومن فوائد التوكل: ما قاله في مدارجه عن صاحب المنازل: الثقة سوداء سواد العين، الثقة بالله سواد عين التوكل ونقطة دائرة التفويض، وقد قال سبحانه: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) [غافر:44]، ومَن فوض أمره إلى الله تبرأ من الحول والقوة ممَن سواه.
عباد الله مَن توكل على الله بصدق كفاه، وأزال همه وغمه وهداه، ورزقه وحفظه وكفاه، وآمنه وصرف عنه السوء وتولاه .. قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده .. وبعد:
عباد الله ومن أعظم ما يظهر التوكل قوةً وضعفا في طلب الرزق، ودخل الإنسان وعيشه وطعامه وشرابه، فالتوكل في هذا يظهر قوة الاعتماد، وصدق التفويض وحسن الظن بالله، يتبيّن عند طلب الرزق من الله.
أيها المسلم .. حسّن ظنك بربك في طلب رزقك
أحسن الظن بمَن قد عوَّدك | كل إحسان وسوَّى أودك |
إن مَن قد كان يكفيك الذي | كان بالأمس سيكفيك في غدك |
وقد روى الترمذي وأحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه عن عمر مرفوعًا "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا"، وهنا يتبين أن الرزق بيد الله يرزقه مَن يشاء، وقد قدره لعباده، وكتبه لهم وهم في بطون أمهاتهم، والله رازق هذا الخلق، وليس مخلوق بغير رزق، والله يقول: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)[هود:6]، (وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا) [العنكبوت:60]، فليس مخلوق ليس له رزق عاقلًا أو غير عاقل، مكلفًا أو غير مكلف حتى البهائم.
ولهذا يجب الإيمان الصادق، بأن الله كتب رزقك، وأن رزقك لن يأخذه غيرك، وأن رزقك لمدة أجلك، فالرزق والأجل قرينان، فما دام الأجل باقي فالرزق جاري:
لا تعجلنَّ فليس الرزق بالعجلِ | الرزق في اللوح مكتوب مع الأجلِ |
فلو صبرنا لكان الرزق يطلبنا | لكنه خُلق الإنسان من عجلِ |
فكن في رزقك مطمئنًا، ولفعل الأسباب وطلب الرزق وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا
توكلت في رزقي على الله خالقي | وأيقنت بأن الله لا شك رازقيِ |
فما كان من رزق فليس يفوتوني | ولو كان في قاع البحار العوامقِ |
سيأتي به الله الكريم بفضله | ولو لم يكن مني اللسان بناطقِ |
فلأي شيء تذهب النفس حسرة | وقد قسّم الرحمن رزق الخلائقِ |
وكيف أخاف الفقر والله رازقي | ورازق هذا الخلق في العسر واليسرِ |
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم | وللضب في البيداء والحوت في البحرِ |
فعلى العبد أن يُقوي إيمانه ويُحسن ظنه ويُصلح توكله، فالبعض يُصيبه إرجافٌ وخوفٌ وهلع وشؤمٌ وسوء ظنٍ وجزع، يخاف من الفقر والجوع، ومستقبل الحياة وهو لا يعلم متى يموت، وكأن رزقه انقطع وما له وولده ارتفع، وهذا من تهويل الشيطان، وضعف الإيمان، فربنا يقول في محكم الفرقان: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) [البقرة:268].
فتوكل على الله يرزقك من حيث لا تحتسب والرزق من عند الله، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه، ولهذا التوكل على الله سبب لإزالة الخوف والقلق والهم والحرج، وسبب لسكون القلب وطمأنينته وصلاحه وسكونه، فبعض الناس من قلة توكله يظن أن رزقه سوف يأكله غيره أو يُنقصه أو يُذهبه أو يمنعه أو يأخذه، ولهذا كتب الله الرزق للبهائم، ولمَن لا عقل له، وليس خاصًا لأحد.
ولو كان الأرزاق تجري على الحِجا | هلكنَّ إذًا من جهلنَّ البهائمُ |
فتفاءل وحسّن ظنك بربك وتوكل عليه، واحذر التشاؤم ومداخل الشيطان، وقوي إيمانك بربك، فالذي خلقك هو الذي رزقك، ورزقك كظلك يتبعك، فرزقك لن يفوت حتى تموت (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)[الفرقان:58]
الحمد لله ليس الرزق بالطلب | ولا العطايا لذي عقل ولا أدبِ |
إن قدّر الله شيئًا أنت طالبه | يومًا وجدت إليه أقرب السببِ |
وإن أبى الله ما تهوى فلا طلبٌ | يُجدي عليك ولو حاولت من كثبِ |
وليس الرزق محصورًا بسبب أو طلب، فقد يأتي من تعب وبلا تعب، ما يُغلق الله باب الرزق عن أحد إلا سيفتح دون الباب أبوابًا.
عباد الله .. هذا وللحديث بقية في الحلقة الثالثة في جمعة قادمة بإذن الله، عباد الله .. صلوا وسلموا على رسول الله فقد أمركم الله جل في علاه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وبارك وزد وبارك وسلم على نبينا محمد:
صلوا على خير العباد وسلموا | فصلاتنا ذخر لنا ووسامُ |
يا رب صلِّ على النبي محمدٍ | ما لاح برقٌ واستهل غمامُ |
والله أعلم.