الرفيق
كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...
العربية
المؤلف | عاصم محمد الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المنجيات |
المؤمنون الحقيقيون هم الذين إذا أحدقت بهم المصائب في كل مكان عرفوا أنها أقرب سبيل للانفراج؛ نعم كلما اشتدت المصيبات عرف المؤمنون أنها قناطر إلى الفرج الكبير، وكأنهم يقولون: أليس الصبح بقريب، ثقوا بالله! فوالله لو عرف اليأس طريقًا على قلب أحد لعرفته قلوب الأنبياء من شدة ما وجدوه، ولكنهم أكمل الناس يقينًا ولهم قلوب هي أوسع القلوب صبرًا. إن أحقر ذنب عُصي الله به هو سوء الظن بالله، كل أمر يمكن أن يرد في قلب المؤمن إلا سوء الظن بالله وعدم الثقة بربه،
الخطبة الأولى:
الحمد لله غافر الزلات، باسط الخير واهب للهبات، الحمد لله من سواه يختص بالحمد أمن غيره يرتجى لكشف الموبقات؟!
الحمد والشكر له والمدح والثنا له النعم الحسنى، له الكرم الأسمى، له كل ما في القلب من سابغ الرضا، وكيف وقد أغنى؟! وكيف وقد أقنى؟!، لا أحصي ثناء على ربي هو كما أثنى على نفسه، اللهم زدنا منك فضلاً، ثم زدنا منك شكرًا، فالفضل والإنعام والشكران لك، أنت الذي ما خاب عبد لاذ بك، لولاك كنت هالك فيمن هلك، لولاك كل باب موصد لمن سلك، وقد رضيت فيك ربا لا شريك لك، وقد وثقت أنه ما خاب عبد أمَّلك، فيك المرجا يا مليك كل من ملك، فالفضل منك ثم فيك ثم عنك ثم لك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبدك ورسولك، صلى الله عليه ما نادى المؤذن كل حين أشهد، وعليه صل فهو محمود وأحمد، يا رب صلّ على الشفيع المصطفى يا رب أنت المرتجى والمقصد.
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، يا أيها الناس اتقوا الله (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 2- 3]، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق:4- 5].
فاز الأشرس في الحرب، فاز الأتعس في الغرب بين يدينا زمن الرعب، فأعلن نبأ الاستسلام.
اللحظات على الإسلام تضيق، وسفينتنا تبحر نحو مضيق، والقلب من النبض يضيق، ضيق من ضيق وإلى ضيق، فأعلن نبأ الاستسلام.
هذا الموصل، هذا الشام، هذا يمن الحكمة والإسلام، هذه تهديدات الحاخام، فأعلن نبأ الاستسلام.
هذه غزة أم ذي بورما أم حلب هذه أم ذي دومة، الأعداء تحاصر دارك من كل مكان تحترف الإجرام مع الإجرام، فأعلن نبأ الاستسلام.
لا تعلن نبأ الاستسلام، فالله أكبر مما أعلن البشر، والله أكبر مهما استهتر الشرر، إن تصطلي نارها، فالله يخمدها أو تنكفئ قدرة فالله مقتدر.
من يرى هذه الأحداث التي تلد بعضها، وتبيض شياطين جديدة، يظن أن هذا التنور العالمي مقبل على خبز جديد مادته من لحوم البشر.
صيحات ونداءات، وانتخابات وانتحابات، وشلالات دماء تجري لا فرق عن الصبح من العصر، فالأوقات سواء فيما يجري.
هذا الكوكب الذي يتوحش على كل قُطر منه، ويصنع من كل بقعة طاهرة جريمة لا يرفعها الاغتسال.
نهر من القهر يجري في مرابعنا بلا شموخ.. بلا كبر.. بلا بطل.
ما مات فيه عدوي.. مات فيه أخي بطعنة من أخي.. مسمومة القُبَل.
مازال يجري.. وتسقيه العروق طلاً فالأرض ترقص في عرس بلا جذل.
نهر من الدم فامشي فيه وارتشفي حتى الثمالة.. يا أضحوكة الدول!!
ابن رواحة يقول: "والله لولا الله ما اهتدينا"، ونحن نقول معه أيضًا ونقول: والله لولا الله لاهتبلنا، وطارت العقول منا، ثم طرنا، وكذب العاقل ما تبنى، وجاست الأحلام منا وهنًا، ونسي العاقل ما قد تمنى.
أحداث يرتعش لها الجديدان، ونغمتها موحشة على سمع الزمان، أسهل شيء في هذه الأيام أن تستسلم لصرخات الشيطان باليأس، أن يعلمك الإحباط من أحداث هذا الكوكب الذي يلد الغرائب المتنوعة في أسواق السُكر العقلي العالمي.
من يرى هذه الأحداث يظن أن الإسلام تُكتب فصوله الأخيرة على أيدي أعدائه المجرمين الظالمين، والذي يبصر هذا الحصار الذي ينمو على عواصم الإسلام حتى يلتهم المدائن واحدة فواحدة، ومن يبصر حجم التطرف الذي تصنع سياسيته في المطابخ العالمية بكل انتظام واحتراف يظن أن هذه الأمة موعودة باستباحة البيضة.
وقد قضى الله وقدَّر أن الله لن يُسلط على هذه الأمة عدوًّا من سوى أنفسها يستبيح بيضتها، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها.
هوِّن عليك فلا هناك ولا هنا
هوِّن عليك الله قدرنا لكي تثق
أعظم أوقات الثقة بالله العظيم هي في زمن استحكام الشيطان على عمليات إدارة اليأس في القلوب، لا ينبلج الفجر حتى يحتلق السحر.
دروس الأحداث كثيرة جدًّا، لكن من أعظمها تجديد ما تآكل من معنى الثقة بموعود الله، أعظم هذه الأمة ضميرًا هم أولئك الذين تحلك الليالي في عيونهم، فيرون شرفات النور تقول لهم: الله موجود يراكم، إنه علام ما في الغيب وهو حكيم.
ما أكثر تلك اللحظات الوجودية التي كنا نقول فيها: إن الإسلام سيزول وإن الإسلام إلى زوال فإذا الشياطين تزول والإسلام باقٍ.
اذكروا معي يوم الخندق كان المنافقون يقولون وهم يسمعون النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشر بفتح الشام وبفتح فارس والروم وبانجلاء الغمة عن هذه الأمة، فإذا بالمنافقين يقولون وهم يسمعون ذلك: والله (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) [الأحزاب: 12].
فما هي إلا سنتان حتى أنزل الله -عز وجل-: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) [الفتح:1]، وما هي إلا عشر سنين حتى فُتحت الروم، وما هي إلا خمسة عشر عامًا حتى فُتحت فارس، تتساقط القلعات والسكنات والشرفات حين نقولها "الله أكبر".
ومن الذي باع الحياة رخيصة
أم من رمى نار المجوس فأطفئت
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب
جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا
فثق بالله ليس ليه شريك وعقبى دين ربي الاعتلاء..
اذكروا معي يوم الغار كان هو وصاحبه متجهين نحو تلك السكنة البعيدة، يتقي بها استطلاعات الكفار، ويفر بنفسه وبدعوته إلى أرض الله، يدخل هو وصاحبه غارًا ملأته العناكب والعقارب والحيات، ويجلسان متعبين منهكين في لحظات الهرب، يجلسان من التعب، وأحدهما يسند رأسه في حجر الآخر فيقول الآخر له ها قد حضر العدو: والله لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا فيقول له الآخر: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"!!
فما هي إلا ثلاثة عشر عامًا حتى يقود أحد الرجلين حربًا فاصلة معلنة على كل مَن خرج عن دين الله، ورضي الانفصال عن مضمار الإسلام، وخرج قيد أنملة عن تشريعات صاحبه الآخر، ومنع شيئًا من الزكاة كانت تؤدى إلى الفقراء.
فثق بالله ليس له شريك، وعقبى دين ربي الاعتلاء.
اذكروا معي يوم الحديبية جاء عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يوم الحديبية وقد كتب المسلمون بينهم وبين قريش ميثاقًا وعهدًا، وكأنهم رأوا فيه غضاضة، فقال عمر -رضي الله عنه- متعجبًا مندهشًا لرسول الله: يا رسول الله ما لنا نعطي الدنية في ديننا أنعطي الدنية في ديننا يا رسول الله؟
ثم كررها له، ثم كررها لأبي بكر -رضي الله تعالى عنه- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يزيد عليه بقوله: "إنه الله يا عمر! إنه الله يا عمر! ولن يضيعني، إنه ربي ولن يضيعني".
سبحانه الله! ما لذت به سبل إلا وقاها الردى، فاجتازت السبل، ثقوا بالله فإلى الله ترجع الأمور، وليس لمهازيل ضعاف عزل عن كل قوة.
ثقوا بالله، فلقد جاء رجل من المشركين إلى معسكر المسلمين بعد هزيمة أُحد مكسورين مكروبين منكوبين ثم ينادي عليهم قائلاً: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ) [آل عمران:" 173]، هزيمة في أُحد وقروح وكفاح وجراح وقتلى لصفوة خير خلق الله، ثم يعقبه التهديد والوعيد، ما أشدها على النفس البشرية!
ثم ترى بعد ذلك كله، وقد رأيت المسلمين يهتفون حسبنا الله ونعم الوكيل:
فما وجفت تلك القلـوب ولم تكـن
رجـال رسا الإيمان ملء نفوسـهم
ولا الموت مكروه على العـز ورده
تداعـــوا فقالوا حسبنا الله إنـه
يا أيتها الأمة المكولمة والمحرومة والمكروبة! ثقي بالله ليس له شريك، وعقبى دين ربي الاعتلاء، (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:141].
أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم اللهم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: خاصية ظلمة الليل التي يمر بها هذا العالم اليوم هي افتتاح ظني لقوة جديدة من النور، ولقد كان الأول خبيرًا حين قال:
اشتَدَّي أزمَةُ تَنفَرِجي
لا أظن حادثة تقع على هذه الأمة في مثل هذا الزمن إلا وقد حدثت أمثلتها في عهد النبوة، وكأن الله يهيئ الأمثلة في عهد رسوله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا حصل ما يشبهها في زماننا قلنا: الله يعيد التاريخ، ثم روينا من الاستلهامات القديمة، ثقوا بالله فهو شديد المحال..
المؤمنون الحقيقيون هم الذين إذا أحدقت بهم المصائب في كل مكان عرفوا أنها أقرب سبيل للانفراج؛ لأن الله -عز وجل- يقول في سورة الشرح: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5- 6].
نعم كلما اشتدت المصيبات عرف المؤمنون أنها قناطر إلى الفرج الكبير، وكأنهم يقولون: أليس الصبح بقريب، فاشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج.
ثقوا بالله! فوالله لو عرف اليأس طريقًا إلى قلب أحد لعرفته قلوب الأنبياء من شدة ما وجدوه، ولكنهم أكمل الناس يقينًا ولهم قلوب هي أوسع القلوب صبرًا.
ثقوا بالله، فلقد أوذي في الله نبيّ من الأنبياء إلى حد يقول معه: (يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ) [يونس:71].
ثقوا بالله! فلقد حاصَر العدو نبيًّا من الأنبياء بعدما ركضوا خلفهم بجنودهم، ثم ألجئوه إلى شط بحر كبير في موقف قمطرير ومفزع خطير، فقال ذلك النبي والبحر أمامه والعدو خلفه والأتباع قليل، ونقمة العدو منتظرة قال مجيبًا حين نادوه: يا موسى إنا لمدركون سيدركنا العدو لا محالة، فقال موسى عليه السلام (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].
سبحان الله جرى قدر من
والله! إنه لا سبيل على القلوب إلا ما تزفه الشياطين عليها، أما الله فقد قضى وقدر وقال: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ) [الزمر: 36- 37]، بلى إنه عزيز ذو انتقام.
يبتلي الله الأمة بالهزيمة لكي تثق به، فتجتمع على حبله ثم ينصرها، ويبتليها إذا قطعت بينها وبين حبائل العودة إليه حتى تأخذ بخطامها وزمامها إلى مرضاته.
إن أحقر ذنب عُصي الله به هو سوء الظن بالله، كل أمر يمكن أن يرد في قلب المؤمن إلا سوء الظن بالله وعدم الثقة بربه، ولقد قال الله -عز وجل-: (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) [الحج:15]؛ أي: من كان يزعم أن الله ليس ناصرًا دينه ولا رسوله فإنا نرشده إلى أن يأخذ حبلاً ثم يربطه بخشبة على سقف بيته، ثم يشد على عنقه ثم ليقطع الحبل ثم لينظر بعد هذه العملية الانتحارية هل يذهب عنه غيظه أم لا؟
لقد أكد الله نصره لأوليائه فقال: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر: 51- 52].
وقال تعال: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171- 173]، وقال جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ..) [المجادلة:5]، وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21].
في أضيق مراحل الحصار على أهل الإسلام في مدن الإسلام وبعد قدوم هذا الجثوم التتاري الذي يفترس البلدات والقرى والمعاقل والحصون واحدة فواحدة، سقطت الخلافة العباسية لتكون هذه الظاهرة التترية طاعون العصر السابع الهجري، ولقد ظن الناس به أنه لن تقوم للإسلام قائمة بعد ذلك، فإذا نور يشع من الشام يقوده مماليك يباعون ويشترون، لكنها صيحة وإسلاماه، وهي تلتهم الآفاق مستجيبة شعارها الله قبلكم اشترى إن كنا مماليك.
وحين سقطت دولة بنو أمية في الأندلس، وانقسمت عشرين دولة، وكادت شمس الإسلام اللامعة أن تتقبل العزاء في معاقل الإسلام الأخرى، فإذا رجل مرابط من المرابطين أعجمي ليس بعربي يقول له يوسف بن تاشفين، يقود معركة الغرب في إسبانيا ضد ألفونسو النصراني ليفسح من عمر الدولة الإسلامية في الأندلس قرون عديدة..
ثقوا بالله ليس له شريك، وعقب دين ربي الاعتلاء..
إذا بليت فثق بالله، وارض به
والله ما لك غير الله من أحد
لم تنتصر هذه اليوم يومًا بعدد ولا عُدة ولا عتاد، وإنما انتصرت بإيمانها وبحسن ظنها وثقتها بربها، ويقينها أن هذه الأمة عصية على الاستباحة.
يا عزاء المصابين والمنكوبين! وعزاء المسحوقين بالله العظيم! إنهم لفي عزاء يسليهم عن كل عزاء، كل المصائب قد تمر على الفتى فتهون غير تخلخل الإيمان.
أخرج الطبري وأحمد في الزهد وهو حديث حسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرُها بالبخل والأمل".
وعن زيد بن أسلم -رضي الله تعالى عنه- عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يقول وهو عند حفصة ابنته: "اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك -صلى الله عليه وسلم-"، فقالت حفصة لعمر: كيف تريد يا أبتاه شهادة في بلد رسول الله في المدينة أيقتحمها الأعداء؟ فقال عمر -رضي الله تعالى عنه- "يا حفظة يأتيني به الله إذا شاء".
وواثقون برب لا يضيعهم
إن هذه الثقة البالغة الشامخة هي التي أهَّلتهم بتوفيق الله إلى أن يكونوا كما قال الله -عز وجل- في سورة الأحزاب: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].
وفي الصحيحين وغيرهما عن جابر بن عبدالله -رضي الله تعالى عنه- "أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قِبِل نجد فلما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الغزوة قفل الناس معه، فأدركتهم القافلة في وادٍ كثير الشجر، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة فعلق بها سيفه، ثم قال جابر بن عبدالله: ثم نمنا نومة فبينما هو كذلك إذ جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوني ومعه أعرابي من الأعراب فذكر لنا عليه الصلاة والسلام خبره أنه حين كان مستظلاً بشجرة جاء هذا الأعرابي وأخذ سيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم شهر السيف وأسلطه، وقال: يا محمد! من يمنعك مني؟ فقال له -عليه الصلاة والسلام- بلغة المؤمن الصادق المستيقن قالها ثلاث: "الله"، فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السيف من هذا الأعرابي، وقال للأعرابي: من يمنعك مني يا أعرابي؟ فقال الأعرابي: كن خير آخذ يا محمد، فعفا عنه -صلى الله عليه وسلم- (متفق عليه).
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) [الروم:60].
هل عرفت الآن؟ نعم! فالله حق، والوعد حق، فلا يستخفنك أيها المؤمن ويزعزع ثقتك في مولاك أقوام لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا.
اللهم املأ قلوبنا ثقة بك ويقينًا بموعودك، وعلق رجاءنا بوعدك..