العربية
المؤلف | ناصر القطامي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
التغافل ليس ضعفاً في الشخصية، أو خَوراً في النفس، أو وهْناً في القوة، بل هو من سمات كمال الشخصية، وسمو الذات، وتمام الثقة؛ إذ إن المتغافل ينطلق من أبعاد شرعية، ومبادئ دينية، دافعه في ذلكم كسب القلوب، وتوحيد الصفوف، واجتماع الكلمة، فالنفوس الشامخة، لا تنشغل بتُرّهات الأمور، وسفاسف الأفعال والأقوال، بل سمو في التفكير، وطموح في الآمال، وعلوٌّ في السعي نحو الكمال، ولذا كان التغافل أدباً راقياً، وخُلقاً سامقاً، رسَّخ مبادئه النبي المحمّدي، وأرسى دعائمه بتعامله المصطفوي "عليه الصلاة والسلام".
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
أيها المؤمنون المباركون: في نشأة الإنسان وتكوينه غريزة فطرية، وخصلة جِبِلّية، تدفعه لمخالطة الآخرين، والاستئناس بهم، وما سُمِّي الإنسان إنساناً إلا لأنه يأنس بنوعه، ويأنس بغيره، ويأنس به غيره، فهو بطبيعته يستوحش من الانعزال والوحدة، ومع كثرة المخالطة بين البشر تقع بينهم هنّات وزلات، منها ما يكون ناشئ عن زلة غيرَ متعمدة، ومنها ما يكون مقصوداً لإساءة أو إلحاق ضرر ونحوه.
وتتفاوت مواقف الناس مع أخطاء الآخرين وإساءاتهم فمنهم:
- من يستعظم تلك الإساءة، فيضخّمها وينفخ في نارها، فيزداد لهيبها، حتى تنضج فيحرق نفسه ومن حوله بها، فتنقطع العلاقات، ويُوأد التواصل.
- ومنهم من إذا بلغته زلة أو إساءة عن أيّ أحدٍ ما عفا وسامح وصفح، لشهامة نفسه، وكرم ذاته.
- وصنف "وهم محور حديثنا" من يتعمّد التغابي عن الزلات، ويتعامى عن الهفوات، ويتقصّد غض الطرف والإعراض عنها؛ ليقينه بأن كل أحد مُعرّض للضّعف الجِبلِّي، والنّقص البشري، فهو يَعمد إلى ذلك رغبةً في استمرار عجلة الحياة، ومدّ حبل وصل الوُد بمن حوله.
والتغافل ليس ضعفاً في الشخصية، أو خَوراً في النفس، أو وهْناً في القوة، بل هو من سمات كمال الشخصية، وسمو الذات، وتمام الثقة؛ إذ إن المتغافل ينطلق من أبعاد شرعية، ومبادئ دينية، دافعه في ذلكم كسب القلوب، وتوحيد الصفوف، واجتماع الكلمة، فالنفوس الشامخة، لا تنشغل بتُرّهات الأمور، وسفاسف الأفعال والأقوال، بل سمو في التفكير، وطموح في الآمال، وعلوٌّ في السعي نحو الكمال، ولذا كان التغافل أدباً راقياً، وخُلقاً سامقاً، رسَّخ مبادئه النبي المحمّدي، وأرسى دعائمه بتعامله المصطفوي -عليه الصلاة والسلام-.
أيها الكرام: في كتاب الله الكريم، يضرب الله لنا مثلاً لتغافل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بعض زوجاته؛ حيث قال تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) [التحريم: 3], فقد أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- حفصة -رضي الله عنها- سرّاً, وطلب منها ألا تذكره لأحدٍ فذكرته لعائشة -رضي الله عنها-؛ فأطلعَ اللهُ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- على الأمر.
فعاد عليها في هذا، وذكر لها بعض ما دار بينها وبين جارتها دون استقصاء لجميعه, تمشياً مع أدبه الكريم -صلى الله عليه وسلم-.
فالمسلم يتغافل عن هفوات المسلمين كلهم، فلا يتوقف عند كل صغيرة وكبيرة، وهذا ولا شك لا يتنافى مع التوقف عند حدود الله تعالى، بل شعار المؤمن في ذلك كما قال الله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص: 55].
وما يزال التغافل عن الزلات من أرقى شيم الكرام؛ ولذا كان لزامًا على كل عاقل أن يتغافل عن بعض الأخطاء والزلات، وأن يسعى في استصلاحها، ومناصحة أصحابها، دون أن ينقطع حبل المودة، وقد قيل: "تناسَ مساوئ الإخوان تستدم ودّهم".
وهذا النبي القدوة، والرسول الأسوة -صلى الله عليه وسلم- يتمثّل هذا الأدب العظيم فيقول لأصحابه: "لا يبلِّغني أحد عن أحد شيئًا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".
فلم يكن النبي-عليه الصلاة والسلام- يتتبع زلات أصحابه، أو يفتّش عن أخطائهم؛ بل كان ينهى عن التجسس، وتتبع العورات، وتفسير المقاصد، ولا يقبل أن يُنقل إليه شيء عن أحد من أصحابه؛ حتى يبقى سليم الصدر، محبّاً للجميع.
فالذي يتغافل عن الزلات يعيش محبّاً لمن حوله، محبوباً منهم، سليم الصدر من الأحقاد والأضغان؛ ولهذا كانت العافية كلها في التغافل.
قال بعض الحكماء: "وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل".
وفي وصف عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- لصفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّابٍ في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح" (أخرجه البخاري).
الإعراض عما يقع، يتمثّل في تجاهل زلة القول، والعفو عن خطأ الفعل، وصرف النظر عن الأمر المحرج الخارج عن الإرادة وتناسيه وتجاهله، واعتبار أنه لم يحصل، كالتنويه عن أمر آخر خارج الموقف المحرج بقصد صرف الأنظار عنه.
ومن أمثلة ذلك: ما رواه أبو علي الدّقاق: حيث جاءت امرأة فسألت حاتم الأصم عن مسألة، وأثناء السؤال صدر منها صوت خجلت منه، قال حاتم: ارفعي صوتك، فأوهمها أنه أصمّ، فسُرَّت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت فلُقِّب بحاتم الأصم، وهو ليس بأصمّ، بل تظاهر بأنه ضعيف السمع، مما أوحى للمرأة بأنه أصم، مراعاة لمشاعرها، ولأجل أن لا يوقعها في الحرج.
أيها الكرام: التغافل أدب إسلامي، وخُلق كريم، ونمط من أنماط التربية الإسلامية، وهو مبدأ يأخذ به العقلاءُ في تعاملهم مع سائر من حولهم، ومع من يخالطون من أولادهم وأزواجهم وأقربائهم وأصدقائهم، فالعاقل لا يستقصي، ولا يُشعر من تحت يده، أو من يتعامل معه بأنه يعلم عنهم كل صغيرة وكبيرة؛ لأنه إذا استقصى، وأشعرهم بأنه يعلم عنهم كل شيء ذهبت هيبته من قلوبهم. ثم إن تغافله يعينه على تقديم النصح بقالب غير مباشر، انطلاقا من الهدي النبوي في إسداء النصيحة كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع في نصيحته بقوله: "ما بال أقوام".
وغالبا ما يكون ذلك أبلغ وأوقع.
قيل للإمام أحمد –رحمه الله-: "العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل". فقال: "العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل".
وقال سيد التابعين الحسن البصري: "ما زال التغافل من فعل الكرام".
وقال ابن المبارك: "المؤمن يطلبُ المعاذير، والمنافق يطلب الزلات".
وليس التغافل عن الزلات دليلاً على غباء صاحبه وسذاجته؛ بل هو العقل والحكمة، كما قال معاوية -رضي الله عنه-: "العقلُ مكيالٌ، ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل".
وقال الشافعي -رحمه الله-: "الكيّس العاقل هو الفطن المتغافل".
ففَرْقٌ بين أن تقصد الغفلة وبين الغباء، فالأول محمود، والثاني مذموم، كما قال الأول:
ليس الغبيُّ بسيِّدٍ في قَوْمِهِ | لكِنَّ سيِّدَ قومِهِ الْمُتَغَابِي |
ومن تتبع سير العظماء وجد أن من أعظم صفاتهم التغافل، قال ابن الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي: "وكان صَبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يُعلمه بذلك، ولا يتغير عليه".
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
إن للتغافل فوائد جمّة، وثمراتٍ عدة، ومن أعظمها أنه يُكسِب صاحبه راحةً في نفسه؛ قال ابن حبان -رحمه الله-: "من لم يعاشر الناس على لزوم الإغضاء عما يأتون من المكروه، وترك التوقع لما يأتون من المحبوب كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة، والبغضاء أقرب منه أن ينال منهم الوداد وترك الشحناء".
ولقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثالاً عظيمًا على ذلك، كما في البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن المشركين كانوا يسبون النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مُذَمَّمَاً، ويلعنون مذمماً، وأنا محمد"! مع علمه -عليه الصلاة والسلام- أنه المقصود في ذمّهم.
أما من كان يقف عند كل كلمة، ويرد على كل تهمة، ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة، فهو أكثر الناس شقاء، وأشدهم نكداً، كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: "مَن لم يتغافل تنغّصت عِيشته".
كم من مشاكل وقعت في المجتمع كان سببها عدم التغافل! كم وقع بين الزوجين أو بين الأقارب والأصحاب من مشاكل كان سببها تقصّي بعضهم على بعض وتتبع الأخطاء والبحث عن المقاصد! ولو أنهم رُزقوا التغافل لزال عنهم شرٌ كثير، كما قال الأعمش -رحمه الله-: "التغافل يطفئ شرّاً كثيراً".
ومن الفوائد أيضًا: أن التغافل من صفات عباد الرحمن، كما قال الله في وصفهم: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63]، وانظر إلى أبي بكر -رضي الله عنه وأرضاه- يوم أن سبَّه رجلٌ فردَّ عليه قائلاً: "إنَّ سبَّك يدخل معك في قبرك، ولا يدخل معي في قبري".
والتغافل من علامات الحكمة، فالحكيم هو من يتغافل عن أخطاء غيره، فالتغافل من الكياسة التي تُستمالُ بها القُلوب ويخبُو بها العَتب ويعلو الأدب، وتُنالُ الرُتب.
والعاقل المُتدبر هو من امتثل قول الله عن نبيه يوسف - عليه السلام -: (قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ) [يوسف: 77].
ثم صلوا..