الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | هشام عبد القادر آل عقدة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
إن المؤمن إذا كان في قلبه حياة ليستحيي أن ينصب من نفسه حكمًا على رجل أكثر منه طاعة أو علمًا، وإذا شعر من نفسه بأدنى تقصير فإنه يحقر نفسه أن ينقد عامة الناس -فضلاً عن المتمسكين- وإذا أدرك من نفسه كسلاً في تعلم أمر ودراسته فإنه يخجل ويتورع عن معارضة من يتحدث في ذلك الأمر عن علم ودراسة.
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
إخوة الإسلام: من الاعتقادات الخاطئة عند عدد غير قليل من الناس أن التمسك الكامل بالإسلام هواية من الهوايات يحاول ممارستها بعض الناس وليس أمرًا مطلوبًا من الجميع السعي إليه، ولا أقصد بالتمسك الكامل بالإسلام أن لا يقع الإنسان أبدًا في خطأ أو معصية، فهذا لا يمكن؛ لأن كل بني آدم خطاء، وإنما أقصد بالتمسك الكامل بالإسلام قبول شرائع الإسلام كلها؛ فرضها ونفلها, والحذر من مخالفتها, والحرص على الالتزام بها..
أما المعارضون للتمسك الكامل بالإسلام فهم يتبرمون من التزام كثير من أحكامه ابتداءً, ويرون أنها مشقة, وتارة يقولون: تلك أمور للرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وليست لنا، وتارة يقولون: تلك الأمور قشور ومظاهر.. (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 9]. ولو صلح باطنهم لصلح ظاهرهم, وإذا صلح القلب صلح الجسد كله.
ثم هؤلاء الذين يتبرمون من التمسك الكامل بالإسلام ويأخذون بعض الدين دون بعض ينقسمون في نظرتهم إلى المتمسكين إلى قسمين: قسم يرى هؤلاء المتمسكين أهل خير طيبين, ولكن لا يجب أن يكون بقية المسلمين مثلهم. وقسم آخر متكبر متبجح يزعم أن هؤلاء المتمسكين متطرفون لا يفهمون الدين، وهؤلاء المغرورون المتبجحون ينصبون من أنفسهم حكامًا على الناس. فبدلاً من أن يستحيوا من إعراضهم عن تعلم دينهم ومن تقصيرهم ومعاصيهم ومن تميعهم ودياثتهم، بدلاً من ذلك إذا هم يظنون أنفسهم أرجح عقولاً، وأعلى مكانة من أولئك المتمسكين بدينهم وسنة نبيهم -صلوات الله وسلامه عليه- بل ويصرحون من جهلهم أنهم أفضل عند الله من أولئك المتمسكين, وهو أمر لا يجوز لأتقى الأتقياء أن يقطع به لنفسه.. فيا لألم القلب من جهال يتكلمون في شأن علماء, ومن أقزام مائعين يتحدثون في شأن رجال طائعين.
إن المؤمن إذا كان في قلبه حياة ليستحيي أن ينصب من نفسه حكمًا على رجل أكثر منه طاعة أو علمًا، وإذا شعر من نفسه بأدنى تقصير فإنه يحقر نفسه أن ينقد عامة الناس -فضلاً عن المتمسكين- وإذا أدرك من نفسه كسلاً في تعلم أمر ودراسته فإنه يخجل ويتورع عن معارضة من يتحدث في ذلك الأمر عن علم ودراسة. ولكن ماذا تقول لموتى القلب الذين طبع على قلوبهم؟!
وما لجرح بميت إيلام
نعم.. قطاع عريض من الناس لا يبالون بتميُّعِهم تجاه أمور دينهم, واستساغوا نقد المتدينين ونبزهم بالألقاب، وكثيرًا ما يقول مُدَّعو المشيخة منهم: ماذا تريدون من الناس أكثر من أن يصلوا ويصوموا؟! ونقول لهذا: أفقْ لنفسك, فلسنا نحن الذين نريد من الناس، ولكن الذي خلقهم وشرع لهم الدين هو الذي يريد منهم؛ فهو القائل في كتابه المحكم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة: 208], أي ادخلوا في الإسلام كله بجميع شرائعه وأحكامه، ولا تأخذوا جزءًا وتهملوا الآخر, وهو القائل -جل وعلا-: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 32], فلله -عز وجل- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- أحكام في كل شيء من أمور الدين والحياة، ولله -عز وجل- حدود في كل شيء لا يجوز تعديها: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) [النساء: 14].
فإن قلت: أنتم دائمًا تخوفوننا من أعمالنا وتقولون: هذه معصية وتلك معصية, وتخوفوننا بالنار. قلت لك كما قال الحسن البصري لما جاءه رجل فسأله: يا أبا سعيد، كيف تصنع بمجالسة أقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تنقطع؟! فقال: والله لأن تصحب أقوامًا يخوفونك حتى تدرك أمنًا، خير لك من أن تصحب أقوامًا يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف.
وهذا أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكبائر.
ورحم الله ابن المبارك إذ يقول: لو أن رجلاً اتقى مائة شيء ولم يتَّقِ شيئًا واحدًا لم يكن من المتقين، ولو تورع عن مائة شيء ولم يتورع عن شيء واحد لم يكن ورعًا. ولعله لا يقصد أن يقع العبد المتقي أحيانًا في خطأ أو ذنب؛ فكل بني آدم خطاء، ولكنه يقصد أن يكون ديدنه وعادته عدم التورع عن شيء ما وعدم اتقائه, كأن يتعمد ارتكاب شيء ما يتوقع فيه الإثم أو المخالفة الشرعية.
وربما اتقى بعض الناس الذنوب الكبيرة ولم يبالِ بالذنوب الصغيرة، وهو أمر خطير جدًّا يفسد القلب فسادًا عظيمًا، وينتقل به من حال إلى أسوأ، إلى أن يموت القلب تمامًا، فلا يتحرج من أعظم الذنوب:
خل الذنوب صغيرهـا
يقول الفضيل بن عياض -رحمه الله-: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله.
فالاستهانة بالمعصية مهما كانت صغيرة أمر خطير أيها المسلمون؛ لأنها استهانة بجلال الله وعظمته، كما قال هلال بن سعد -رحمه الله-: لا تنظر إلى صغر الخطيئة, ولكن انظر إلى من عصيت.
وقال بشر الحافي: لو تفكّر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه.
فالمؤمن -إخوة الإسلام- دائم الخوف من معاصيه ومن أقل أخطائه، بعكس المنافق؛ لا يخاف معصيته ولا يتفقد نيته، ويغتر بستر الله عليه أو ثناء الناس؛ قال بعض السلف: رب مستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم، ورب مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم، ورب مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم.
وقال الحسن -رحمه الله-: المؤمن من يعلم أن ما قال الله -عز وجل- كما قال، والمؤمن من أحسن الناس عملاً، وأشد الناس خوفًا، لو أنفق جبلاً من مال ما أمن دون أن يعاين، لا يزداد صلاحًا وبرًا وعبادة إلا ازداد فَرَقًا، يقول: لا أنجو، لا أنجو. والمنافق يقول: سواد الناس كثير، وسيغفر لي، ولا بأس عليّ، يسيء العمل، ويتمنى على الله تعالى.
وقال أيضًا: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وَجِلٌ خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن. وقال أيضًا: ما خافه -أي النفاق- إلا مؤمن, ولا أمنه إلا منافق.
فإلى كل جريء على المعاصي، وإلى كل متميع لا يعمل بأمر الله -عز وجل- القائل: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة: 63].. إلى كل من يأخذ من الدين ما يهوى ويترك ما يثقل عليه.. إلى كل مغرور يسيء العمل ويظن أنه سيستوي عند الله مع من حرص على التمسك الكامل بدينه، متحملاً في سبيل ذلك ما يصيبه: هيهات هيهات لا يستوون عند الله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [الزمر: 9]، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47]، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص: 27]، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص:28]، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) [ص: 29].
قال مسروق رحمه الله: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية: 21]. ويقول -جل وعلا- بعد هذه الآية: (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الجاثية: 22].
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وأحسنوا العمل، بل وأحسنوا السرائر التي في الصدور, وأخلصوا لله -عز وجل- فإنه ما أسرّ أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية, إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وما أجمل ما نقل عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه حين- قال: "أيها الناس: اتقوا الله في هذه السرائر"، ثم قرأ قوله تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) [الأعراف: 26].. ثم قال: السمت الحسن. يقصد أنه هو لباس التقوى الذي يكسوه الله المتقين.. ذلك من آيات الله.
فتفقدوا سرائركم، وتأملوا أحوالكم في السر بعيدًا عن الناس كيف تكونون؟! يقول سمرة بن جندب -رضي الله عنه-: من سرّه أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده، ومن سرّه أن يعلم مكان الشيطان منه فلينظره عند عمل السر.
ألا رحمة الله على الصحابة الكرام والسلف الصالحين؛ كان عندهم من الخير في السر وبعيدًا عن الناس أضعاف ما لهم من الخير في العلانية، وما أرقّ ما قاله الحسن -وما أجدر أن نحزن على أنفسنا تأثرًا منه- إذ يقول في حال رجال الصدر الأول من هذه الأمة: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في سر فيكون علانية أبدًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم -عز وجل-، ذلك أن الله -عز وجل- يقول: ادعوا ربكم تضرعًا وخفية. وذلك أن الله تعالى ذكر عبدًا صالحًا ورضي قوله فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً) [مريم: 3].
فتأملوا -إخوة الإسلام- كيف كان حال سلفنا مع الله, وكيف كان صفاء قلوبهم وإخلاصهم وحبهم للطاعة, وكيف أصبحنا تثقل علينا الطاعات خاصة في السر، قال ابن المبارك: إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوًا، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا إلا على كره ينبغي أن نكرهها. قلت: ويا ليتنا نكرهها؛ إننا -مع الأسف- لا نريد أن نغير شيئًا من واقعنا وحالنا، كل منا قنع بما هو عليه، وقسا قلبه، ولم يبالِ بتقصيره وتفريطه، فإلى متى سنظل على هذه الحال؟! ألم تسمعوا قول مكحول -رضي الله عنه-: كنا أجنة في بطون أمهاتنا، فسقط منا مَنْ سقط، وكنا فيمن بقي، ثم كنا مراضيع، فهلك منا مَنْ هلك، وكنا فيمن بقي، ثم صرنا يفعة، فهلك منا مَنْ هلك، وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شبابًا، فهلك منا مَنْ هلك، وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شيوخًا -لا أبا لك- فماذا بعد هذا تنتظر؟!
إذا عـاش الفتـى ستيـن عامـاً
فاحذروا الغفلة -إخوة الإسلام- وكفانا إهمالاً وتسويفًا, وامتثلوا قول الله -عز وجل-: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة: 63]، وقوله: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 170]. وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
الخطبة الثانية:
إن الذي يحرص على التمسك الكامل بدينه في كل زمان يواجه أناسًا وظيفتهم فتنة الناس وصدهم عن دينهم، وذلك من إرادة الله في اختبار عباده وتمحيص إيمانهم بالابتلاء، وليعرف كل إنسان على حقيقته؛ قال الحسن -رحمه الله-: قد والله رأيناهم يتقاربون في العافية، فإذا وقع البلاء تباينوا.
فأما المؤمنون الصادقون الأقوياء فيقولون كما قال مؤمنو بني إسرائيل لفرعون: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) [طه: 72-76].
وأما الجبناء الضعفاء، الذين يعبدون الله على حرف، والذين لا يريدون من التمسك بالإسلام إلا مظهره والسهل منه، فإن الجبن لا يدع لهم عقلاً يزنون به الأمر, بل يفتدون الضرر اليسير في الدنيا بالعذاب الماحق في الآخرة.
وقد يعترض معترض فيقول: إننا لن نترك الدين، ولكننا سنترك التمسك ببعضٍ منه؛ حتى لا يصيبنا ضيق أو أذى. فالجواب أن كلمة (بعض) لا تعرفها لغة الشيطان ولا خطته, وما هي إلا مفتاح السقوط في شبكة حزب الشيطان، فالذي تزل قدمه عن درجة من درجات السلم لا يضمن أن يستقر على درجة بعدها، بل العادة كما نرى جميعًا أنه يظل يضطرب ويتخبط، أو ينقلب ويهوي، حتى يتكوَّم أسفل السلم.
فالمؤمن البصير القوي لا يقبل المساومة على دينه أو التفريط فيه؛ إيثارًا للعاجل على الآجل؛ فهو يعلم أن الدرجات العلى عند الله -عز وجل- لها ضريبة ينبغي أن يتحملها المؤمن راضيًا عزيزًا شامخًا. وقد قرأت أبياتًا من الشعر الذي سجله التاريخ -وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة"- أبياتًا يسلِّي فيها الشاعر علي بن الجهم -رحمه الله- كل من يسجن بغير حق، وهي أبيات تثير في نفس المؤمن اعتزازه بنفسه وبدينه واحتقاره لأعدائه، فإلى كل أخ يتعرض للحبس أهدي هذه الأبيات:
قالت: حُبِستَ، فقلت:
ليس بضائرٍ | حبسي، وأي مهند لا يغمد |
أي سيف لا يدخل في غمده، وأي عار عليه في ذلك.
أوما رأيت الليث يألف غِيله
نعم.. فالأسد يكون في داخل عرينه في عزة، والسباع الحقيرة الضعيفة تروح وتغدو خارج العرين.
والشمس لولا أنها محجوبة
فالنجم الصغير لا يمكن أن يظهر إلا في غياب الشمس ذات الضوء الساطع العظيم؛ لذا يحرص الحاقدون على تغييب الشمس ليظهروا هم.
والبدر يدركه السرار فتنجلي
فكما يتجدد البدر بعدما كان هلالاً، فالمحبوس يظهر مرة أخرى متجددًا كالبدر.
والنار في أحجارها مخبوءة
فكما أن النار لا تنبعث شرارتها من الحجر إلا بعد استثارتها وضربها بالزند، فكذلك يتوقد المؤمن حماسًا، وتتوهج فيه شعلة الإيمان، وتتفجر طاقات القوة فيه بالحبس.
والزاعبية لا يقيم كعوبها
فالرماح المستوية لا تصح هكذا إلا بعد الحك والقطع والإحماء في النار, وهكذا يقوم اعوجاج الإنسان، وتستقيم الصحوة الإسلامية كلها وتزداد قوة وانتشارًا بالابتلاءات, كما يشهد بذلك التاريخ.
ولكل حال معقب ولربما
فهذا الذي تظنه مكروهًا قد يظهر لك بعده خير عظيم وأمور محمودة تترتب عليه.
كم من عليل قد تخطاه الردى
كما ينجو المريض شديد المرض من الموت، ويعيش بعد موت طبيبه وزواره، فكذلك من يُحبَس قد تصير له العاقبة ويتحول البلاء على الآخرين.
والحبس ما لم تغشه لدنية
أي: وما لم يحبس الإنسان بسبب فعلة قبيحة مخزية، وإنما بسبب عقيدة صحيحة، فهو أمر مشرف، ومنزل وروده يرفع الإنسان ويعلي شأنه في الدنيا والآخرة.
اللهم ثبتنا على ديننا، ولا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، وفك أسر إخواننا المسلمين, وأنزل نقمتك وبلاءك وعذابك المتتابع على أعدائنا أعداء الدين، وتوفنا على ما توفيت عليه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وصحبه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.