الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إن الحديث عن الابتلاء الذي أصاب الأمة في الشام وما في أهلها من شدة ولأواء حديثٌ طويل لا يخفى على أحد في زمن القنوات والإنترنت، ولن أنبري هنا ناقلاً للأخبار، فمنكم من يعلم ويتابع منها ما لا أعلم، وما يفيدنا ونحتاج إليه هو التذاكر بأمور يجب أن نجعلها نصب أعيننا في مثل حالنا اليوم.
الخطبة الأولى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) [الأحزاب:70].
مالي أرى حلبَ الشهباءَ من كمدٍ | تذوي وعهدي بها مرفوعةَ العُنُقِ |
أما الشام -أيها الإخوة-:
الشـــــام تلقى بغاة العالم الآنَا | تلقى نصيريــــّــها الباغي وإيـرانَا |
تلقى شياطينَ حزبِ اللاتِ أرسلهم | سفيهُهم ناصراً بالظلمِ شيطانَا |
يا مليارَ أمتها | وقد رأت من جيوشِ البغي طوفانَا |
نعم أيها الإخوة: هذا حال شامنا المستباح، وها هي حلبُ اليوم، لا أقول تباد، كما يقول بعض الكتاب والمغردين؛ لكني أقول: تبتلى، وربنا يقول: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].
فاللهُ -تعالى- أوجد عبادَه في الدنيا، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالخير والشر، بالغنى والفقر، والعز والذل، والحياةِ والموت؛ فتنةً منه -تعالى- ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، ومن يُفتتن عند مواقعِ الفتنِ ومن ينجو.
نعم، حلبُ وأهلُها وأهلُ الشامِ والأمة عموماً يبتلون، فنسأل الله -تعالى- لنا جميعاً العافية والنجاة من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يجمع الشمل، ويوحد الصف.
أحبتي: إن الحديث عن الابتلاء الذي أصاب الأمة في الشام وما في أهلها من شدة ولأواء حديثٌ طويل لا يخفى على أحد في زمن القنوات والإنترنت، ولن أنبري هنا ناقلاً للأخبار، فمنكم من يعلم ويتابع منها ما لا أعلم، وما يفيدنا ونحتاج إليه هو التذاكر بأمور يجب أن نجعلها نصب أعيننا في مثل حالنا اليوم.
أولها: لما ذكر الله -تعالى- قصة بطش الكافرين بالمؤمنين في سورة البروج أوجز حالهم فقال: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ* النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) [البروج:4-5]، فقط، عَرضَ المشهد المفجع في لمحة خاطفة، وقد أودعَت في المشاعر بشاعة الحادث بدون تفصيل ولا تطويل، مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها، وأنها انتصرت على النار وعلى الحياةِ ذاتِها، وارتفعت إلى الأوج الذي يُشرف الإنسان في أجياله جميعاً، والتلميح إلى بشاعة الفعلة، وما يكمن فيها من بغي وشر وتسفل، إلى جانب ذلك الارتفاع والبراءة والتطهر من جانب المؤمنين.
ثم بين الله -تعالى- سَببَ هذا الاعتداء والقتل البشع، فقال: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج:8-9]، لكنه -سبحانه وتعالى- وهو الشهيد على ما كان من أمرِ المؤمنين وأصحابِ الأخدود، يطمئنُ قلوبَ المؤمنين، ويهددُ العتاةَ المتجبرين، فيقول: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، وهذه اللمسة الحانية تطمئن قلوب المؤمنين، بأن الله كان شهيداً، وكفى بالله شهيداً! وهكذا حالنا في كلِ موضعٍ يُتَسَلَّطُ فيه على المؤمنين.
الثانية: لو تصفحت تاريخ الأمة لوجدت أن كل المصائب التي تصيبها سببها تفريطها في جنب الله؛ وليس شرطاً أن تكون المصائب عامة، فمصاب الأمة في أي بقعة أو مكان هو مصاب الأمة بعامة، والواجب على الجميع أخذ الحيطة والحذر من الانصراف للدنيا والتنافس فيها، والتقصير في طاعة الله والوقوع في المعاصي، قال الله -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30]، وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا اخْتُلِجَ [اقتُطِع] عِرْقٌ وَلَا عَيْنٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَدْفَعُ اللهُ عَنْهُ أَكْثَرُ" رواه الطبراني في الصغير وصححه الألباني عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي الله عنه-.
وما هذه المصائب التي تقع اليوم في حلب والحصار والقصف بأعتى آلة عسكرية حشدها النظام النصيري وحلفاؤه من الروس الظالمين والباطنين المارقين من بلاد الفتنة والإرهاب الإيراني ومن لف لفهم من باطنية العرب، ومِنْ مَنْ يسمي نفسه بحزب الله وما هو إلا حزب إبليس، فلم يدع هؤلاء الظالمون وسيلة من وسائل البطش إلا واستخدموها، ولا مُعدّة مهلكة إلا بساحتها أنزلوها، وبكل وحشية استخدموها، يَحْدُوهم حقدهم الدفين، هدم وقتل هنا، وأسر وسلب هناك، وتعذيب وانتهاك للأعراض فج هناك، ورجم بالصواريخ وقصف بالطائرات، تتلوه مداهمات وإعدامات، الأسير فيها قتيل، والسعيد فيها الْمُناجز بالقتل، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وحسبنا الله ونعم الوكيل!.
هذه المصيبة، وما من مصيبة إلا وتحمل في رحمها نعماً وحكماً، قال الله -تعالى-: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:140]، هذه إحدى الحكم: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)؛ فالشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين، أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس، لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم.
هذه الروح هي التي تمتع بها أصحابُ النبيِ -صلى الله عليه وسلم- و-رضي الله عنهم- ففي الصحيحين، عَنْ أَنَس بْن مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: لَمَّا طُعِنَ خَالِي حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عنه- مِنْ خَلْفِهِ بِرُمْحٍ حَتَّى أُنْفِذَ مِنْ صَدرِهِ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، قَالَ بِالدَّمِ هَكَذَا، فَنَضَحَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! قال ذلك لما يعلمه من أجر الشهيد الذي تمناه رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عندما قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ".
ولقد انبعثت هذه الروح في ساحات الشام، وسرى فيهم الشوقُ الغامرُ إلى هذا الباب العظيم من أبواب جنات النعيم، وقال كل واحد منهم: حتى أحوز على الشهادة لا بد لي من الاستقامة، وأداءِ الواجبات؛ فتمسكوا وهُدُوا بفضلِ الله إلى الصراطِ المستقيم، وأعظم النصر عند الله أن تأتيَ العبدَ المنيةُ وهو على التوحيد، يؤمن بالله واليوم الآخر.
أسأل الله -تعالى- أن يرحم حالهم، ويعلى مقامهم. أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: ومن الملاحظ في المصائب العظام التي تصيب أهل الإسلام كمصيبة حلب هذه الأيام قيام أعداء الأمة أثناء الحرب بإشاعة أخبار هزيمة المسلمين، ويؤكدون عليها، وهي لم تقع بعد؛ بل إن بعض الإعلاميين جعل نفسه نائحة مستأجرة يفضي صنيعه إلى الإحباط والاعتراض على القدر؛ ليوهن بعضد الأمة، ويبالغون في نشر الصور والمقاطع الفظيعة وعرضها على الملأ، مع أن بعض الصور التي يعرضون متعمدة من جهة العدو؛ وذلك لبثّ روح اليأس بالأمة، وقلما تسمع منهم: إنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل!.
ولا تجد فيما يبثون من تحليلات أو تغريدات أو تقارير إخبارية مسلياً ولا مواسياً؛ فلا يبينون فضل الشهادة وما فيها من أجر، ولا أجر من قُتل مظلوما، ولا أجر من يُجرح في سبيل الله، أو يَنال منه العدو، ولا يبينون فضلَ من أُصيبَ في مال أو نفس أو ولد فصبر.
ومن أعظم الناس أجراً في هذه المصيبة من يعمل على تحويل الصياح والعويل واليأس إلى طاقة عمل نافعة، قال الله -تعالى- للمؤمنين بعد مصيبتهم بأحد: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:139]، يقول -تعالى- ذلك مشجعاً لعباده المؤمنين، ومقوياً لعزائمهم ومُنْهِضاً لهممهم: (وَلَا تَهِنُوا)، أي: تضعفوا في أبدانكم، (وَلَا تَحْزَنُوا) في قلوبكم، عندما أصابتكم المصيبة، وابتليتم بهذه البلوى، فإن الحُزنَ في القلوبِ، والوهْنَ على الأبدان زيادةُ مصيبةٍ عليكم، وعونٌ لعدوكم عليكم، بل شجعوا قلوبَكم وصبروها، وادفعوا عنها الحزْنَ، وتصلبوا على قتال عدوكم.
وذكر -تعالى- أنه لا ينبغي ولا يليق بالمؤمنين الوهن والحزن، وهم الأعلون في الإيمانِ، ورجاءِ نصر الله وثوابِه، فالمؤمن المتيقن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي منه ذلك؛ ولهذا قال الله -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
أيها الإخوة: ومن المفيد جداً في مصيبتنا في حلب أن نتأمل هذه الآية وما أنزل الله في آل عمران بشأن مصيبةِ أُحد من توضيح لقواعد العقيدةِ والإيمانِ، ومواساة المؤمنين وتوجيههم. قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله تعالى-: لا تستغرب إذا سلط الله -عز وجل- الكفار على المؤمنين، وقتلوهم وحرقوهم وانتهكوا أعراضهم، لا تستغرب، فلله -تعالى- في هذا حكمة؛ المصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله -سبحانه وتعالى- ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما يحصل لهم ولإخوانهم.
فنحن نسمع ما يحصل من الانتهاكات العظيمة: انتهاك الأعراض، وإتلاف للأموال، وتجويع للصغار والعجائز، نسمع أشياء تبكي، فيقال: سبحان الله! ما هذا التسليط الذي سلطه الله على المؤمنين؟ نقول: يا أخي لا تستغرب فالله -سبحانه وتعالى- ضرب لنا أمثالاً فيما سبق منها الذين يحرقون المؤمنين بالنار، فهؤلاء الذين سلطوا على إخواننا في بلاد المسلمين، هذا رفع لدرجات المصابين، وتكفير للسيئات، وهو عبرة للباقين، وهو أيضاً إغراء لهؤلاء الكافرين حتى يتسلطوا فيأخذهم الله -عز وجل- أخذ عذيذ مقتدر. اهـ.
ونحن واثقون بوعد الله وظهور الإسلام بالشام والأرض، وقد ذهب تيمورلنك وجنكيز خان وهولاكو وقادة حملات الصليب والقرمطي والصفوي، وبقي الإسلام.
وعلينا بالدعاء، ولا نقول: "ما بأيدنا إلا الدعاء"، هذا قد يفهم منه التقليل من شأن الدعاء، وعلينا أن نستبدل هذه العبارة بقول: "بيدنا الدعاء، وسندعو"، وهذا السلاح يحتاج إلى الالتزام بما يجعل الدعاء ناجعاً ومفيداً.
ما أجمل صوت القُنوتِ في الفجر لأهلنا في الشام! إنه يوقظ الوسنان، ويغيظ الشيطان وحزب إبليس وسيدته إيران، ويرسخ الصلة بين أهل الإيمان.
القنوت دعاءٌ يرفعُ الهمم، ويزيدُ التوكل ويخففُ الألم، وإن تكالب الأعداء واشتدت الخطوب فعلينا أن نثق بحكمة الله ورحمته في تمحيص المؤمنين، ومحق الكافرين والمنافقين.