القهار
كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | ناصر القطامي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
علَّق سبحانه سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح، والعزة والكفاية واللذة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار، والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل محبة محمد -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، وجعل سنته طريق لدخول الجنان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر بمحبة النبي العدنان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من صلى وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام.
أما بعد:
بأبي وأمي أنت يا خير الورى | وصلاة ربي والسلام معطرا |
يا خاتم الرسل الكرام محمد | بالوحي والقرآن كنت مطهرا |
لك يا رسول الله صدق محبة | وبفيضها شهد اللسان وعبرا |
لك يا رسول الله صدق محبة | فاقت محبة من على وجه الثرى |
لك يا رسول الله صدق محبة | لا تنتهي أبدا ولن تتغيرا |
روى ابن جرير الطبري في التاريخ عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: مرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأُحد، فلما نُعوا لها، قالت: "فما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟" قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: "أرِنيه حتى أنظر إليه"، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: "كل مصيبة بعدك جلل"، تريد صغيرة.
وهذا كان أبو طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- يحمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد، ويرمي بين يديه، ويقول: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا تُشرف فيصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك" [رواه البخاري].
وروى الطبراني عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ إِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي, وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي, وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي, وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ, وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعَتْ مَعَ النَّبِيِّينَ, وَإِنِّي إِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لَا أَرَاكَ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِهَذِهِ الْآيَةِ: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء: 69].
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أغلى شيء في حياة الصحابة الكرام، وليس أدلّ على ذلك من قول أبي سفيان عندما قال لقومه: "ما رأيتُ في الناس أحدًا يحب أحدًا كحُب أصحاب محمدٍ محمدًا".
إن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- الصادقة حياةٌ من حُرمها فهو من جملة الأموات، يقول ابن القَيم: "والمقصود أنه بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة، فالله -سبحانه- علَّق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح، والعزة والكفاية واللذة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار، والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة".
وهذا علي -رضي الله عنه- يُسأل كيف كان حبكم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: "كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا، وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ".
لقد فقه الصحابة الكرام هذا الدرس الرباني أيما فقه! ومفاده: أن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امتداد لمحبة الله -جل وعلا-، وأن كمال الإيمان في تمام المحبة الخالصة للجناب النبوي -على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام-، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" [متفق عليه].
ولقد جاء التحذير الإلهي، والوعيد السماوي، منذرا من مالت نفسه لتغليب محبة آبائه أو أولاده وأزواجه وأمواله على محبة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فقال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
قال القاضي عياض: "قرَّع تعالى مَن كان ماله وأهله وولده أحبَّ إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنَّهم مَن ضل ولم يهده الله -عزَّ وجلَّ-.
أيها المؤمنون: وإن لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- علامات ودِلالات، نورد بعضا منها:
أولا: طاعة أوامره صلى الله عليه وسلم، واجتناب نواهيه، وذلك من طاعة الله -عز وجل-؛ كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31].
ثانياً: نصرته في حياته، والانتصار لسنته بعد موته، قال القاضي عياض -رحمه الله-: "ومن محبته: نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمني حضور حياته، فيبذل ماله ونفسه دونه".
ثالثًا: امتثال أمره، فلا يعقل أن تدّعي محبته ولا حظَّ لك من سنته وهديه وسمته.
إن المحبة الحقيقية لا بد أن يتوّلد منها التأسي به، المحبة الحقيقية يتبعها الاتباع لمنهجه وطريقه.
رابعًا: محبة أصحابه وأهل بيته وإعمال وصيته صلى الله عليه وسلم فيهم، وليس من شكٍّ أنَّ الطعن فيهم والنيل منهم نيل وطعن في النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالمرء على دين خليله؛ ولذا فإنَّ العقل لا يمكن أن يتصوّر محبًا صادقًا للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- قاليًا مبغضًا لأصحابه وآل بيته!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية.
ومن علامات محبة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-: مجانبةَ البدع؛ لأنها تُضلّ عن طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- وحوضه في الآخرة، ومن ذلك: الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان خيراً لسَبقنا إليه أصحابه الكرام، فقد كانوا أكثر حبا، وأشد اتّباعا.
وإن المُتتبِّع لكتب التاريخ يجد أن أول من احتفَل بالمولد النبوي هم الفاطميون العُبَيْديُّون الرافضة، أعداء الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وأعداء الدِّين، فكيف نتأسي بهم في ذلك؟!
فالليلة التي يقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولِد فيها، مع أنه لم يَثبُت في تحديد شهر ولادته ولا يومها شيء يُعتمَد عليه، بل في ذلك خلاف مشهور، وقد جَزَم وقطَع العُبَيْديُّون الرافضة في القرن الرابع الهجري أن مولده صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، مع أنه ليس هناك ما يرجِّح هذا القول.
وهذا الشهر قد أُصيبت فيه الأمةُ الإسلامية بأعظم مصيبة، وأشد رزيّة، وهي وفاته صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانت وفاته عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول بلا خِلاف.
بل إن العُبَيْديين اختاروا يوم الثاني عشر منه، فأقاموا فيه احتفالاً وقت حكْمهم لمصر سنة 363هـ، وزعَموا أنه من باب الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم، مع أن هذا اليوم هو اليوم الذي توفِّي فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قول عامَّة أهل العلم.
فلا يَبعُد أن هؤلاء العُبَيْديين المنحرِفين الذين يُجزَم بأن بعضهم يُبغِض النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اختاروا شهر وفاته صلى الله عليه وسلم ويومه وقتًا لهذا الاحتفال، فرَحًا بذلك، وأظهَروا للناس أنه للفرح بولادته عليه الصلاة والسلام" [تسهيل العقيدة الإسلامية].
ومحبَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تتحقَّق بالاحتفال بمولده في يوم من العام، وإنّما تتحقَّق باتِّباع هدْيه، وإحياء سنته، وتقديم قوله على كل قول، وعدم ردِّ شيء من سنته.
إلا وإن من أعظم علامات محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-: كثرة الصلاة عليه؛ فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي؟ فَقَالَ: "مَا شِئْتَ" قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ؟ قَالَ: "مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" قُلْتُ: النِّصْفَ؟ قَالَ: "مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: "مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: "إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ" [رواه الترمذي].
فاللهم صل على محمد ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصل على محمد وعلى آل بيته الأطهار، وصل على محمد وعلى أصحابه الأخيار، وصل على محمد ما تعاقب الليل والنهار، وصل على محمد وعلى المهاجرين والأنصار، وعنّا معهم يا عزيز يا غفار.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...