الواسع
كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
كلماتٌ، ولكنَّهنَّ ليسَ كباقي الكلماتِ، لأنَّهنَّ قاتلاتٌ، تُسرعُ كالرِّيحِ، وتشتعلُ كالنَّارِ، كم هدمتْ من صداقةٍ ودارٍ، وكم فَرَّقتْ من قريبٍ وجارٍ، بسببِها يُتَّهمُ البريءُ، ويُكذَّبُ الصَّادقُ، ويُخوَّنُ الأمينُ، ويخافُ المجتمعُ بعدَ الاستقرارِ، وترتفعُ بعد انخفاضِها الأسعارُ، وتُهزمُ بها الجيوشُ، وتَسقطُ منها الدُّولُ، وكم نَدِمَ الكثيرُ على تصديقِها ولكن بعدَ ما قُضيَ الأمرُ وفاتَ، إنَّها الإشاعاتُ؛ وما أدراكَ ما الإشاعاتُ؟!.
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَا أَيُّهاَ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: كلماتٌ، ولكنَّهنَّ ليسَ كباقي الكلماتِ، لأنَّهنَّ قاتلاتٌ، تُسرعُ كالرِّيحِ، وتشتعلُ كالنَّارِ، كم هدمتْ من صداقةٍ ودارٍ، وكم فَرَّقتْ من قريبٍ وجارٍ، بسببِها يُتَّهمُ البريءُ، ويُكذَّبُ الصَّادقُ، ويُخوَّنُ الأمينُ، ويخافُ المجتمعُ بعدَ الاستقرارِ، وترتفعُ بعد انخفاضِها الأسعارُ، وتُهزمُ بها الجيوشُ، وتَسقطُ منها الدُّولُ، وكم نَدِمَ الكثيرُ على تصديقِها ولكن بعدَ ما قُضيَ الأمرُ وفاتَ، إنَّها الإشاعاتُ؛ وما أدراكَ ما الإشاعاتُ؟!.
الإشاعاتُ كلماتٌ، والكلماتُ قد ترفعُ الإنسانَ إلى أعلى المقاماتِ، وقد تهوي به في أسافلِ الدَّركاتِ، عن بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيَّ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ".
بالإشاعاتِ طُعنَ بعِرضِ خيرِ البشرِ، في أحبِّ نسائه إليه، عائشة -رضي الله عنها-، شهر كامل والنَّاسُ يخوضونَ في قولِ أهلِ الإفكِ، وصاحبةُ الشَّأنِ غافلةٌ لا تشعرُ بشيءٍ، لم يختلفْ عليها إلا معاملةُ رسولِ اللهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- لها، فتقولُ: وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ: "كَيْفَ تِيكُمْ؟"، فَذَاكَ يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ.
بلْ أَوشكَ رسولُ اللهِ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- على طلاقِ حبيبتِه، لمَّا تأخرَ الوحيُ وأكثرَ المنافقونَ في الطَّعنِ في زوجتِه، كما جاءَ في القِصةِ: "وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ"، لا إلهَ إلا اللهُ! ما أكبرَها من إشاعةٍ، كادتْ أن تُفرِّقَ بينَ أهلِ الطَّاعةِ!.
وقامَ رسولُ اللهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- خطيباً في المسلمينَ، يطلبُ العُذرَ إن هو انتقمَ ممن آذاهُ واتَّهمَ أهلَه بالإفكِ المُبينِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيّ بْنِ سَلُولَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي؟ فَوَاللَّهِ! مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي".
وكادتْ أن تكونَ خصومةٌ عظيمةٌ بينَ الأنصارِ، لولا أنَّ رسولَ اللهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- حالَ بينَهم وبينَ الشِّجارِ، فَقدْ قَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنْ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ! لَا تَقْتُلهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ -وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ- فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ! لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ؛ فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ، فما أعظمَ خطرَ الشائعاتِ، في تفريقِ وحدةِ المُجتمعاتِ!.
لقد أصبحتْ الإشاعةُ أقوى وأقوى، فازدادتْ بطولِ الوقتِ البلوى، تقولُ عائشةُ -رضي الله عنها-: وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ، فَجَاءَهَا فِي بَيْتِ أَبِيهَا، فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ".
تقولُ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- فِيمَا قَالَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ-! فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ-، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ-! فَقُلْتُ، وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ، وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ -وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ- لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ -وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ- لَتُصَدِّقُونَنِي، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ). ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا وَاللَّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ -وَاللَّهِ- مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ -عَزّ وجَلّ- فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا.
وهناكَ جاءَ الرَّدُّ على أعظمِ إشاعةٍ عَرفَتها البشريَّةُ، بكلماتٍ تكلَّمَ بها ربُّ البريَّةِ، فأوصلَها جبريلُ الرُّوحُ الأمينُ، إلى محمدٍ سيِّدِ المُرسلينَ، تقولُ العفيفةُ المُبرأةُ من فوقِ سبعِ سمواتٍ: فَوَاللَّهِ! مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ -عَزّ وجَلّ- عَلَى نَبِيِّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ-، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: "أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ! أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ"، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزّ وجَلّ-: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) عَشْرَ آيَاتٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزّ وجَلّ- هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ بَرَاءَتِي.
فهل رأيتُم خطرَ الإشاعاتِ على أمَّةِ الإسلامِ؟ وهل رأيتمُ ما قد يفعلُه الكلامُ؟ وقد سجَّلَ لنا التَّاريخُ في السُّنَّةِ، قصةَ نبيٍّ يُبتلى، وسطَّرَ لنا القرآنُ في المصاحفِ آياتٍ في البراءةِ تٌتلى، وصدقَ حسانٌ -رضي الله عنه- حيثُ قالَ:
فَإنّ أبي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي | لعرضِ محمدٍ منكمْ وِقاءُ |
ولقد أحسنَ أبو أيوبَ الأنصاريُّ -رضي الله عنه- في التَّعاملِ مع الإشاعةِ، حيثُ غلَّبَ حُسنَ الظَّنِّ على ما يُثارُ من الاتِّهاماتِ، قَالَتْ أُمُّ أَيُّوبَ لِأبي أَيُّوبَ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَفَكُنْتِ يَا أُمَّ أَيُّوبَ فَاعِلَة ذَلِكَ؟ قَالَتْ: لَا وَاَللَّهِ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاَللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ، ثُمَّ قَالَ: مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَمَ بِهَذا، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، فَأنْزَلَ اللهُ -عَزّ وجَلّ-: (وَلَوْلا? إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـاذَا سُبْحَانَكَ هَـاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور:16].
الإشاعةُ قد تُغيِّرَ مجرى المعاركِ من النَّصرِ إلى الانهزامِ، وما ظنُّكم بجيشٍ قائدُه محمدٌ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- وجنودُه الصَّحابةُ الكِرامُ؟ في غزوةِ أحدٍ سَرتْ إشاعةٌ كاذبةٌ أنَّ الرسولَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- قد قُتلَ، وذلك أن عبدَ اللهِ بنَ قمئةٍ قَتلَ مُصعبَ بنَ عميرٍ وكانَ من أشبهِ النَّاسِ بالرَّسولِ فَظنَّ أنه قدْ قتلَ الرَّسولَ، فنادى بأعلى صوتِه: لقد قَتلتُ محمدًا، فماذا كانَ أثرُ هذه الإشاعةِ على الجيشِ؟ أدَّتْ هذه الإشاعةُ لانهيارٍ في معنوياتِ المسلمينَ، وعمَّتْ الفوضى في صفِّ الجيشِ، ونزلَ الخبرُ عليهم كالصَّاعقةِ حتى إنَّ بعضَهم ألقى سيفَه وجلسَ في مكانِه من هَولِ المصيبةِ، وثَبتَ من ثَبتَ من الذينَ قالَ اللهُ فيهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23]، وكادَ رسولُ اللهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ- أن يُقتلَ حيثُ خَلُصَ إليه المشركونَ فكسروا أنفَه وسِنَّه، وشجّوا وجهَه الشَّريفَ حتى سالتْ منه الدِّماءُ، فجعلَ يمسحُ الدَّمَ عنه، ويقولُ: "كيفَ يُفلحُ قومٌ شجُّوا نبيَّهم؟".
وانظرْ كيفَ تعاملَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ -رضي الله عنه- مع الحَدثِ، فقدْ انْتَهَى إِلى رِجَالٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ؛ قَالَ: فَمَاذَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَليْهِ وسَلّمَ-، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ففعلَ ما أُمرَ به من القتالِ في سبيلِ اللهِ حتى نالَ الشَّهادةَ، ولم يلتفتْ إلى الشَّائعاتِ التي تُضعفُ الإرادةَ.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ وعلى آلِه وأصحابِه أجمعينَ.
أما بعدُ: فالكلماتُ لها أثرٌ غريبٌ جبَّارٌ، بُها تُبنى المُجتمعاتُ وتَنهارُ، وبها تتغيَّرُ المفاهيمُ والأفكارُ، كما قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْراً".
بالكلماتِ يُصبحُ القبيحُ حَسَناً، ويُصبحُ الكَذبُ صِدقاً، واسمع إلى هذه الحادثةِ الغريبةِ، ذكرَ ابنُ كثيرٍ -رحمَه اللهُ- في حوادثِ سنةٍ ثلاثمائةٍ وأربعٍ، أنه اشتهرَ ببغدادٍ أن حيواناً يُقالُ له (الزَّرنبُ)، يطوفُ بالليلِ يأكلُ الأطفالَ من الأسِرَّةِ، ويعدو على النِّيامِ، فربما قطعَ يدَ الرجلِ وثديَ المرأةِ وهم نائمونَ، فجعلَ النَّاسُ يضربونَ على أسطحتِهم على النُّحاسِ من الهواوينِ وغيرِها ينفرونَه عنهم، حتى كانتْ بغدادُ بالليلِ تَرتَجُّ من شرقِها إلى غربِها، واصطنعَ النَّاسُ لأولادِهم مَكبَّاتٍ من السَّعفِ وغيرِها -يُخفونَهم فيها-، واغتنمتْ اللصوصُ هذه الشَّوشةَ فكَثرتْ النُّقوبُ وأُخذتْ الأموالُ، فأمرَ الخليفةُ بأن يُؤخذَ حيوانٌ من كلابِ الماءِ فيصلبُ على الجسرِ ليَسكنَ النَّاسُ عن ذلك، ففعلوا فسَكنَ النَّاسُ ورجعوا إلى أنفسِهم، واستراحُوا من ذلك. فعجباً للإشاعاتِ! كيف جعلتْ الخيالَ حقيقةً، حتى صدَّقَها النَّاسُ كأنَّها أمرٌ محتومٌ، بل واخترعوا قِصصاً كثيرةً لحيوانٍ معدومٍ.
فيا للهِ! كم من كلمةٍ طُعنَ فيها بالإسلامِ، وكُذِّبَ بها نبيٌّ، وشُوِّهَ بها حَسَنٌ، واتُّهمَ فيها بريءٌ، وقُطعتْ بها أرحامٌ، وهُزمَ بها جيشٌ، وأُخيفَ بها آمنونَ، وكُدِّرَ بها عَيشٌ، وأُزيلتْ بها نِعَمٌ، وأُسقطتْ بها دولٌ، وأريقتْ بها دماءٌ، ودمُّ عثمانَ بنِ عفانٍ -رضي الله عنه- الخليفةِ الرَّاشدِ ذي النُّورينِ على ذلك شهيدٌ.
فيا أهلَ الإيمان: إذا كانَ الأمرُ الصَّادقُ فيما يترتبُ عليه أمنُ النَّاسِ أو خوفُهم، لا ينبغي إذاعته حتى يُستشار فيه أهلُ الرأيِ والشأن والخبرةِ، ثُمَّ يُنظرُ في مصلحةِ كتمِه أو إفشائه، كما قالَ -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:83]، فكيفَ بالخبرِ الكاذبِ أو الذي لا يُعرفُ هل هو صحيحٌ أم لا؟.
وإذا كنَّا قد أُمرنا بالتَّثبتِ في نقلِ خبرِ الفُسَّاقِ، قالَ -سبحانَه-: (يَا أَيُّهَا الّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6]، فكيفَ بأخبارِ الكُفَّارِ الأعداءِ أو أخبارٍ مجهولةٍ المصدرِ؟.
فانتبهوا من الكلماتِ التي تُدارُ في المجالسِ، وتُرسلُ في وسائلِ التَّواصلِ، وحافظوا على أمنِكم وبلادِكم من كلِّ سوءٍ.
اللهمَّ إنا نسألُك أن تعفَّ ألسنتَنا من الكَذبِ، وأعمالَنا من الرِّياءِ، وقلوبَنا من النِّفاقِ، اللهمَّ اجعلنا سِلْماً لأوليائكَ، حَرباً على أعدائك، أحينا مسلمينَ، وتوَّفنا مؤمنينَ، وألحقنا بالصَّالحينَ.
اللهمَّ جنبنا الإثمَ والفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطنَ، اللهم ارحمنا، واغفرْ لنا ذنوبَنا، وكفِّر عنا سيئاتِنا، وتوفنا مع الأبرارِ، وانصر الإسلامَ والمسلمينَ؛ إنكَ سميعٌ عظيمٌ كريمٌ جليلٌ رحيمٌ، اللهمَّ آمنَّا في الأوطانِ والدُّورِ، وأصلحْ الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، واغفر لنا يا عزيزُ يا غفورُ.
سبحانَ ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفونَ، وسلامٌ على المرسلينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.