العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - المنجيات |
إنها سنة راسخة من سنن الله في الأرض "سنة التغيير"، فإنك أيها الإنسان لن يتغير واقعك حتى تغير ما بنفسك، ولذلك كان اللوم موجهًا إلى ما كسبته أيدي الناس فيما أصابهم من مصائب بقوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)، ومعنى هذا أن ما يجري على الناس من مصائب تصيبهم في الدنيا إنما يجري وفق السنن الجارية التي تمضي على جميع الخلق، وبحسب ما قدَّره الله -تبارك وتعالى- من زمان وقوع عواقب تلك السنن تقع العواقب بإذنه سواء كانت تلك العواقب سراء أو ضراء فمآل أعمال العباد إما إلى خير وإما إلى شر..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واكتفى وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما يزال الكثيرون في معزل عن حقيقة أثر القرآن ، حقيقة كون القرآن كلام الله الخالق نورا مبينا (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى: 52].
في حقيقة كون القرآن منهاجًا لتهذيب قيم الناس، وترتيب أولوياتهم، وتهذيب تصوراتهم، وهاديتهم إلى أحسن الأقوال والأعمال، في كون القرآن ممحِّصًا ومعاتبًا ومرشدًا إلى طريق الخلاص في الدنيا والآخرة؛ لا يزالون في معزل عن هذه الحقيقة.
ذكرنا أنه مما نقرأه ونسمعه، وليتنا نتأمله ونفهمه جيدًا، ثم نبادر إلى العمل بمقتضاه جماعات وأفرادًا قول ربنا في كتابه العزيز في سورة الرعد: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
إنها سنة راسخة من سنن الله في الأرض "سنة التغيير" ينص عليها كلام الله الخالق في هذا الجزء من الآية الكريمة بوضوح، أي أنك أيها الإنسان لن يتغير واقعك حتى تغير ما بنفسك، ولذلك كان اللوم موجهًا إلى ما كسبته أيدي الناس فيما أصابهم من مصائب بقوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30].
ومعنى هذا أن ما يجري على الناس من مصائب تصيبهم في الدنيا إنما يجري وفق السنن الجارية التي تمضي على جميع الخلق، وبحسب ما قدَّره الله -تبارك وتعالى- من زمان وقوع عواقب تلك السنن تقع العواقب بإذنه سواء كانت تلك العواقب سراء أو ضراء فمآل أعمال العباد إما إلى خير وإما إلى شر، كما في الآية (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).
وإذا وقع لأناس معينين في زمن ما كان فيه نذارة وتحذير لغيرهم ممن يفعل من جنس أفعالهم؛ أن تحل بهم ذات العاقبة، إلا أن الآية تبيّن في آخرها أن هذا الجزء ليس مستمرًّا فقد يجازي الله قوماً على أعمالهم جزاءً في الدنيا مع جزاء الآخرة، وقد يترك أقوامًا إلى جزاء الآخرة، بينما الجزاء في الدنيا قد يحصل وقد لا يحصل، وذلك في معنى قوله تعالى: (وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: 30].
الحاصل أننا محكومون بسنن ثابتة يجب أن نفهمها جيداً أولاً، ثم نتعامل معها بصورة صحيحة ثانياً، ولهذا ينبغي أن ندرك "أنه يلزم من ظاهر الآية أن يكون التغيير جماعيًّا؛ لأن الآية تنص على التغيير الجماعي ما بقوم ما بأنفسهم، ولكنك في واقع الأمر لست مسئولاً إلا عن نفسك وعمن بإمكانك أن تؤثر فيهم من أهلك وأصحابك ومن حولك فقط.
هذه هي قدرتك، أما الإصلاح السياسي والاقتصادي والعلمي والثقافي هذه الإصلاحات الواسعة للمجتمع ككل يرجى أنه إذا تغير ما في نفسك، فتغيرت بالتالي أمانيك وأهدافك، ومن ثَم تغيرت أخلاقك وتغير سلوكك أثَّر ذلك فيمن حولك في العموم، وكنت أنت قدوة لغيرك، والقدوة أيها الإخوة من أهم عوامل تغيير المجتمع شيئًا فشيئًا، ولو طال الزمان يقول سبحانه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16].
ابدأ بنفسك واصبر واصطبر ولو قل المعين، ولا عليك ما يجري بعد ذلك؛ فقد تكون ملهمًا لأعداد كبيرة من الناس وأنت لا تدري، وكما قيل: "أول الغيث قطرة، ومن الحبة تنشأ الشجرة".
أيها الإخوة: ما الذي ينبغي تغييره في أنفسنا في المقام الأول انظر وتأمل: هل أنا قريب من ربي كما ينبغي؟ هل أنت اليوم أقرب إلى الله تعالى من الأمس؟ تأمل!!
هل يمكنك أن تقرّب منه أكثر سبحانه، ثم هل يريدك ربك أن تزيد من قربك منه، في الحديث القدسي فيما يرويه النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي عن ربه قال: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه".
الله تعالى يريدك ان تزداد قربًا منه أكثر وأكثر، ولذلك ابدأ بتغيير ما بنفسك، وحرِّك الإيمان الراكد في قلبك، وزد في قربك من ربك، في الصحيح: "إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها"، إذا أحسن أحدكم إسلامه؛ فليحسن في عبادته وليجتهد في طاعته أكثر من ذي قبل، وليجتهد في ترك معصيته، فإن في الطاعة البركة وفي المعصية الشؤم، عليك وعلى من حولك، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) [الأعراف: 96].
الإيمان والتقوى يستجلبان البركات من السماء والأرض، قال: (لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم) الفتح هو إزالة شيء حاجز عن الدخول أو الخروج، فكأنما البركات محجوزة عن الوصول إلى العباد بأبواب لا يفتحها إلا الله خالقها سبحانه؛ كما قال سبحانه في آية أخرى (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر:2].
ثم إنه لم يقل بركة، وإنما قال بركات لتعددها وتنوعها، ولم يعرفها، بل أبهمها، ونكرها، فقال: بركات إشارة إلى استغراقها لجميع أنواع الخير وأحوال النعمة، نسأل الله من فضله.
فالإيمان والتقوى بالضرورة مما ينبغي العمل على تغييرهما للأحسن في النفس، ومما ينبغي تغييره في النفس كذلك تفعيل ما نعرفه عن الإسلام جميعًا وهو أن الإسلام أخلاق وسلوك "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
والصدق أرفع ما اهتز الرجال له | وخير ما عوِّد ابناً في الحياة أب |
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت | فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا |
وقيل كدا الناس بالأخلاق يبقى صلاحهم تذهب عنهم أمرهم حين يذهبوا، الأخلاق تحتوي صلاح الإنسان وترعاه.
والأخلاق منظومة كبيرة يصعب احتوائها في مقام واحد، ولكن نركز على مفصلين في هذا.
الأول: النية، ينبغي أن نعلم أن كل عمل فيه خير فهو من رضوان الله تعالى إذا قصد العبد ذلك، ولم يكن قصده رياء ولا سمعة، وكما قال أهل العلم: "المؤمن عندما يعمل العمل من الدنيا، فينبغي أن يكون باعثه لذلك العمل الإيمان الذي في قلبه، فإذا احتسب كان ذلك أدعى لاكتمال الأجر قال تعالى: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء: 114].
فالأمر الصدقة أو المعروف أو الإصلاح بين الناس ليست من الشعائر كالصلاة والحج والصوم، وإنما هي من الأخلاق الحسنة والأعمال الطيبة في العموم، ولذلك خص سبحانه من بين كلام الناس الكثير ومن بين ما يتناجون فيه بينهم (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ) خص الخير في تلك الأعمال الأمر بالصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس.
قال (لاَّ خَيْرَ) أي: لا نفع لصحابه إلا فيها ولا نفع للناس إلا فيها، إذاً فالخير حاصل له في العموم لجمال تلك الأعمال حتى من دون احتساب، إذا كان الباعث له إيمانه بحسنها لا يرتجي من ورائها نفعًا شخصيًّا، ولكن إذا أضاف إليها الاحتساب كان لها شأن آخر.
ولذلك قال تعالى في نهاية الآية: (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114]، من احتسب (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد: فإن من أكبر آثار النية التي تكلمنا حولها قبل قليل أنها تجعل العامل إذا هم بتغيير ما في نفسه تجعله في صفاء مع نفسه، وفي صلح مع الله خالقنا، لا يستوحش الطريق، قد ملئ قلبه حب ربه وتملك رجاءه بالله كل خاطرة من خواطره، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن عمل فبأمر الله، وإن سكن فمع الله فهو لله وبالله ومع الله.
ومن ثَم هو يعمل على ذلك التغيير الإيجابي وهمه ليس بالنتائج؛ لأن النتائج أمرها إلى الله تعالى، وليس همّه بهذا يثني عليه وذاك يذمه كلا، وإنما يعمل وهمه قبول الله تعالى لعمله يسعى للأفضل والأكمل في كل خير وأمامه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم حين يقول: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان".
أيها الإخوة: الحديث عن الأخلاق وترتيبها، أهميتها، كيف نتحصل عليها، ولعلنا نتكلم حول ذلك فيما نستقبل إن شاء الله.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ..