البحث

عبارات مقترحة:

المبين

كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...

الرقيب

كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

العالم

كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

حصار بني هاشم في الشعب

العربية

المؤلف خالد بن عبدالله الشايع
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. سنن أعداء الدين في محاصرة المسلمين المستضعفين .
  2. وقفات مع قصة حصار شعب أبي طالب .
  3. تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف .
  4. قصة رجل مشرك سعى في إنهاء الحصار .
  5. أبرز الدروس والعبر المستفادة من القصة. .

اقتباس

ثلاث سنوات من الظلم والقهر والإبادة الجماعية، وهي وإن كانت صورة جاهلية من اختراع كفار قريش في ذلك الوقت، إلا أنها -وللأسف- تكررت بعد ذلك كثيرًا، و مع المسلمين فقط. فهي وإن كانت قد حدثت في شعب أبي طالب، فقد تكررت بعد ذلك بقرون في العراق والشام، وفي ليبيا وفي السودان، وفي أفغانستان وفي الصومال، وفي لبنان وفي فلسطين، وما حصار حلب منا ببعيد! الكثير من المسلمين يحاصرون في شتى بقاع الأرض كما كان العهد، وكما كان الاتفاق بين أهل الباطل.

الخطبة الأولى:

الحمد لله...

أما بعد فيا أيها الناس: لا يزال أعداء الدين يصدُّون عن سبيل الله بكل طريق، وعلى كل سبيل، لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة، يتحينون الفرص لقتل المسلمين أو أذيتهم بما استطاعوا، منذ أن انطلقت الدعوة في زمن النبوة، فقد تصدى لها أعداء الدين بالتكذيب وأذية المسلمين وصدهم عن دين الله وفتنة المهتدي منهم.

وما أشبه الليلة بالبارحة!! فها هم أعداء الملة في الشام وفي العراق واليمن وفي بورما وغيرها من بلاد المسلمين لا يفتؤون يتربصون بالمسلمين الدوائر، فها هم في سوريا يحاصرون القرى والمدن ويجوّعون أهلها، حتى مات الصبيان والشيوخ من  البرد والجوع، كما صنع أشياخهم من قريش عندما حاصروا بني هاشم في الشعب لما أبوا أن يسلموا لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولعلنا نمر على قصة الحصار في الشعب ونجني منه الفوائد.

فقد اجتمع كفار مكة اجتماعًا طارئًا وعاجلاً، بعدما رأوا من اجتماع أغلب بني عبد مناف للدفاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخرجوا منه في نهاية الأمر بقانون جديد، فقد ابتكروا وسيلة جديدة لحرب أهل الإيمان، وقرروا بالإجماع أن ينفذوا هذا القانون، كان هذا القانون هو "المقاطعة"، تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، وإعمال سياسة التجويع الجماعي لهم، سواءٌ أكانوا كفارًا أم مسلمين.

وكانت بنود المقاطعة التي أبرموها: أنه على أهل مكة بكاملها في علاقتهم مع بني عبد مناف ما يلي: أن لا يناكحوهم -لا يزوّجوهم- ولا يتزوجون منهم، وأن لا يبايعوهم، لا يبيعون لهم ولا يشترون منهم، وأن لا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم للقتل.

وقد صاغوا قانون العقوبات هذا في صحيفة، ثم علقوها في جوف الكعبة، وقد تقاسموا بآلهتهم على الوفاء بها، وبالفعل بدأ تنفيذ هذا الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المحرم في السنة السابعة من البعثة، وقد دخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلى شِعْب أبي طالب وتجمعوا فيه، ومعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك ليكونوا جميعًا حوله كي يحموه من أهل مكة.

فقد قُطع الطعام بالكلية عن المحاصرين، لا بيع ولا شراء، حتى الطعام الذي كان يدخل مكة من خارجها وكان يذهب بنو هاشم لشرائه، كان القرشيون يزيدون عليهم في السعر حتى لا يستطيعون شراءه، ومن ثَمَّ يشتريه القرشيون دون بني هاشم.

وقد بلغ الجهد بالمحاصرين حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من شدة وألم الجوع، وحتى اضطروا إلى التقوت بأوراق الشجر، بل وإلى أكل الجلود، وقد ظلت هذه العملية وتلك المأساة البشرية طيلة ثلاثة أعوام كاملة، ثلاث سنوات من الظلم والقهر والإبادة الجماعية، وهي وإن كانت صورة جاهلية من اختراع كفار قريش في ذلك الوقت، إلا أنها -وللأسف- تكررت بعد ذلك كثيرًا، و مع المسلمين فقط.

فهي وإن كانت قد حدثت في شعب أبي طالب، فقد تكررت بعد ذلك بقرون في العراق والشام، وفي ليبيا وفي السودان، وفي أفغانستان وفي الصومال، وفي لبنان وفي فلسطين، وما حصار حلب منا ببعيد! الكثير من المسلمين يحاصرون في شتى بقاع الأرض كما كان العهد، وكما كان الاتفاق بين أهل الباطل.

مرت الأيام والسنوات عصيبة على المحاصرين، مرت تحمل الآلام والأحزان، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله  -سبحانه- أن تنقض في هذا الشهر الكريم تلك الصحيفة الظالمة، وأن يُفك الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطلب بعد ثلاث سنوات كاملة.

وكانت البداية حين شعر أحد المشركين من بني عامر بن لؤي وهو هشام بن عمرو، وهو ليس من بني هاشم ولا بني المطلب، شعر هذا الرجل بشيء حاك في صدره، وشعر بشيء من الغصَّة في حلقه، إذ كيف يأكل ويشرب وهؤلاء المحاصرون لا يأكلون ولا يشربون؟! وكيف ينام أطفاله شبعى وينام أطفال هؤلاء عطشى وجوعى؟!

وإزاء هذه المشاعر وتلك الأحاسيس التي تولدت بداخله، ورغم أنه كان كافرًا، فقد بات يحمل الطعام بنفسه سرًّا إلى شِعب أبي طالب يقدمه لهم، وعلى هذا الوضع ظل هشام بن عمرو فترة من الزمان، لكنه وجد أن هذا ليس كافيًا، وأنه لا بد من عمل أكبر، فأخذ يبحث عن من يعينه على نقض الصحيفة، والأمر وإن كانت غاية في الصعوبة، فقد وجد هشام بن عمرو ضالته في زهير بن أبي أمية المخزومي، وذلك لأن أمه (أم زهير) من بني هاشم، وهي عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم، عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخت أبي طالب.  

ذهب هشام بن عمرو إلى زهير بن أبي أمية المخزومي، فقال له: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم؟!

وهنا قال زهير: ويحك! ما أصنع وأنا رجل واحد، أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها.

وعلى الفور  فاجأَه هشام بن عمرو بأن قال له: قد وجدت رجلاً، فقال زهير: فمن هو؟ قال: أنا.

ولأن الموقف جِدُّ عسير، فقد رد زهير بقوله: ابغنا رجلاً ثالثًا.

لم ييأس هشام بن عمرو، وقد ترك زهيرًا وذهب إلى رجل آخر، ذهب إلى رجل صاحب أخلاق وإن كان كافرًا، ذهب إلى المطعم بن عدي من بني نوفل، وقد ذكّره بأرحام بني المطلب وبني هاشم، ولامه على موافقته للظلم الذي وقع عليهم، وهنا قال له المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟! إنما أنا رجل واحد.

 قال هشام: قد وجدت ثانيًا. قال: من هو؟ قال: أنا. قال المطعم: ابغنا ثالثًا. وهنا فَاجَأَهُ أيضًا هشام وقال: قد فعلت. قال: ومن هو؟ قال: زهير بن أبي أمية.

ثم  انضم إليهم أبو البختري بن هشام، ذهب إليه هشام وقال له مثل ما قال للمطعم.

إنه في الحقيقة مجهود ضخم يقوم به هشام بن عمرو، وهو ليس بمسلم، وليس من بني هاشم أو بني عبد المطلب، ولكن لشيء كان قد تحرك بداخله، ولمشاعر كانت ما زالت نقية أصيلة. وهذا قد نراه في بعض الكفار المحايدين الآن.

 اجتمع الرجال الخمسة واتفقوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم.

ونكمل في الخطبة الثانية بإذن الله أقول قولي هذا


الخطبة الثانية:

أما بعد فيا أيها الناس: إن الحمية ولو كانت لعرق أو دم، فهي ممدوحة إذا كانت لنفي الظلم وإحقاق الحق؛ كما فعل هؤلاء الخمسة.

ولما كان الصباح ذهبوا إلى المسجد الحرام، ونادى زهير على أهل مكة فاجتمعوا له، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يُباع ولا يُبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تُشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

هنا قام له أبو جهل زعيم مكة وزعيم بني مخزوم، قام يرد عليه وكله حماسة وغلظة، فقال: كذبت، والله لا تُشق.

فقام زمعة بن الأسود وقال: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كُتبت.

ومن بعده قام أبو البختري بن هشام فقال: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقرّ به.

ومن بعده أيضًا قام المطعم بن عديّ، وقال: صدقتما وكذب من قال غير ذلك -يقصد أبا جهل-، نحن نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.

وهنا قام الرجل الخامس هشام بن عمرو، الذي جمع كل هؤلاء فقال مثل ما قاله المطعم، وصدّق المطالبين بنقض الصحيفة.

عندها قال أبو جهل: "هذا أمر قُضِي بليل".

 وأراد الله أن تنتهي هذه المعضلة ويفك الحصار، فحدث أمر آخر قد تزامن مع هذه الأحداث، فقد أوحى الله -سبحانه-  إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن الأرَضَة (دودة الأرض) قد أكلت الصحيفة، ولم تترك فيها إلا ما كان من اسم الله  -سبحانه- .

وبنبأ الأرَضة أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمه أبا طالب، فما كان منه  إلا أن أسرع إلى نادي قريش، وهناك رأى الحوار الذي دار بين الرجال الخمسة وبين أبي جهل، ولما انتهوا من حوارهم تدخل أبو طالب في الحديث، وقال: إن ابن أخي قال: كيت وكيت، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا.

قال زعماء قريش في المسجد الحرام: قد أنصفتَ يا أبا طالب.

وذهبوا إلى الصحيفة في جوف الكعبة، فإذا هي تمامًا كما ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أُكلت بكاملها إلا ما كان فيها من اسم الله  -سبحانه- : "باسمك اللهم"، ظلت آية واضحة.

هنا لم يعدْ أمام زعماء مكة أي خيار، لم يجدوا بدًّا من نقض الصحيفة، وإنهاء المقاطعة بعد ثلاث سنوات كاملة كانت قد مرت من الحصار والتجويع.

نستفيد من هذه القصة، صبر أهل الحق وأن العاقبة لهم، وفيها أن المسلم قد يظلم وينتصر عليه الظلم في البداية  ولكن العاقبة للمتقين، وفيه أن  البلاء والحصار نال النبي -صلى الله عليه وسلم- وصفوة الصحابة فلا غرابة في إصابة من بعدهم بذلك، وفيه أن الكافر قد ينصر الحق وينفي الظلم، وأن الله قد يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر؛ كما ورد في الصحيح.

 فنقول لكل مظلوم محصور من المسلمين اصبروا على ذلك، فلله حكمة والعاقبة لكم أو لأجيالكم من بعدكم، ونقول لبقية المسلمين: لا يكن كفار قريش خير منكم في نفي الظلم والحصار عن المظلومين؛ فكلٌّ يعمل قدر استطاعته.

اللهم أرنا الحق