الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المنجيات |
عبادة الخضوع والانكسار والذل بين يدي الله تغيّر الأحوال، وتبدّل الأوضاع، وتحقق النصر، وتدفع الشر، وتأتي بالفرَج، وتصنع تاريخ الأفراد والمجتمعات والشعوب؛ لأنها للواحد القيوم الذي بيده كل شيء، ولا يعجزه شيء، كل ذلك بعد أن يبذل العبد المستطاع من الأسباب.. وكم نحن بحاجة إلى عبادة الله وطاعته بما أمر! وكم نحن بحاجة إلى هذه العبادة لتتغير أحوالنا وأحوال أمتنا التي تعصف بها الفتن والمشاكل والصراعات وتآمر الأعداء! كم نحن بحاجة لنصدق مع الله لنصنع تاريخاُ مجيداً لأنفسنا وأمتنا وأوطاننا بالبذل والعمل والعطاء والإنجاز وحسن الظن بالله والتوكل عليه.
الخطبة الأولى:
الحمد لله العزيز الوهاب، الغفور التواب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، خلق الخلق فأحصاهم عددًا، وقسَّم أرزاقهم وأقواتهم فلم ينسَ منهم أحدًا.
يا ربي حمداً ليس غيرُك يُحمد | يا من له كل الخلائق تصمدُ |
أبوابُ كلُ الملوكِ قد أوصدت | ورأيت بابك واسعاً لا يوصدُ |
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وهو العظيم القاهر فلا يعجزه أحداً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمام الأنبياء وسيد الحنفاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، أئمة العلم والهدى ومصابيح الدجى وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: عباد الله: لقد شرع -سبحانه وتعالى- على الناس عبادات متنوعة وطاعات مختلفة وقربات متعددة، وأمرهم بالقيام بها وأدائها على أفضل وجه وأحسن حال بنية خالصة يبتغي بها العباد وجه الله، ونيل رضاه، والطمع في جنته، والخوف من عذابه وناره وسخطه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 21، 22]. وقال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)[البينة:5].
والعبادة هي الغاية التي من أجلها أرسل الله الرسل، وبعث الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه يقول سبحانه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل:36]..
والإنسان محتاج للعبادة؛ لأنه مفتقر إلى الله تعالى في كل أحواله؛ لأن الله هو الذي خلقه وأوجده من العدم، ثم أحياه ورزقه وهو الذي بيده -سبحانه وتعالى- موت هذا الإنسان وحياته وسعادته وراحته وقد خاطب الله الناس جميعاً فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15].
والعبادة لها أثر في حياة الإنسان وسعادته وبركة عمره وسعة رزقه بل لها أثر في صلاح أعماله وأهله وأولاده وصحته، بل إنها سببٌ للفلاح في الدنيا والآخرة قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ .فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:1-11]..
وبيَّن -صلى الله عليه وسلم- أهمية العبادة وفضلها وأثرها في حياة المسلم كفرد وحياة المسلمين كمجتمعات وشعوب ودول في سائر أحوالهم وأوقاتهم، سواء أن كانت صلاة أو صيامًا أو حجًّا أو ذِكرًا أو دعاءً أو صدقة أو قراءة للقرآن، أو عمل خير وتقديم نفع أو أمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر أو جهادًا في سبيل الله وغير ذلك, حتى عند نزول البلايا والمصائب والفتن بيَّن -صلى الله عليه وسلم- أهمية العبادة فعن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" (صحيح مسلم: 2948).
قال النووي: "قَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم-: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ"، الْمُرَادُ بِالْهَرْجِ هُنَا الْفِتْنَةُ وَاخْتِلَاطُ أُمُورِ النَّاسِ، وقيل كثرة القتل، وَسَبَبُ كَثْرَةِ فَضْلِ الْعِبَادَةِ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ يَغْفُلُونَ عَنْهَا، وَيَشْتَغِلُونَ عَنْهَا، وَلَا يَتَفَرَّغُ لَهَا إِلَّا أَفْرَادٌ. (المنهاج 18/88) ..
وقال ابن الجوزي: "إذا عمَّت الفتن اشتغلت القلوب، وإذا تعبد متعبد حينئذ دل على قوة اشتغال قلبه بالله عز وجل فيكثر أجره". (كشف المشكل 1/340).
أيها المؤمنون/ عباد الله: والعبادة لها أهمية في حياة الأفراد والمجتمعات والشعوب والأمم، ولعل أعظم مظاهر ذلك القيام بعبودية الله كما أمر وصلاح الأفراد وتتابع النعم وتفشّي القيم العظيمة والأخلاق الحسنة، وانحسار الأخلاق السيئة والقيم الهابطة وحصول الأمن وراحة النفس حتى في أحلك الظروف، ذلك أن الإنسان عندما يتعرض للفتن والمصائب والمحن يطيش عقله وتسوء تصرفاته وتزيد ذنوبه ومعاصيه وتكثر همومه وأحزانه فيخسر دينه ودنياه وآخرته.
ولا يثبت على الحق والخير والمعروف إلا من وطَّن نفسه على طاعة الله، ولم ينشغل بما أصابه عما أوجبه الله عليه قال تعالى: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج:19-23]، وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153] .. وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا ادلهمت الخطوب وكثرة الهموم وتوالت المصائب والابتلاءات لا يجد ملجأ وطريقاً للراحة إلا في عبادته وفي صلاته فكان يقول: "أرحنا بها يا بلال" (صححه الألباني في صحيح أبي داود: 4172).
إن العبادة الصحيحة تُحدِث في حياة الأفراد والمجتمعات والشعوب السمو وتستجلب الرحمات، وتستنزل النصر والتمكين والثبات, ذلك أن من شروط التمكين لدين الله تحقيق العبادة في دنيا الناس، وعلى المسلمين أن يفهموا حقيقة العبادة في القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم، وأن يعملوا على نشر مفهوم العبادة الصحيح في شرايين الأمة؛ حتى تخرج من الأوهام والمغالطات والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان..
إنَّ للعبادة راحةً في القلب وسكينةً في النفس وسَعة وبركةً في الرزق، لا يَشعر بها إلا منْ ذاقَ حقّاً حلاوة الطاعة، وهَجرَ المعاصي والذنوب وأقبل على الله يقيم شرعه ويقتدي بنبيه -صلى الله عليه وسلم- ..
إن المؤمن بعبادته يكون في عز المحنة وشدتها وهولها قوياً ثابتاً، مطمئناً ثقته بوعد الله – وأمله بتوفيقه ولطفه – كبير، فهذا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول لصاحبه وهو في الغار (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]، وقال تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء: 69]، ما أعظم هذه الطمأنينة والسكينة في القلب، والتي تجعل الإنسان المسلم في قمة السعادة وراحة البال ..
فليتك تحلو والحياة مريرة | وليتك ترضى والأنام غضابُ |
إذا صح منك الود فالكل هينٌ | وكل الذي فوق التراب ترابُ |
عباد الله: العبادات في دين الله كثيرة ومتنوعة، بل لا يقوم المسلم بعمل يبتغي به وجه الله وكان صحيحاً إلا كان نوعاً من العبادة، وكان مأجوراً عليها, وهناك عبادات صنعت تاريخ أفراد ومجتمعات وأمم، وأوجدت فارقاً في حياتهم ورفعت مكانتهم ونقلتهم من السلبية إلى الإيجابية، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الشدة والضيق إلى السعة والفرج ..
إنها عبادة الانكسار أمام الله والتضرع بين يديه والخضوع له.. عبادة الانكسار تصنع الانتصار على النفس والشيطان والعدو والظالم .. هذا نوح -عليه السلام- يشكو أمره إلى الله، ويلجأ إلى مولاه، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [الصافات:75-76].كانت المناجاة؛ كان التواصل مع الله، فكانت الإجابة من الرحمن الرحيم: (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [الأنبياء:76]، وقال -عزّ من قائل-: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) [القمر:10-11]..
دعا ربه بخضوع وانكسار وتذلل؛ فنجاه الله ومن معه وأغرق الكافرين وصنع الله بهذا الدعاء تاريخ البشرية الذي ما زلنا نشهده إلى اليوم .. ويوم أن خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى بدر وهم ضعاف وقلة وأثناء مسيرهم إلى بدر لملاقاة قريش نظر إليهم -صلى الله عليه وسلم- فرأى التعب والكدح وضيق العيش على وجوههم، فبطونهم فارغة وأجسادهم عارية حفاة الأقدام، فقراء، فرفع أكف الضراعة واتصل بالواحد الديان وقال: "اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم" (حسنه الألباني في صحيح أبي داود) .
وروى مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- القبلة، وتضرَّع بين يديه ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"، فما زال يهتف بربه مادّاً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك .." فنصره الله ونصر أمة الإسلام التي مازالت إلى اليوم بفضل تلك العبادة والخشوع والخضوع والانكسار بين يدي العزيز الغفار ..
وتصل الأخبار سنة إحدى وعشرين من الهجرة إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن ملك الفرس يزدجرد قد جمع مائة وخمسين ألفًا من رجاله لغزو مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستئصال شأفة الإسلام وأهله؛ فماذا سيفعل عمر وهو يسمع بهذا الجيش الجرار؟! ذهب عمر -رضي الله عنه- إلى المسجد محراب العبادة وغرفة العمليات ومكان التذلل والانكسار بين يدي العزيز الجبار ليجري اتصالاً ربانيًّا عاجلاً؛ لأنه عرف أن القوة بيد الله، وأن النصر يأتي من عنده، ومن يخذله الله فلا ناصر له.
وبعد الصلاة التفت عمر فوجد رجلاً من الصحابة يصلي بخشوع، فإذا هو النعمان بن مقرن -رضي الله عنه-، فلما أكمل قال له عمر: يا نعمان، إني أريد أن أوليك أمرًا عظيمًا. فقال له النعمان: يا أمير المؤمنين: إن كنت تريد أن توليني على أمر من أمور المال وجمع المال وحساب المال فلست لذلك الأمر، إني أخاف الله رب العالمين، فالمال فتنة، وأنا أخشى الوقوع فيها، وان كنت تريدني للقتال في سبيل الله فإنني أناشدك الله أن لا تحرمني الشهادة في سبيل الله.
فقال عمر: أريدك أن تكون قائد جيش المسلمين لملاقاة الفرس بنهاوند.. وتولى القيادة، وسار بجيش المسلمين الذي بلغ عدده ثلاثين ألفًا إلى نهاوند، واصطف الجيشان، وحانت ساعة الصفر، وصمتت الألسنة، ونطقت السيوف، قال النعمان لجيشه: إني سأكبّر ثلاث مرات، وسأدعو الله ثلاث دعوات، فأمّنوا.. وخفقت القلوب، وخشعت الأصوات، وعنت الوجوه. قال النعمان: "اللهم أعزّ دينك! ثم قال: اللهم انصر عبادك! ثم قال: اللهم اجعلني أول شهيد في هذه المعركة".
وأمير المؤمنين عمر هناك في عاصمة الخلافة لا ينام الليل ولا يهدأ له بال حتى تقرحت عيناه من طول السهر والدعاء؛ ينتظر الأنباء في وقت لم يكن فيه إنترنت ولا فضائيات ولا اتصالات..
ودارت المعركة، وكان النعمان أول شهيد، وقُتل من الفرس ثمانون ألفًا، وجرح منهم أربعون ألفًا، وأُسر منهم مَن أُسر، وهرب منهم من هرب، ودخل المسلمون حصون نهاوند يدكونها ويغنمون ما فيها، وكان النصر حليفهم بإذن الله.
وخرج أنس بن مالك والبراء بن مالك مع أبي موسى الأشعري في معركة تستر، فلما حضرت المعركة وبدأت ساعة الصفر، قالوا: يا براء: نسألك بالله أن تقسم على الله أن ينصرنا. قال: انتظروني قليلاً. فاغتسل ولبس أكفانه وأتى بالسيف، ووقف خاشعاً منكسراً متذللاً بين يدي الله وقال: "اللهم إني أقسم عليك أن تجعلني أول قتيل، وأن تنصرنا!"، فكان أول قتيل، وانتصر المسلمون بإذن الله..
ولما خرج الصحابة -رضوان الله عليهم- وأميرهم العلاء بن الحضرمي وانتصفوا صحراء الدهناء، انتهى ماء الشرب، وكان عندهم بئر هناك، ولكن البئر جفت ويبس ما فيها، وحاولوا أن يجدوا الماء فبحثوا وحفروا ولكن لم يجدوا شيئًا، وكانت الخيل تصهل صهيلاً وتبح بحيحًا من الظمأ، وأشرفوا على الهلاك. قالوا: يا علاء بن الحضرمي: ادع الله أن يغيثنا! فوقف العلاء واستقبل القبلة مع الصحابة، وقال: "يا حكيم يا عليم يا عظيم، اللهم أغثنا هذا اليوم"! قالوا: والله ما انتهى من دعائه إلا وسحابة قد غطت المخيم فأمطرت حتى سقوا وغسلوا وشربوا..
ويوم أن فتح المسلمون كابل وطوقوها وقف محمد بن واسع الأزدي يرفع سبابته ويتكئ على رمحه، ويقول: يا حي يا قيوم: انصرنا. فيقول المجاهد قائد المعركة قتيبة بن مسلم: "والله لَأصبع محمد بن واسع عندي خير من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف شاب طرير"؛ لأنه يعرف بمن يتصل عند المدلهمات الطارئة، والقضايا الشائكة...
ولما بلغ البطل ألب أرسلان هجوم رومانوس في اتجاه حصن ملاذ كرد وحصن خُلاط، أسرع إلى أرمينيا ليواجه بجيشه الصغير تلك الجموع البيزنطية الهائلة بقيادة رومانوس .. ولم يتمكن القائد المسلم من جمع أكثر من خمسة عشر ألف جندي سار بهم -رحمه الله- ليواجه بهم مائة ألف مقاتل. لكنه -رحمه الله- كان عظيم الأمل في الله، فجمع فرسانه وخطبهم خطبة قال فيها: "سأقاتل صابرًا محتسبًا، فإن انتصرنا فتلك نعمة من الله، وإن كتبت لي الشهادة فهذا كفني وحنوطي جاهزين، وأكملوا معركتكم تحت قيادة ابني ملكشاه".
وعند ظهيرة يوم الجمعة من عام أربعمائة وثلاث وستين للهجرة (463هـ)، كانت المعركة وقبل أن تبدأ نزل القائد المسلم من على فرسه وعفر وجهه بالتراب وصلى وبكى؛ فبكى الناس لبكائه، وانكسر بين يدي الله ودعا الله فدعا الناس بدعائه، ثم ركب وقال للناس: "ليس عليكم الآن أمير، وكلكم أمير نفسه، من شاء أن ينصرف فليعد إلى أهله".
والتحم الجيشان ودارت المعركة وانتصر المسلمون وقتل من الروم أعداد كبيرة وأسر قائدهم أرمانوس ونصر الله المؤمنين وتحقق فيهم قول الله جل جلاله: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47].. وأصبحت المعركة تاريخاً إلى اليوم لأنها أوقفت التوغل الصليبي في ديار المسلمين لسنوات ..
وهكذا المسلم لا يخضع لله ولا ينكسر بين يديه صادقاً مخلصاً موقناً إلا غير الله من أحواله إلى ما يحب ويرضى ..قال - تعالى -: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة 186]، وقال - تعالى -: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر 60]؟ نسأل الله أن يستعملنا في طاعته وأن يجنبنا معصيته، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل ..
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن للفتن والابتلاءات في حياة الأفراد والمجتمعات والشعوب مقاصد كثيرة، ومنها تربية النفوس وخضوعها للحق والشرع وتضرعها وانكسارها بين يدي الله قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام: 42-44]..
وهذه العبادة حتى تؤتي ثمارها يجب على العبد أن يكون مستقيماً على أمر الله صادقاً مخلصاً موقناً بالإجابة راضٍ بقدر الله وحكمته.
لما وليَ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي العراقَ، وطغى في ولايته وتجبَّر، كان الحسنُ البصري أحدَ الرجال القلائل الذين تصدَّوا لطغيانه، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله، وصدعوا بكلمة الحق في وجهه، فعَلِمَ الحجَّاجُ أن الحسن البصري يتهجَّم عليه في مجلس عام، فماذا فعل؟ دخل الحجَّاجُ إلى مجلسه، وهو يتميَّز من الغيظ، وقال لجلاَّسه: تبًّا لكم، سُحقًا، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة، ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يردُّه، أو ينكر عليه، والله لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء، ثم أمر بالسيف والنطع - إذا كان يُريد قطعَ رأس إنسان بمكان فيه أثاث فاخر حتى لا يلوِّث الدمُ الأثاثَ يأتون بالنطع، والنطع قطعة قماش كبيرة، أو قطعة جلد، إذا قُطع رأسُ من يُقطع رأسُه، لا يلوِّث الدمُ الأثاث.
ثم أمر بالسيف والنطع فأُحضِر، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفا بين يديه، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده، وأمرهم أن يأتوا به، ويقطعوا رأسه، وانتهى الأمرُ، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ، ووجفت عليه القلوبُ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والجلادَ حرَّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج، وعليه جلالُ المؤمن، وعزة المسلم، ووقارُ الداعية إلى الله.
فلما رآه الحجاجُ على حاله هذه هابه أشدَّ الهيبة، وقال له: ها هنا يا أبا سعيد، تعالَ اجلس هنا، فما زال يوسِّع له ويقول: ها هنا، والناس لا يصدَّقون ما يرون، طبعًا طُلب ليقتل، والنطع جاهز، والسيَّاف جاهز، وكلُّ شيء جاهز لقطع رأسه، فكيف يستقبله الحجَّاج، ويقول له: تعال إلى هنا يا أبا سعيد، حتى أجلسَه على فراشه، ووضَعَه جنبه.
ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة بثبات، وبيان ساحر، وعلم واسع، فقال له الحجاج: أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد، ثم دعا بغالية - نوع من أنواع الطيب - وطيَّب له بها لحيته، وودَّعه.
ولما خرج الحسنُ من عنده تبعه حاجبُ الحجاج، وقال له: يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك، دعاك ليقتلك، والذي حدث أنه أكرمك، وإني رأيتك عندما أقبلت، ورأيتَ السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك، فماذا قلت؟ فقال الحسن: "لقد قلت: يا وليَ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته بردًا وسلامًا عليَّ، كما جعلت النارَ بردًا وسلامًا على إبراهيم"..
عبادة الخضوع والانكسار والذل بين يدي الله تغيّر الأحوال وتبدّل الأوضاع وتحقق النصر، وتدفع الشر، وتأتي بالفرَج، وتصنع تاريخ الأفراد والمجتمعات والشعوب؛ لأنها للواحد القيوم الذي بيده كل شيء، ولا يعجزه شيء، كل ذلك بعد أن يبذل العبد المستطاع من الأسباب.. وكم نحن بحاجة إلى عبادة الله وطاعته بما أمر! وكم نحن بحاجة إلى هذه العبادة لتتغير أحوالنا وأحوال أمتنا التي تعصف بها الفتن والمشاكل والصراعات وتآمر الأعداء! كم نحن بحاجة لنصدق مع الله لنصنع تاريخاُ مجيداً لأنفسنا وأمتنا وأوطاننا بالبذل والعمل والعطاء والإنجاز وحسن الظن بالله والتوكل عليه .
عباد الله: داوموا على العبادات والطاعات وأصلحوا أعمالكم وثقوا بربكم وتضرعوا بين يديه ولوذوا بجنابه وانكسروا عند بابه تفلحوا..
اللهم يا من لا تراه في الدنيا العيون، ولا تُخالِطه الظنون، ولا يصِفه الواصفون! يا من قَدَّر الدهور، ودبَّر الأمور، وعلِم هواجس الصدور! يا من عزَّ فارتفع! وذلُّ كلُّ شيء له فخضع، وجهك أكرم الوجوه، وجاهُك أعظم الجاه، وعطيِّتك أعظم العطيِّة، تجيب المضطرَّ، وتكشف الضرَّ، وتغفر الذنب، وتقبل التوب، لا إله إلا أنت..
اللهم غيّر حالنا من الضعف إلى القوة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الذلة إلى العزة، ومن الضلالة إلى الهدى، اللهم كن معنا ولاتكن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، واهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم أصلح أحوالنا، واحقن دماءنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
يا أرحم الراحمين اختم بالصالحات أعمارنا وحقق آمالنا وأصلح أعمالنا وألف بين قلوبنا واحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ..
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين | والحمد لله رب العالمين |