الحيي
كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
فهذه قصة أصحاب الفيل، جعلها الله -تبارك وتعالى- آية لقوته وعظمته وحمايته لبيته، وآيات قوته -تعالى- تبرز عيانا في بعض الأحداث إذا اشتد الخطب وأوشك الناس على الهلاك، فتخترق تلك القدرة الإلهية السنن اختراقا، وتبهر العقول بحكمة يريدها الخالق -تبارك وتعالى-...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ) [سورة الفيل].
حادثة الفيل حادثة هامة في تاريخ العرب، وهي منة من الله -تعالى- بها عليهم؛ ولذلك جاء في سورة قريش التي تلت سورة الفيل: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش:3-4]. فهو الذي أطعمهم وهو الذي أمنهم.
بدأت السورة بسؤال تعجبي: (أَلَمْ تَرَ)؟! هذا يعني أن حادث أصحاب الفيل كان معروفا للعرب، مشهورا عندهم، رآه من شهده منهم بعينيه؛ بل قد جعلوه علامة يؤرخ بها عبر التاريخ، فيقولون: حدث كذا عام الفيل، وحدث ذاك قبل عام الفيل بعامين، وحدث هذا بعد عام الفيل بخمس سنوات، وهكذا.
والمشهور أن مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في عام الفيل، ولعل ذلك من بديع الحكم الإلهية، فكما أن حادثة الفيل منّة من الله على قريش ففي ولادته -صلى الله عليه وسلم- في العام ذاته -أيضا- منّة منه عليهم، بل منّة منه على الإنس والجن أجمعين.
وفي ذلك -أيضا- تذكيرٌ عظيمُ الدلالةِ برعايته -جل وعلا- لهذه البقعة المقدسة التي اختارها لتكون ملتقى النور الأخير، ومحضن العقيدة الخالصة، ومنطلق زحفها المبارك لنشر هذا الدين العظيم، ومقاومة الجاهلية في أرجاء الأرض.
أيها الإخوة: جملة ما تشير إليه الروايات المتعددة حول حادث الفيل أن الحاكم الحبشي لليمن في تلك الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسي منها، تسميه الروايات أبرهة، قد بنى كنيسة في اليمن بصنعاء لم ير مثلها في زمانها يقال لها القليس، وجمع لها كل أسباب الفخامة من رخام وذهب وفضة وحجارة منقوشة، ونصب فيها صلبانا من الذهب والفضة، وجعل فيها منابر من العاج، وكان قد أراد أن يرفع من بنائها حتى يشرف منها على عدن. كانت كنيسة هائلة رفيعة البناء، واسعة الفناء، مزخرفة الأرجاء.
وكان من أهدافه أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة، فقد رأى مدى انجذاب أهل اليمن إلى هذا البيت، إلى بيت الله الحرام، شأنهم شأن بقية العرب في وسط الجزيرة وشمالها كذلك؛ ولكن العرب -بالرغم من تزيينه لكنيسته- لم ينصرفوا عن بيت الله الحرام، فقد كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل اللذين بنيا ذلك البيت، وكان هذا موضع اعتزازهم على طريقتهم بالفخر بالأنساب. عند ذلك عزم أبرهة وحلف ليسيرنّ إلى البيت الحرام حتى يهدمه.
وقاد أبرهةُ جيشا جرّارا تصاحبه الفيلة، وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم، فتسامع العرب به وبقصده، وعز عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم، فوقف في طريقه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة والجهاد عن البيت الحرام؛ فأجابه إلى ذلك من أجابه، ثم عرض له فقاتله، ولكن أبرهة هزمه وأخذه أسيرا.
ثم وقف له في طريقه كذلك نفيل بن حبيب الخثعمي، في قبليتين من العرب، ومعهم عرب كثير، فهزمهم كذلك وأسر نفيلا.
حتى إذا خرج إلى الطائف خرج إليه رجال من ثقيف، فقالوا له: إن البيت الذي يقصده ليس عندهم إنما هو في مكة، ليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه للات في ثقيف، فأكرمهم لاستسلامهم، وبعثوا معه دليلا يقال له أبو رغال يدله على الكعبة.
وخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله مكاناً يقال له المغمس، واسمه في الوقت الحاضر الوادي الأخضر، يحاذي مشعر عرفة من شمالها الشرقي، فلما أنزله به مات أبو رغال، ولما استقر أبرهة بالمغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل حتى انتهى إلى مكة، ثم رجع إلى أبرهة وقد ساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو، أي: عبد المطلب، يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك.
وبعث أبرهة رسولا إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل ذلك البلد وشريفها، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم أت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فأتني به.
فجاء عبد المطلب فقال له ما أمر به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة، فقال الرسول: انطلق معي إليه إذاً؛ فإنه قد أمرني أن آتيه بك.
وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم، فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه على أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلس معه عليه عبد المطلب.
ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي، فقال له أبرهة عند ذلك، قال لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني، ودين آبائك الذي قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه؟ فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه، قال: ما كان ليمتنع مني، قال أنت وذاك.
فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب؛ تخوفا عليهم من معرة الجيش.
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، ثم انطلق هو ومن معه إلى شعب الجبال يتحرزون فيها ينتظرون ما سيفعل أبرهة.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وكان اسم فيله "محمودا"، وعبأ جيشه وهو مجمع على هدم البيت ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة برك الفيل، فضربوه ليقوم فأبى أن يقوم، ثم وجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، وكذلك، إذا وجهوه إلى الشام قام الفيل، ثم إذا وجوهه إلى مكة برك، وأثناء ما هم في محاولاتهم تلك أرسل الله -تعالى- طيرا من البحر أمثال الخطاطيف، ومع كل طائر ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقاره وحجرين في رجليه أمثال الحمص والعدس، لا تصيب أحدا إلا هلك.
فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤوا، وجعلوا يتساقطون صرعى بكل طريق، وأصيب أبرهة معهم، وقريش وعرب الحجاز على الجبال ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة.
فهذه قصة أصحاب الفيل، جعلها الله -تبارك وتعالى- آية لقوته وعظمته وحمايته لبيته، وآيات قوته -تعالى- تبرز عيانا في بعض الأحداث إذا اشتد الخطب وأوشك الناس على الهلاك، فتخترق تلك القدرة الإلهية السنن اختراقا، وتبهر العقول بحكمة يريدها الخالق -تبارك وتعالى-، كما حصل لغلام الأخدود من قبل، وكما حصل لإبراهيم -عليه السلام- مع النار، وكما حصل لموسى -عليه السلام- مع فرعون، وقبله ما حصل لنوح -عليه السلام- في الطوفان، وما حصل لنبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- في غزوة الأحزاب عندما هزم الله جحافل المشركين وحده.
وفي آية أخرى يبين -تعالى- أن من أراد، مجرد إرادة، من أراد بيته بخراب أو حتى بإلحاد فسيلقى عذابه إما في الدنيا أو في الآخرة، قال محذرا -جل وعلا-: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25].
البيت جعله الله مثابة للناس وأمنا مِن مَن قدس أعداء الله وأماكنهم وأماكن عبادتهم ولم يأبه بقدسية بيت الله ولا أرضه الحرام، كما حدث من المارقين الحوثيين بصواريخهم تجاه أطهر البقاع، فرد الله -تعالى- شرهم بتوفيقه لجنودنا الموحدين في صده.
وفي هذا الحدث دليل على أن الباطنيين المارقين عن عقيدة التوحيد لا ينطفئ حقدهم على مر العصور وإن طال بهم الزمن وفرقتهم القرون، كما جرى من القرامطة سنة سبع عشرة وثلاثمائة من الهجرة حينما قتلوا ما يزيد عن عشرين ألفاً من حجاج بيت الله الحرام واقتلعوا الحجر الأسود ونقلوه معهم.