الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | صالح بن عبدالله بن حمد العصيمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
إن لله أقدارًا ماضية وأحكامًا نافذة لا تتبدل ولا تتغير؛ لكمال علمه وتمام قدرته، .. وإن من جملة أقدار الله: ما ينزل من المصائب والبلايا على الناس خاصة أو عامة، فإن الله -عز وجل- يجري من أقداره ما يكون مؤلمًا للنفوس، فالعبد في هذه الدنيا ممسوس بمس البلاء؛ إذ حقيقة الدنيا البلاء والفتنة، يجري الله مسّ البلاء علينا بألوان متعددة.. بشيء من الخوف تتزلزل فيه النفوس، وتضطرب القلوب، وتضيق الصدور.. فالمصائب التي تحل بنا يجريها الله -تعالى علينا بما كسبت أيدينا من السيئات أو ضيعنا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: اتقوا ربكم وكونوا بشرعه متمسكين، وله مخبتين تغنموا في الدنيا والآخرة وتكونوا أبلغ الناس نجاة وسعادة فيهما.
ثم اعلموا -رحمكم الله- أن لله أقدارًا ماضية وأحكامًا نافذة لا تتبدل ولا تتغير؛ لكمال علمه وتمام قدرته، وأنه -سبحانه وتعالى- يفعل ما يريد، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [الحج: 14]، وقال في وصف نفسه: (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [البروج:16]، وقال تعالى: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12].
وإن من جملة أقدار الله: ما ينزل من المصائب والبلايا على الناس خاصة أو عامة، فإن الله -عز وجل- يجري من أقداره ما يكون مؤلمًا للنفوس، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155].
فالعبد في هذه الدنيا ممسوس بمس البلاء؛ إذ حقيقة الدنيا البلاء والفتنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لم يبقَ من الدنيا إلا بلاء وفتنة"، وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- أنه يجري مسّ البلاء علينا بألوان متعددة في الآية الفائتة فذكر سبحانه أنه يبتلينا تارة بشيء من الخوف تتزلزل فيه النفوس، وتضطرب القلوب، وتضيق الصدور.
وتارة يبتلينا بمسّ الجوع فتقرقر البطون وتخوي جوعًا، وتارة نبتلى بنقص في أنفسنا أو أموالنا أو بدننا، كل ذلك من قدر الله -سبحانه وتعالى-.
وإن المؤمنون بقدر الله -عز وجل- يفرحون بما يجريه الله -سبحانه وتعالى- عليهم بعلمهم بأن ذلك عن حكمة بالغة، وإن مما يتعلق به المرء فينتج عند نزول البلاء عليه من السخط والتجزع والاعتراض على قدر الله أمران عظيمان؛ أولهما علمه أنه عبد لله -سبحانه وتعالى- وأنه خلقٌ من خلق الله، وأن الله -عز وجل- يفعل فيه من يشاء.
فأنت أيها المخلوق لم تخلق نفسك، ولكن الله خلقك، وأنت أيها المخلوق لا تملك نفسك، ولكن الله -سبحانه وتعالى- هو مالكك، وللملك -سبحانه وتعالى- أن يفعل بخلقه ما يشاء، فإذا علم العبد أنه خلقٌ من خلْق الله، وأحسن الظن بربه -سبحانه وتعالى- علم أن الله سبحانه أرحم به من نفسه، وأنه -عز وجل- لا يجري عليه شيئًا يكرهه إلا وله فيه المنفعة العاجلة والآجلة.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له"، فإذا علم العبد أن المصيبة التي نزلت عليه هي من تقدير الله -عز وجل- ثم صبر عليها كان ذلك خيرًا له.
والله -سبحانه وتعالى- قال في آخر الآية المتقدمة: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155- 157].
فالصابرون عل ما يجري من الابتلاء لهم الأجر العظيم الذي أخبر عنه -سبحانه وتعالى- بقوله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:157].
والآخر علم العبد أن ما وقع عليه من البلاء هو مما جنته يداه قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]، وقال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].
فالمصائب التي تحل بنا يجريها الله -تعالى علينا بما كسبت أيدينا من السيئات أو ضيعنا الحسنات، فيكفّ الله سبحانه بها عن غيّ الغدرات، ويجريها الله -عز وجل- كفارة للخطيئات ورفعة للدرجات.
فمتى علم العبد هذين الأصلين، وتمسك بهما هانت عليه أمور المصائب والخطوب.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين رب السماوات ورب الأرض رب العرش العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حقًّا حقًّا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صدقًا صدقًا، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد أيها المؤمنون: إن سلوة العبد فيما ينزل الله -عز وجل- عليه من البلاء أن الله -عز وجل- يبتلي صفوة خلقه؛ فإن أشد الناس بلاء هم الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، كما صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يخلُ من البلاء صفوة خلقه الأنبياء والمرسلين والممسوسون بالبلاء من بعدهم يقتدون بمن سبقهم من الأنبياء والمرسلين والصالحين من خلق الله -عز وجل- فيهتدون بهديهم.
وإنَّ الناس من نزول المصائب عليهم يقفون من واحد من مقامات أربع، أولها مقام شكر الله -عز وجل- عن المصيبة، وثانيها مقام الرضا عن الله سبحانه في نزولها، والثالث مقام الصبر عليها، والرابع مقام العجز.
فالمراتب الثالث الأول هي مما أمر الله -سبحانه وتعالى-؛ إما أمر إيجاب أو أمر استحباب، فالمرتبة الثالثة وهي الصبر مأمور بها أمر وجوب كل ما يمسه شيء من البلاء، وأما المرتبتان الأوليان وهما الرضا والشكر فهما مرتبتان مستحبتان لا يترشح إليهما أكثر الخلق.
وأما المرتبة الرابعة وهي مرتبة العجز فإنها مرتبة محرمة لما تتضمنه من الجزاء والتسخط وسوء الظن بالله -سبحانه وتعالى- والاعتراض على قدره.
فلا يجوز للعبد إذا مسَّه ضر من البلاء والمصيبة أن يتجزع، ويتسخط على قدر الله -عز وجل-، وأن يعترض عليه فذلك محرم أشد التحريم، سواء كان ذلك بقلبه أو بلسانه أو بجوارحه وأركانه.
وهو مأمور إما بالصبر عليها، وإما بالرضا والشكر لله -سبحانه وتعالى- على ما أجراه عليه من البلاء لما في عاقبته من عظيم النعماء.
فاتقوا الله أيها المؤمنون في أنفسكم، وائتمروا بأمر شرعكم فيما يجري عليكم من أنواع المصائب والخطوب التي لا يسلم منها أحدٌ، فالناس كلهم ممسوسون بها، ولكنهم يتفاضلون بالمقامات التي يكونون فيها.
وإن من خير الدواء قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من يتصبر يصبره الله، وما أُعطي أحد عطاء أوسع ولا خير من الصبر"، فمن تصبر على ما ينزل به أعانه الله -سبحانه وتعالى- على الصبر.
اللهم اجعلنا من عبادك الصابرين، واجعلنا من عبادك الشاكرين، واجعلنا من عبادك الراضين.