العربية
المؤلف | نبيل العوضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
هذا الحديث بعنوان: "رجالٌ ومواقف" وعلى رأس الرجال: أنبياء الله -عز وجل- ورسله؛ فهذا إبراهيم -عليه السلام- يجمع له الكفار الحطب؛ لإشعال النار لحرقه، لكنه هو الرجل، شهرٌ كامل يُجمع الحطب لحرق نبي من أنبياء الله، بل هو...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: هذا الحديث بعنوان: "رجالٌ ومواقف" وعلى رأس الرجال: أنبياء الله -عز وجل- ورسله؛ فهذا إبراهيم -عليه السلام- يجمع له الكفار الحطب؛ لإشعال النار لحرقه، لكنه هو الرجل، شهرٌ كامل يجمع الحطب لحرق نبي من أنبياء الله، بل هو خليل الرحمن أبو الأنبياء، ليلقى في النار فيحرق، فإذا به يربط بالمنجنيق، ما استطاعوا أن يقتربوا من النار لعظمها.
تخيل! ويمر الطير فوق النار فيسقط من شدة حرها! نار عظيمة تتأجج! فإذا بالمنجنيق يرمى! وإبراهيم -عليه السلام- في الهواء! فيأتيه جبريل في هذه اللحظات العصيبة! ويقول له: ألك حاجة؟!
وفي هذه اللحظات يتعلق الإنسان بأي سبب ولو قشة أو شعرة، أما إبراهيم فقلبه معلق برب البشر، برب الأسباب -جل وعلا-، فقال جبريل: "أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، حسبنا الله ونعم الوكيل"، فيسقط إبراهيم في النار والناس ينتظرون حرقه! فإذا به يقوم في النار! فينفض الغبار عن جسده! ثم يقوم ويكبر ويصلي في النار! قال تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء: 69-70].
رجلٌ وأي رجل يدعو الله أن يرزقه الولد، ولك أن تتخيل رجلاً كبيراً في السن، وامرأته عاقر، ويرزقه الله -عز وجل- الولد على هذه الفترة، وفي هذه السن؛ كيف يتعلق قلب الأب بابنه بعد أن حرم من الولد سنوات، ورزق بالولد على كبر السن؟! تخيل لو كنت مكانه كيف تتعلق بهذا الولد؟
ثم لما كبر الولد شيئاً قليلاً، وبدأ يسعى مع أبيه، ويعينه في العمل، إذا بوحي الله -عز وجل- لإبراهيم: أن اذبح هذا الولد: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الصافات: 102].
ورؤيا الأنبياء حق، فهي وحي من الله -جل وعلا-.
والغريب ليس فقط في إبراهيم -عليه السلام- فهو نبي، وهو رجل كبير، وتربى على التوحيد منذ نعومة أظفاره، لكن الغريب من هذا الصبي الصغير الذي بدأ يسعى، ماذا يرد؟ وماذا يقول أبوه؟ يقول: أريد قتلك، أريد ذبحك، الله -عز وجل- أمرني بهذا، هل تستطيع هذا الأمر؟ بعض الناس لو أمره الله -عز وجل- بأمرٍ بسيط لرده بهواه وبعقله وبشهوته، ويقول: لا أستطيع، ولا يمكن أن أفعل هذا، ولا أقدر عليه، والله يأمر إبراهيم بذبح هذا الولد: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) ماذا رد عليه؟ (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].
الله أكبر! هذا معنى الإسلام، هذا معنى الاستسلام لله.
أما أن يقول الإنسان: أنا مسلم، ثم يرد أمر الله، ويتكبر على شرعه، فأي إسلامٍ هذا؟
الإسلام أن تستسلم لله: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].
لم ينتهِ الاختبار بالأمر فقط، بل جاء إبراهيم بابنه على تلك الصخرة، وحد السكين ليذبحه على تلك الصخرة، وبكل استسلامٍ لله ورضىً بشرعه، يضع الابن وجهه وجبينه على تلك الصخرة، وينتظر من أبيه أن يذبحه: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات: 103].
ووضع على رقبته السكين، ولكن الاختبار قد انتهى، فإذا بإبراهيم ينجح، وإذا بابنه يفوز، وإذا بالنداء من السماء: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الصافات: 104- 105] ففاز في هذا الاختبار.
قد يقول بعض الناس: لِمَ يحرِّم الله هذا؟ ولِمَ يوجب الله علينا هذا؟ ولِمَ منعنا الله من هذا وأباح لنا هذا؟ لا تقل: لِمَ؟
(لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23] نفذ شرع الله -جل وعلا-، فإن تبينت لك الحكمة فبها ونعمت، وإن لم تتبين لك الحكمة فافعل واستسلم لله -عز وجل-.
رجال ومواقف، وعلى رأسهم: نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-، رجلٌ وأي رجل، يذهب إلى الطائف يدعو إلى الله -جل وعلا-، بعد أن عانده وعارضه كفار قريش، فذهب إلى الطائف ماشياً على قدميه، فلما وصل إلى الطائف دعاهم إلى الله فكذبوه، أتعرف ماذا صنعوا؟
لقد تبعوه بالحجارة مع الأطفال والصبيان والعبيد، يرجمونه ويضربونه بها، وهو أفضل من وطئت قدمه الثرى محمد -عليه الصلاة والسلام-، أفضل إنسانٍ خلقه الله -جل وعلا-: "سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر".
سيد الأولين والآخرين يرمى بالحجارة، ومن خلفه؛ إنهم الأطفال والسفهاء والعبيد، حتى خرج عليه الصلاة والسلام، فإذا به يدعو، ولكن، هل سبهم؟ هل شتمهم؟ هل دعا عليهم بالويل والثبور؟ لا والله، أتعرف ماذا قال؟
اسمع وتدبر إلى دعائه، رفع يديه، وقال: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا إله المستضعفين إلى من تكلني؟ إلى قريبٍ يتجهمني؟ أم إلى بعيدٍ ملكته أمري؟ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي سخطك، أو ينزل بي غضبك، لك العتبى حتى ترضى".
وجاءه الملك، فقال له: "مرني يا محمد فلأطبق عليهم الأخشبين -أهل مكة ومن فيها- قال: لا، إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً".
(وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل: 127 - 128].
صبر لكن بعزة، ورضي لكن بغير ذلة، في يوم من الأيام يطوف بالبيت عليه الصلاة والسلام، وحوله ثلاث مائة وستون صنماً، فلما طاف الشوط الأول رائه مشركو قريش وقد جلسوا: عتبة بن ربيعة وهشام بن أمية، وأمية بن خلف وغيرهم، جلسوا في النادي يستهزئون، فلما مر عليهم غمزوه، وتكلموا عليه، فلم يأبه لهم، فطاف، وفي الشوط الثاني غمزوه فلم يأبه لهم وطاف، فلما مر عليهم في الشوط الثالث غمزوه فاستقبلهم، لقد كان يصبر لكن بغير ذلة، وكان يتحمل بعض أقوالهم ولكن بعزة، فجاءهم عليه الصلاة والسلام وقال: "تسمعون معشر قريش -وكانوا يضحكون ويتمايلون من شدة الضحك- أما والذي نفس محمدٍ بيده لقد جئتكم بالذبح" يعني سوف يأتي يوم فيه جهاد، فيه قتال، أما الآن فسلم ودعوة بالتي هي أحسن، ولكن: "أما والذي نفس محمدٍ بيده لقد جئتكم بالذبح" يقول الراوي: فكأنما على رءوسهم الطير، سكتوا وصمتوا، ثم قال أشدهم فيه وصاة -أكثرهم سخرية- قال: انصرف أبا القاسم راشداً فو الله ما كنت جهولاً.
وفي موقف آخر: وهو يصلي عند الكعبة، يأتي أشقى القوم فيرمي على ظهره سلى الجزور؛ نجاسات وقاذورات، فتأتي فاطمة سيدة النساء في الجنة -رضي َالله عنها - وهي جارية، تركض إلى أبيها رسول الله –صلى الله عليه وسلمَ- فتزيل النجس والقذارة عن ظهره، فأتم صلاته ثم استقبل القوم، وقال: "اللهم عليك بهشام، اللهم عليك بعتبة، اللهم عليك بفلان وفلان" يقول الراوي: لقد رأيتهم كلهم صرعى يوم بدر: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر: 45- 46] نعم، توعدهم الله في مكة بالهزيمة، يوم كان المسلمون مستضعفين.
هل سمعتم بأبي يحيى صهيب الرومي؟
هذا الصحابي الجليل الذي جمع في مكة مالاً عظيماً، وصار ثرياً، ولما أذن له بالهجرة وأراد أن يهاجر ما تركه كفار قريش، وقالوا له: جمعت أموالنا وتريد أن تخرج بها، والله لا ندعك، فخرج، فتبعه ما يقارب الثلاثين أو الأربعين فارساً، فقال لهم وهم ينادونه من بعيد ويريدون قتله: والله لا تصلون إلي حتى أضع في كل رجلٍ منكم سهماً، وكانوا جمعاً كثيراً لكنه الشجاع البطل، ومعه قوة الإيمان، وشجاعة الإيمان.
الكفار يحبون الحياة، ويخافون من الموت، أما المؤمنون فهم ضدهم؛ يتمنون الموت ويريدونه، ولهذا فهم أشجع الناس، قال: والله لا تصلون إلي حتى أضع في كل رجلٍ سهماً، ثم أصير بعد إلى السيف فتعلمون أني الرجل، ثم قال: فإن شئتم المال دللتكم على مالي واذهبوا إليه، قالوا: نعم، لا نريد غير مالك، لا يريدون إلا الدنيا وشهواتها، فإذا به يعطيهم كل ما جمعه في هذه السنين، لأجل شيءٍ واحد؛ أن يهاجر إلى رسول الله، وهاجر ولا يملك إلا ما يلبس، كل أمواله ضحى بها لأجل هذا الدين، لأجل هذه العقيدة، فإذا بالنبي -صلى الله عليه وسلمَ- يستقبله، وهو قادمٌ إلى المدينة، ويقول له: "ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحي" فأنزل الله -عز وجل- قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) -يبيع نفسه- (وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [البقرة: 207].
وهذا عمر بن الخطاب؛ هذا الرجل الذي كان ذو شدة وغلظة قبل الإسلام، ولما أسلم وتولى أمر المسلمين، وصار أميراً للمؤمنين تغير، وكان يمشي في الليل ينظر أحوال المسلمين وشئونهم في الليل، فإذا به يرى ناراً من بعيد، فقال لمولاه أسلم: تعال معي نستكشف النار، فإذا به يقرب من النار فيرى عند النار امرأة عجوزاً وعندها أطفال صغار يبكون، وعلى النار قدرٌ ليس فيه إلا الماء، فقال عمر بعد أن سلم: ما شأنكم يا أهل الضوء؟! قالت العجوز: هؤلاء أطفالي وليس في القدر شيء، وضعت النار تحتها أصبرهم حتى يناموا وهم جياع، ليس عندي شيء أطعمهم إياه، ثم قالت المرأة العجوز: والله لئن قدمت على الله لأخاصمن عمر، ومن الذي أمامها؟ إنه عمر وهي لا تدري، فقال عمر بن الخطاب: وما يدري عنك عمر يا أمة الله؟! أي ماذا يعلم عنك وأنت في الصحراء؟ فقالت المرأة العجوز: يتولى أمر المؤمنين ولا يدري عني لأخاصمنه عند الله، فذهب عمر وقال لمولاه أسلم: تعال معي، فذهب إلى بيت المال، فدخل وأخذ كيساً من دقيق، فحمله على ظهره، فقال مولاه: يا أمير المؤمنين! أحمل عنك، فقال له عمر: أو تحمل عني وزري يوم القيامة؟ يقول أسلم: فذهب إليها، وأخذ يصنع طعامها بنفسه، حتى صنع طعامهم، وترك الكيس الطحين عندهم، ثم ذهب من بعيد، فقلت له: يا أمير المؤمنين، نرجع، قال: لا والله، أجلس حتى أراهم يشبعون كما جاعوا، فجلس ينظر إلى الأطفال وهم يأكلون، يقول: فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان، فإذا بعمر بن الخطاب يبكي لامرأة عجوز جاع أطفالها: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23].
سمعتم بعلي بن أبي طالب، الخليفة الراشد -رَضي الله عنه-، بعد أن تولى الإمارة صنعوا له قصراً يسكن فيه ليكون أمير المؤمنين، فلما نظر إليه قال: ما هذا؟ قالوا: قصرك يا أمير المؤمنين، فتولى وهو يقول لهم: قصر الخبال هذا، والله لا أسكنه، قصر الخبال هذا والله لا أسكنه، ورجع إلى بيته القديم.
علي بن أبي طالب يجلس في مصلاه ويقبض بيده على لحيته وهو يبكي، ويقول: يا دنيا، طلقتك ثلاثاً، يا دنيا غري غيري فقد طلقتك ثلاثاً.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 5].
ينزل يوماً من الأيام رضيَ الله عنه إلى السوق، يبيع سيفه بأربعة دراهم، يقول: "والله لو كانت عندي أربعة دراهم أشتري بها إزاراً لما بعت سيفي، وهو أمير المؤمنين! حقاً إنه كما قال: يا دنيا طلقتك ثلاثاً، غري غيري لن تستطيعي عليَّ".
من رباهم وعلمهم؟
إنه نبينا -عليه الصلاة والسلام-، علمهم الشجاعة، علمهم القوة، علمهم الزهد في الدنيا، وعلمهم حب المسلمين، وحب الخير لهم ونشره. ولا زلنا مع أولئك الرجال في الصدر الأول في زمن الخلافة الراشدة.
في غزوة الأحزاب ينادي علي -رَضي الله عنه- أحد المشركين وهو عمرو بن عبد ود، هذا الرجل ينادي في الصحابة ويقول: ألا هل من مبارز؟ هل من مبارز؟ وهو فارسٌ من فرسان قريش، قوي شجاع بطل لا يقوى عليه كل العرب، شجعانها وفرسانها، فينادي هذا الفارس البطل المشرك ويقول: هل من مبارز؟ فقال علي وكان عند الرسول، قال: يا رسول الله! أنا أبارزه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: يا علي! إنه عمرو، دعك -أي اصبر- فنادى في الثانية وقال: هل من مبارز؟ فقال علي: يا رسول الله! أنا أبارزه، فقال النبي لعلي: يا علي! إنه عمرو، فنادى في الثالثة، وقال: ألا هل من مبارز؟ فقال علي: أنا له يا رسول الله، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: اذهب، وكان علي شاباً يافعاً، وعمرو بن عبد ود قد امتلأ بالسلاح والعتاد، ولكنها الشجاعة الإيمانية، إنها البطولة ولكنها تحت ظل رسول الله، ويخرج علي فيقول له عمرو بن عبد ود: من أنت؟ وهو لا يعرفه، فقال: أنا علي بن أبي طالب، قال عمرو بن عبد ود: يا بني! إن في أعمامك من هو أسن منك، فارجع فليأتِ من هو أكبر منك سناً، وأعلم منك بالحرب، فإني لا أريد قتلك، فقال له علي بن أبي طالب: أما أنا فو الله إني أريد قتلك، قال: ماذا؟ فاشتد الصراع، وثارت المعركة، وثار الغبار، فإذا بعمرو يشق درع علي بن أبي طالب نصفين، ويجرح علياً جرحاً، ثم يثور الغبار، ولا يعلم أحدٌ ما الذي حدث، وما الذي يجري في الغبار، فإذا بالصحابة في لحظة من اللحظات كلٌ منهم يكبر.
الله أكبر! الله أكبر! فاستبشر رسول الله، وعلم أن الذي انتصر هو علي بن أبي طالب، فإذا بالغبار يهدأ، وإذا بالمعركة تنتهي، وإذا بعمرو صريعاً في الأرض مضرجاً بالدماء، وعلي بن أبي طالب رافعاً سيفه يرجع إلى صفوف المسلمين، والصحابة يكبرون.
الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! نعم، إنهم رجال وهي مواقف.
وفي غزوة خيبر يخرج ذلك الذي يسمى: مرحباً؛ يهودي لكنه شجاعٌ وبطل، فينادي في الصحابة ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب | شاكي السلاح بطلٌ مجربُ |
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي:
أنا الذي سمتني أمي حيدره | أنا أسد، إذا كنت أنت مرحب فأنا أسد |
أنا الذي سمتني أمي حيدره | كليث غاباتٍ كريه المنظره |
أكيلهم بالسيف كيل السندرة
وتبدأ المعركة، فإذا بعلي بن أبي طالب يقسمه نصفين.
إنهم رجال وهي مواقف: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب: 23].
يستأذن أبو بكر يوماً من الأيام النبي -صلى الله عليه وسلمَ- في إعلان الإسلام، في الدعوة إلى الله، فما أذن له، لا زال الإسلام في بدايته، ثم استأذنه، ثم استأذنه، حتى أذن له النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقام أبو بكر أول خطيبٍ في الإسلام، قام يخطب ويدعو إلى الشهادتين، وإلى توحيد الله، فلما رآه المشركون تآلبوا عليه، وأخذوا يضربونه، حتى جاء الفاسق عتبة، فأخذ نعله ونزعها وضرب بها وجه أبي بكر -رضيَ الله عنه-، حتى سقط على الأرض وكاد يموت، وكاد يقتل، وحملوه إلى بيته وظنوه قد صرع، وهو أبو بكر الذي قال الله فيه: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ) -رسول الله- (وَصَدَّقَ بِهِ) -هو أبو بكر- (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر: 33].
هل سمعتم برجل اسمه: بسر بن أرطأة؟
إليكم خبره، وقد لا تصدقون، ولكن هي الحقيقة، هذا الرجل كان قائداً على سرية، وكانت السرية في مؤخرة الجيش، وكانت تصاب بالسهام من الأعداء ولا يدري من أين تأتيهم السهام، كلما رجعوا ما وجدوا شيئاً، وتتقدم السرية وكل فترة تصاب بالسهام ولا يدري من أين تأتيهم، فإذا به يقول لأصحابه: تقدموا ودعوني، ويتخلف ويتخفى، ويبحث في الشعاب، وفي الوديان لوحده، فإذا به يرى بين الشعاب كنيسة، وعندها براذين -أي: بغال ضخمة- وخيول، فعلم أنها لفرسان فماذا صنع؟ تخفى، وجاء إلى الباب وفتحه ودخل وهم لا يدرون ولا يشعرون، وأغلق الباب وهو لوحده، وبدأ يصارعهم لوحده، ولم يصلوا إلى رماحهم وسهامهم حتى قتل منهم ثلاثة، فلما وصلوا نشبت بينه وبينهم معركة، وأصحابه كانوا على إثره، كانوا خلفه، علموا أنه سوف يحدث أمراً فلما علموا أنه دخل وأنه بدأ يقاتلهم دخلوا خلفه، فلما دخلوا وجدوه مثخناً بالجراح ولم يمت، وكانوا قد شقوا بطنه فوضع يده على الجرح فلم ينزف الدم كثيراً، فدخل أصحابه وقتلوا من قتلوا، وأسروا من أسروا، فلما أسروا من أسروا قال الأعداء للمسلمين: من هذا؟ قالوا: لم تسألون؟ قالوا: مثل هذا لم تلد النساء، مثل هذا لم تلد النساء، مثل هذا لم تلد النساء؛ إنه بشر بن أرطأة: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].
نختم بهذا الموقف؛ إنه لسفيان الثوري مرة أخرى، يتقابل مع عابد الحرمين الفضيل بن عياض -رحمهم الله جميعاً-، عابدٌ مع عابد التقيا، فإذا بهما يتذاكران الله -جل وعلا-، فبكى هذا وبكى هذا، فيقول سفيان من تأثره: إني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا أعظم مجلسٍ جلسناه -أي: أرجو أن يكون عند الله من أعظم المجالس في الدنيا بركة-، فقال له: الفضيل بن عياض: ترجو هذا؟ أما أنا فأخاف أن يكون هذا أعظم مجلسٍ جلسناه علينا شؤماً عند الله، فقال سفيان: ولم ذاك يا فضيل؟! لم تخاف من هذا المجلس الذي ذكرنا الله فيه فبكينا؟! فقال له الفضيل: ألست يا سفيان نظرت إلى أحسن ما عندك فتزينت به لي، وتزينت لك به فعبدتني وعبدتك؟ أي: كل واحد أخذ يرائي الثاني، انظر لاتهامهم لأنفسهم، فأخذ سفيان يبكي حتى علا نحيبه، ثم قال: أحييتني أحياك الله، أحييتني أحياك الله، قال بعضهم:
أيا من ليس لي منه مجيرُ | بعفوك من عذابك أستجيرُ |
أنا العبد المقر بكل ذنبٍ | وأنت السيد الصمد الغفورُ |
فإن عذبتني فبسوء فعلي | وإن تغفر فأنت به جديرُ |
أفِرُّ إليك منك وأين إلاّ | يفرّ إليك منك المستجيرُ |
وأحسن من هذا قول الله -جل وعلا-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
لنرجع إلى الله -جل وعلا-، ولنجعل أولئك الرجال؛ الأنبياء والرسل، والصديقين والشهداء والصالحين، وأولئك الأسلاف، لنجعلهم قدوتنا، ولنتأسَّ بهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90].
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يحشرنا وإياهم في جنة الفردوس، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية:
فهذا تميم الداري يصلي ليلة كاملة بآية واحدة، يرددها ويبكي، وهي آية: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية: 21].
إنهم رجال، تجدهم آخر الليل:
عباد ليلٍ إذا جن الظلام بهم | كم عابدٍ دمعه في الخد أجراه |
وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم | هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ |
كان سفيان الثوري كثير البكاء، وقد قال صلى الله عليه وسلمَ: "عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله".
فمتى آخر ليلة بكيت فيها من خشية الله، وأنت قائمٌ تصلي، أو تقرأ القرآن، أو رافعٌ يديك تدعو الله، سل نفسك هذا السؤال، سفيان كان كثير البكاء، وكان يقول لما سئل: لم تبكِي؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أخاف أن الله يكون قد كتبني من أهل النار، وهو القائم الصائم، العابد الزاهد، العالم الورع، ويقول: "أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أن يكون الله قد كتبني من أهل النار".
هل سمعت بشابٍ يُقال له: عتبة الغلام؟
هذا الرجل له قصص أغرب من الخيال، هذا الشاب كان يقوم الليل، وكان كثير البكاء، بات ليلة من الليالي عند عنبة الخواف، يقول: فسمعته يبكي طوال الليل، وهو يقول: اللهم إن تعذبني فإني لك محب، وإن تغفر لي فإني لك محب، ويسأل الله المغفرة، يقول: فلما جئته في الصباح قلت له: يا عتبة! لم هذا البكاء؟ لم هذا القيام الطويل والبكاء الشديد؟! فقال له: يا عنبة! ذكرت يوم العرض على الله. ثم سقط، فحمله عنبة، وقال له: يا عتبة! قم ما الذي جرى؟ يا عتبة! قم ما الذي جرى؟ ثم أفاق فقال له: يا عنبة، قطع ذكر يوم العرض على الله أوصال المحبين، ثم بكى وقال وهو يخاطب ربه: أراك مولاي تعذب محبيك وأنت الحيي الكريم، يقول عنبة: ثم بكى وأخذت أبكي معه: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة: 16].
أيها الإخوة: هذا اليوم يوم الأحد، وغداً يوم الاثنين، سوف تُرفع الأعمال إلى الله، فيغفر الله -عز وجل- لكل عبدٍ لا يشرك بالله، إلا رجلين بينهما شحناء، رجل بينه وبين أخيه شحناء، وخصومة، وبغض لأجل دنيا، قال: إلا رجلين بينهما شحناء، فيقول الرب -جل وعلا- لملائكته: "أنظرا -أي: أخِّرا- هذين حتى يصطلحا" لا يغفر لهم الذنب حتى يصطلحا، يدخل على الصحابة رجل، فيقول لهم النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "يدخل عليكم رجل من أهل الجنة فإذا برجلٍ يدخل وعلى لحيته آثار الوضوء، ونعلاه تحت إبطيه، وهو رجل عادي حاله حال الصحابة، وفي اليوم الثاني قال: يدخل عليكم رجلٌ من أهل الجنة، فدخل نفس الرجل، وفي اليوم الثالث نفس الرجل، فبات أحد الصحابة عنده، وسأله بعد أيام وقال له: يا فلان! إن الرسول -صلى الله عليه وسلمَ- قال فيك: كذا وكذا، وما رأيتك كثير صلاة ولا صيام ولا عبادة، قال: لم يكن إلا ما رأيت -قيامه مقتصد، عنده عبادة لكن ليست بالأمر الغريب على الصحابة- إلا أنني لا أبيت وفي قلبي على أحد من المسلمين شيئاً. ابن عمر: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا تُطاق".
هل تستطيع أن تنام ولا تحمل في قلبك على أحدٍ من المسلمين شيئاً؟
جرب هذا الأمر.
هل تستطيع أن تكون كأبي ضمضم؟ من هو أبو ضمضم؟ رجل كان إذا أصبح، قال: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي -أي: كل من تكلم فيَّ فقد أحللته، وعفوت عنه، كل يوم في الصباح، يقول: يا رب كل من تكلم في فقد أبحته، وعفوت عنه.. هل تستطيع هذا؟
(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134].
فأنصحك إذا في قلبك على أخيك، أو على صديقك، أو على جارك، أو على أحد أقربائك شيء، أو بينك وبينه خصومة: "لا يحل لمؤمنٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".
لتكن أنت زين العابدين علي بن الحسين -رَضي الله عنه- وعن أبيه، هذا الرجل كان جالساً في مجلس علم، فدخل عليه رجل فسبه وشتمه، وما رد عليه رداً واحداً، ولو أراد لرد، ولقام أصحابه وتلاميذه يضربونه ويقتلونه، ولكنه لم يرض أن يرد لنفسه كلمة واحدة، أتعرف ماذا صنع؟ انتظر إلى الليل، فلما حل الليل ذهب إلى الرجل في بيته وطرق الباب وفتح الرجل الباب، الآن ماذا يريد؟ هل يريد أن يدافع عن نفسه؟ أتعرف ماذا قال؟ قال بعد أن سلم: يا فلان! إن كان حقاً ما قلته فيَّ فغفر الله لي، وإن كان كذباً فغفر الله لك والسلام، وتركه وذهب، فجاء الرجل يتبعه فمسكه في الطريق وحضنه وأخذ يبكي وهو يقول: ادعُ الله أن يحللني، فدعا الله -عز وجل- له، قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134].
لنكن -أيها الإخوة-: كما قال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.