الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم النعيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - الحياة الآخرة |
دعونا في هذه الخطبة الموجزة نتعرف على تيجان الرحمن التي ستُمنح يوم القيامة، وعلى تيجان الشيطان التي ستُمنح كل يوم في هذا الدنيا. لمن ستكون تيجان الرحمن يا ترى؟ فهل تعرفت عليها؟ وهل حرصت على الفوز بأحدها أو بها كلها؟ ولماذا لا تشرئبَ نفسك وتتوق إلى لبسها؟ وما تلك الموانع التي تحول بينك وبين ذلك؟ إن التيجان التي سيمنحها الرحمن لعباده المؤمنين عديدة ومتنوعة، تيجان لم ترَ مثلها عين، ولم تخطر على قلب بشر، من أشهرها أربعة تيجان: تاج الكرامة، وتاج الوقار، وتاج الملك، وتاج النور. ولمن تلك التيجان؟
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يلبس الناس التيجان عادة للزينة، فقد كان الملوك قديمًا يلبسونه رمزًا للملك، وتلبسه النساء حاليًا في المناسبات والأفراح، وقد يمنح الواحد تاجًا لأنه حقق فوزًا ونجاحًا، فمن ألبس تاجًا فقد حقَّق إنجازًا عظيمًا في أمر ما.
والتَّاجُ مَا يُصَاغُ لِلْمُلُوكِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ، وهو علامة للعز والشرف.
والرحمن -جل جلاله- سيُلبِس بعض أوليائه الصالحين أنواعًا من التيجان يوم القيامة، نظير أعمال صالحة قاموا بها، فمن هؤلاء يا ترى الذين سيفوزون بتيجان الرحمن؟
كما أن الشيطان الذي أمرنا الرب -جل وعلا- أن نتخذه عدوًّا يحاول جاهدًا إضلالنا عن الصراط المستقيم ويدفع أتباعه من الشياطين إلى بذل قصارى جهدهم لإيقاعنا في شتى المعاصي والذنوب، بل إنه يخص بعض أولئك الأتباع بمزيد من القرب والحفاوة والتكريم الشيطاني، بمنحهم تيجانًا شيطانية نظير جهودهم في إضلالنا، ولن يَمنح هذه التيجان لكل من أغوى مسلمًا، وإنما لكل من أوقع مسلمًا في بعض كبائر الذنوب والتي أهمها: الزنى والشرك والقتل.
دعونا في هذه الخطبة الموجزة نتعرف على تيجان الرحمن التي ستُمنح يوم القيامة، وعلى تيجان الشيطان التي ستُمنح كل يوم في هذا الدنيا.
لمن ستكون تيجان الرحمن يا ترى؟ فهل تعرفت عليها؟ وهل حرصت على الفوز بأحدها أو بها كلها؟ ولماذا لا تشرئبَ نفسك وتتوق إلى لبسها؟ وما تلك الموانع التي تحول بينك وبين ذلك؟
إن التيجان التي سيمنحها الرحمن لعباده المؤمنين عديدة ومتنوعة، تيجان لم ترَ مثلها عين، ولم تخطر على قلب بشر، من أشهرها أربعة تيجان: تاج الكرامة، وتاج الوقار، وتاج الملك، وتاج النور.
ولمن تلك التيجان؟
إنها لثلاثة أصناف: لحافظ القرآن، ولوالدي حافظ القرآن، وللشهيد. هكذا صحَّت الأحاديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، كان ذلكم هو الموجز وإليكم التفصيل والبيان من أحاديث سيد الأنام –صلى الله عليه وسلم-.
(أولاً) تاج الكرامة وتاج الوقار وتاج الملك:
فهذه التيجان الثلاثة كلها ستمنح لصاحب القرآن حسب درجة ملازمته للقرآن، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "يَجِيءُ صاحب الْقُرْآن يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ القرآن: يَا رَبِّ حَلِّهِ –أي ألبسه الحلية- فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثم يقول: يا رب زده، يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، ويقال له: اقره وارقه، ويزاد بكل آية حسنة" (رواه الترمذي والحاكم).
وفي رواية لأبي هريرة –رضي الله عنه- أنه قال: "اقرؤوا الْقُرْآنَ، فإنه نِعْمَ الشَّفِيعُ يوم الْقِيَامَةِ، انه يقول يوم الْقِيَامَةِ: يا رَبِّ حَلِّهِ حِلْيَةَ الْكَرَامَةِ، فَيُحَلَّى حِلْيَةَ الْكَرَامَةِ، يا رَبِّ اكْسُهُ كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ، فَيُكْسَى كِسْوَةَ الْكَرَامَةِ، يا رَبِّ البسه تَاجَ الْكَرَامَةِ، يا رَبِّ أرض عنه، فَلَيْسَ بَعْدَ رِضَاكَ شَيْءٌ" (رواه الدارمي).
فالذي يكثر من قراءة القرآن آناء الليل ويقوم به، سيُلبس تاج الكرامة، وذلك لما رواه عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "يجيء القرآن يشفع لصاحبه يقول: يا رب لكل عامل عمالة من عمله, وإني كنت أمنعه اللذة والنوم فأكرمه، فيقال: ابسط يمينك، فيملأ من رضوان الله, ثم يقال: ابسط شمالك، فيملأ من رضوان الله, ويكسى كسوة الكرامة ويحلى بحلية الكرامة, ويلبس تاج الكرامة" (رواه الدارمي).
وأما من يزيد على ذلك ويكثر من قراءته في النهار أيضا، فسيُلبس تاج الوقار، وذلك لما رواه أبو هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب، يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أسهر ليلك، وأظمئ هواجرك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين، لا تقوم لهم الدنيا وما فيها، فيقولان: يا رب أنى لنا هذا؟ فيقال: بتعليم ولدكما القرآن" (رواه الطبراني). والوقار هو الرزانة والحلم.
فهل أنت من أصحاب القرآن الملازمين له بالليل والنهار؟ أم من أصحاب الملاهي والفنون والملاعب؟!
وروى بريدة الأسلمي –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ، أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَأَنَا لَكَ الْيَوْمَ وَرَاءَ كُل تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكَسَا وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لاَ تَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولاَنِ: بِمَا كُسِينَا هذا؟ فَيُقَالُ لَهُمَا: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ: اقْرَأُ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هاذَا كَانَ أَوْ تَرْتِيلاً" (رواه أحمد).
كما أن تاج الوقار سيمنح أيضًا للشهداء، والجهاد كما نعلم ذروة سنام الإسلام، مما يؤكد على شرف الحصول على مثل هذا التاج العظيم القدر، فعن عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سبع خِصَالٍ: أن يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ من دمه، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، ويحلى حلة الإيمان، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْه خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ" (رواه أحمد والطبراني).
تأمل في فخامة هذا التاج الذي يحتوي على ياقوت، والياقوتة الواحدة منه خير من الدنيا وما فيها. فما بالك بالتاج برمته، فهل يمكن مفاضلته بالدنيا؟ كلا والله وألف كلا.
فإذا لم تستطع أن تجاهد لتلبس هذا التاج، فيمكنك أن تنال منزلة الشهداء بأن تسأل الله تعالى بصدق هذه المنزلة الرفيعة لعلك أن تحظى بهذا التاج الذي لا يقدر بثمن.
فقد روى سهل بن حنيف –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ" (رواه مسلم).
فالأمر يسير جدًّا، ويحتاج إلى صدق في النية، لتنال تاج الوقار، وما أدراك ما تاج الوقار، نسأل الله العظيم أن يمنَّ علينا بكرمه بالشهادة في سبيله وأن يلبسنا هذا التاج بفضله.
وأما من عمل بالقرآن فيلبس تاج الملك، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "يتمثل القرآن يوم القيامة، فيؤتى بالرجل قد كان حمله [فخالف أمره]، فيتمثل خصمًا دونه، قال: فيقول: يا رب، حملته إياي، فشر حامل، تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: فشأنك به، فيأخذ بيده ما يرسله حتى يكبه على صخرة في النار، ويؤتى بالعبد الصالح قد كان حمله فحفظ أمره، فيتمثل خصما دونه فيقول: يا رب، حملته إياي فكان خير حامل، حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب معصيتي، وعمل بطاعتي، وما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال [له]: شأنك به، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكسوه حلة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر" (أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه).
فحَمَلَة القرآن هم الذين يحفظونه ويعملون به، وقال القاري -رحمه الله تعالى- في معنى حامل القرآن: أي إكرام قارئه وحافظه ومفسره اهـ، ولذلك كان من حق حملة القرآن إكرامهم وتوقيرهم.
فعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ، غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ" (رواه أبو داود).
هذا التاج من نصيب والدي حافظ القرآن، نعم إنها كرامة وحفاوة لولدهما الذي حفظ كلام الله وعمل به، وتكريمًا لهما؛ لأنهما دفعا ولدهما لحفظ كتاب الله، وقد يكونا جاهلين أميين، ولكن فضل الله تعالى ليس له حد، فعن بريدة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به أُلبس والداه يوم القيامة تاجا من نور، ضوؤه مثل ضوء الشمس، ويُكسى والداه حلتين لا يقوم لهما الدنيا, فيقولان بم كسينا هذا؟ فيقال بأخذ ولدكما القرآن" (رواه الحاكم).
تأمل -رحمك الله- في عبارات الحديث حين قال الوالدان: "بما كسينا هذا"؟ فهما لم يستطيعا كتم فرحتهما وبهجتهما بهذا التاج المبهج، فاستفسرا بما كُسينا هذا؟ لعلمهما أنهما لا يستحقان هذا الثواب العظيم، وأنهما ليسا من حفظة كتاب الله، فكان الجواب "بأخذ ولدكما القرآن".
ما أعظمها فرحة! وما أجزله من ثواب! فما شعورك إذا رأيت والديك يلبسان هذا التاج يوم القيامة وهما فرحان أشد الفرح؟ فكيف سيكون فرحك؟ وكم ستبلغ سعادتك إذا كنت أنت سبب فرحهما؟
فإن استطعت أيها الابن البار أن تُلبس أبويك تاج النور وتكسيهما حُلتين يوم القيامة لا يقوم لهما الدنيا فافعل، فمِن أعظم البر لوالديك وأفضل هدية تقدمها لأبويك أن تحرص على أن تلبسهما هذا التاج، ولا يتأتى لك ذلك، إلا بكثرة تلاوة القرآن، وتعلمه والعمل به، وإذا أردت أن تحظى بهذا التاج أيضًا، فاحرص على تسجيل أبنائك في حلقات تحفيظ القرآن ليحفظوا كتاب الله، لتلبس أنت وزوجك تاجًا من نور يوم القيامة، فتقولا بإذن الله: بما كسينا هذا؟ فيقال لكما: بأخذ ولدكما القرآن.
وأما من كان يصدُّ أولاده عن القرآن، ويمنعهم من التسجيل في حلقاته؛ فهذا إنسان محروم من هذا الثواب، وقد يناله العقاب، والعياذ بالله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى والزموا كتاب الله تفلحوا، الزموه تلاوة وحفظًا وتطبيقًا تكونوا من أصحابه، ويكرمكم الله تعالى بإلباسكم تيجان يوم القيامة.
أيها الإخوة في الله: إن الشيطان الذي أمرنا الرب -جل وعلا- أن نتخذه عدوًّا يحاول جاهدًا إضلالنا عن الصراط المستقيم ويدفع أتباعه من الشياطين إلى بذل قصارى جهدهم لإيقاعنا في شتى المعاصي والذنوب، بل إنه يخصُّ بعض أولئك الأتباع بمزيد من القرب والحفاوة والتكريم الشيطاني، بمنحهم تيجانًا شيطانية نظير جهودهم في إضلالنا، ولن يَمنح هذه التيجان لكل من أغوى مسلمًا، وإنما لكل من أوقع مسلمًا في بعض كبائر الذنوب والتي أهمها: الزنى والشرك والقتل.
تيجان الشيطان:
أما الصنف الثاني من التيجان فإني أعيذك بالله منها، لأنها تيجان شيطانية، يمنحها الشيطان لبعض أوليائه؛ فيتشرف لها كل شيطان أوقع مسلمًا في كبيرة من كبائر الذنوب، ولكن من الذي سيحظى منهم بذلك التاج؟ دعونا نسمع ما قاله الصادق المصدوق –صلى الله عليه وسلم- عن مخطط إجرامي شيطاني يحدث يوميا ضد المسلمين بالذات.
فعن أبي موسى –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أصبح إبليس بثَّ جنوده فيقول: من أخذل اليوم مسلمًا ألبسته التاج، قال: فيجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى طلق امرأته، فيقول: يوشك أن يتزوج، ويجيء لهذا فيقول: لم أزل به حتى عقَّ والديه، فيقول: يوشك أن يبرهما، ويجيء هذا: فيقول لم أزل به حتى أشرك، فيقول: أنت أنت، ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى قتل، فيقول: أنت أنت، ويلبسه التاج" (رواه ابن حبان).
وفي رواية أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ. قَالَ: فَيَخْرُجُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَيَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَيَجِيءُ هَذَا فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَقَّ وَالِدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَوْشَكَ أَنْ يَبَرَّ، وَيَجِيءُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أَشْرَكَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيَجِيءُ، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى زَنَى فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيَجِيءُ هَذَا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيُلْبِسُهُ التَّاجَ" (التعليقات الحسان: 9/37).
وتأمل في الحديث تجد أن للشيطان تاجًا واحدًا فقط، أو نوعًا واحد من التيجان، فالحديث يقول: "ألبسته التاج"، فهو مُعرف بالألف واللام.
ولعل سائلاً يقول: كيف نجمع بين الحديثين السابقين والحديث الذي رواه جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ، قَالَ الأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ فَيَلْتَزِمُهُ" (رواه مسلم).
ويمكن الجمع بين الروايتين أن إبليس يُدني منه أكثر الشياطين فتنة، بناء على أعظم الفتن كل يوم، فإذا اجتمع عقوق والدين وطلاق وزنى وقتل، كان الزنا والقتل أعظم فتنة؛ لأنها ذنوب لا يمكن إصلاحها وترقيعها، وإذا جاءت فتن دنيا مع فتنة طلاق، كانت فتنة التفريق بين الزوجين أعظمها فتنة، وهكذا.
وتأمل في الحديث الأخير أن إبليس قرَّب إليه من فرَّق بين زوجين والتزمه، ولكن لم يلبسه التاج، وإنما كان التاج لمن قتل مسلمًا. فكأن الحديث يوضح حرص إبليس -أعاذنا الله منه - على نشر القتل في أوساط المسلمين، وأنه هدف أسمى يسعى إليه، ويكافئ أتباعه يوميًّا عليه.
وإن ظاهرة القتل من الظواهر التي كثرت في مجتمعنا، وأصبحت الجرائد لا تخلوا أخبارها اليومية عن جريمة قتل أو انتحار، مما لم نكن نسمعه من قبل.
وأشارت الأحاديث الأخرى أن أقرب الشياطين منزلة من إبليس هم أكثرهم فتنة ونشرًا للفساد في أوساط المسلمين، خصوصا الطلاق والعقوق والشرك والزنا والقتل.
ثم تأمل مرة أخرى في أعظم الفتن والمعاصي التي يحرص عليها جنود إبليس كل يوم: الشرك والزنا والقتل وعقوق الوالدين والتفريق بين الأزواج، فكلها عظائم، وكبائر ذنوب، فجنود إبليس من الشياطين يتقربون إلى إبليس بإضلال المسلمين ودفعهم إلى ارتكاب كبائر الذنوب وأعظم الفتن في المجتمع.
فالطلاق تفكيك للأسرة، وتفريق بين المسلمين، وقطع للأرحام، وتشريد للأولاد.
وعقوق الوالدين جحود وتنكُّر لفضلهما.
والشرك انفكاك عن العبودية لله عز وجل وانقطاع عنها.
والزنا هتك للأعراض، وخلط للأنساب، وتفكيك لروابط الأسرة المسلمة.
والقتل قطع لحياة الفرد بغير حق.
إن تيجان الرحمن -عز وجل- ستُمنح يوم القيامة، فهي باقية، وتيجان الشيطان تُمنح في الدنيا، وهي فانية، بل ومن وراءها نار حامية. فأي التيجان تريد أن تلبسها يا عبد الله؟ أدع لك اختيار الجواب، وصلِّ اللهم على النبي الأواب –صلى الله عليه وسلم-.
اللهم اجعلنا من أصحاب القرآن...
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، ..
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت،
اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا،
اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا
اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا..