الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالرحمن الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - أركان الإيمان |
إن من البيان والنصح الذي بلغه وبيَّنه وقدَّمه سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لأمته: ما ستواجهه في قادم أيامها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبخاصة ما يتعلق بالفتن وأنواع الشرور التي تضر بها، وتؤدي بها إلى أحوال سيئة، فقد أبدى وأعاد عليه الصلاة والسلام في هذا الباب، فما بقي لمعتذر عذر، ولا لمتحجج حجة.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فاعلموا -رحمكم الله- أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
واعلموا -رحمكم الله- أن نبينا محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- ما ترك شيئًا به سعادة الناس وطيب معاشهم، وهناءة معادهم إلا بيَّنه أتم البيان، ولا شرًّا وضرًّا إلا حذَّر منه، وبيَّنه أتم البيان، فما انتقل إلى ربه إلا وقد بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.
فجزاه الله خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وآتاه الوسيلة والفضيلة، وبعثه مقامًا محمودًا الذي وعده، ورزقنا الله شفاعته وصحبته، والقرب من مجلسه يوم القيامة، والشرب من حوضه الشريف شربة لا نَظمأ بعدها أبدًا، صلوات ربي وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المؤمنون: وإن من البيان والنصح الذي بلغه وبيَّنه وقدَّمه سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لأمته: ما ستواجهه في قادم أيامها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبخاصة ما يتعلق بالفتن وأنواع الشرور التي تضر بها، وتؤدي بها إلى أحوال سيئة، فقد أبدى وأعاد عليه الصلاة والسلام في هذا الباب، فما بقي لمعتذر عذر، ولا لمتحجج حجة.
ومن هذه البيانات وأساليب التوجيه: مما أخبره الله -جل وعلا- به من غيب سيكون في قادم الأزمان بعد عصره، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام؛ ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت" هذا حديث ثابت عنه عليه الصلاة والسلام (رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والبغوي في شرح السنة وغيرهم، وجاء من طرق متعددة من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- وثوبان -رضي الله عنه-).
وهذا الحديث العظيم هو نوع من الغيب الذي أُخْبِره نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- من ربه -جل وعلا-، وما سيكون في قادم الأزمان من بعد عصره عليه الصلاة والسلام؛ حيث قال: "ولكنكم غثاء كغثاء السيل" يعني فيما يكون بعد عصر الصحابة -رضي الله عنهم-.
وهذا الحديث العظيم الغرض منه والقصد فيه أن تكون الأمة على ما أراد الله -جل وعلا- جميعًا؛ سواء كان ذلك بدولها وحكوماتها، أو أفرادها وشعوبها.
ومعنى أن يكونوا على ما أراد الله -جل وعلا-: أن يكون همهم وقصدهم عبادته سبحانه، وإرادة وجهه والدار الآخرة، وألا يتعلقوا بالدنيا لذاتها، وإنما يجعلوها قنطرة إلى ما عند الله -جل وعلا- من الرضوان وحسن العقبى، وأن يحذروا مما يكون من أعدائهم؛ فإن أعداء هذه الأمة لن يزالوا حريصين على إلحاق الأضرار بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "يوشك الأمم" يعني أن هذا الأمر قريب أن يكون؛ لأن هذا الفعل "يوشك" كما يسميه علماء اللغة من أفعال المقاربة؛ أي: يقرب أن يكون من الأمم، والأمم المعنيَّة هنا هي أمم الكفر والضلالة.
"أن تَداعى عليكم" بمعنى: أن يدعو بعضهم بعضًا لأجل الاعتداء عليكم ومقاتلتكم، وسلب ما ملكتموه من ديار وأموال، وما عندكم من خيرات، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: "كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" بمعنى: أنهم يشاهدون ما في أيديكم من أنواع الخير الذي يَفيئه الله عليكم.
وهذا أمر مشاهد فإن أراضي أمة الإسلام اليوم فيها من أنواع الخيرات والبركات، وما أخرجه الله لهم من باطن الأرض، وما أفاءته الزروع والثمار، وما جرت به الأنهار، وما هو على حافَات البحار من أنواع الخير، ما يُحقق الاكتفاء الذاتي لهذه الأمة لو أحسنت إدارة شؤونها، وما في أيديها من هذه النعم والخيرات.
فقوله عليه الصلاة والسلام: "كما تداعى الأكلة" يعني بذلك: الأكلة جمع آكل، وهو أنهم يشاهدون بما أيدي المسلمين، "كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، حينما يجتمع الآكلون على القصعة، وهي الإناء والوعاء الكبير المليء بالطعام الذي لا يُمنع منه أحد لكثرته ووفرته، ولعدم وجود مانع يمنع مريد الأكل أن يأكل ويشارك في ذلك، فهذا يصور به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما يكون من السطوة والهجوم الذي يكون من أمم الضلال والتهور الذي يدفعهم؛ لأن يكونوا مندفعين إلى أن يهجموا، وإلى أن يتسلطوا على المسلمين؛ طمعًا فيما في أيديهم فيما أفاءه الله -جل وعلا- من أنواع الخيرات.
والمقصود أنهم حينما يتداعون إلى ذلك بلا مانع ولا منازع، فيأكلون من ذلك عفوًا وصفوًا، لا مُكدر عليهم فيما ينالون ومما يأخذون، ولذلك فإن هذا الوصف يوضح أيضًا أنهم حينما يتداعون إلى هذا الأمر، فإنهم يطلبون أيسر السبل التي يأخذون من خلالها ما بأيدي المسلمين؛ بلا ضرر يلحقهم، ولا شر يصيبهم، ولا غير ذلك مما يفقدونه من أنفسهم.
والمقصود أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقرر في هذا الحديث قُرب تسلُّط فِرَق الكفر والضلال؛ حيث يدعو بعضهم بعضًا مع اختلاف مِللهم وتبايُنِ مشاربهم وعقائدهم، لكنهم يجتمعون جميعًا على حرب أمة الإسلام والطمع فيما أفاء الله عليهم؛ ليكسروا شوكة المسلمين، ويغلبوهم، ويأخذوا ما ملَّكهم الله إياه من الديار، وما أفاء عليهم من الخيرات، وحينئذ يأتي السؤال من الصحابة -جزاهم الله خيرًا، ورضي عنهم- ليُبينوا حقيقة هذا الأمر، وهذا الحال الذي سيكون قطعًا بخبر مَن لا ينطق عن الهوى؛ قال قائل: "ومن قلة نحن يومئذ؟" هل تصير لنا هذه الحال بسبب قلة أعدادنا وكثرة أعداد أعدائنا؟
فإذا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يجيب إجابة وكأنما يطلعه الله على ما سيكون من حال أمة المسلمين؛ حيث يتزايد عددها كما وقع في عصور سالفة لأمة الإسلام، حينما تسلط عليهم الأعداء كانوا عشرات الملايين، ولا يزال عددهم يزيد إلى أن يبلغوا المليار أو يزيد على ذلك، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "أنتم يومئذ كثير" أي: عدد كبير، وليس فيكم قلة في أعدادكم.
"ولكنكم غثاء كغثاء السيل" قال العلماء: غثاء السيل هو ما يحمله السيل من زبد ووسخ، ونحو ذلك مما يقذف به السيل حينما يسير في الوادي، فيحمل الأعشاب اليابسة، ونحو ذلك مما يكون من المخلفات.
وفي هذا تشبيه من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أن هذا العدد يفتقد النوعية والجودة، يفتقد الإنتاج، يفتقد الآثار المباركة؛ وذلك لقلة شجاعتهم، ولدناءة آمالهم، ولتعلُّقهم بتوافه الأمور، فلا يلتفتون إلى معاليها ولا إلى شريفها، وإنما هِمم متدنية وأفعال غير منتجة، ولذلك يصيرون كمثل هذه الحال: "غثاء كغثاء السيل".
ثم يصف النبي -صلى عليه وآله وسلم- الحال أيضًا، ويُبينها أكثر أن هذا الحال الذي يكون عليه المسلمون من كثرة عددهم وقلة أثرهم، ودُنو آمالهم، وتعلُّقهم بسفاسف الأمور؛ أنه يصاحبه أيضًا أنه تنزع المهابة من قلوب الأعداء نحو المسلمين، فلا يهابونهم ولا يخافونهم؛ حيث يزيل الله هذه المهابة التي من آثارها لو صدق المسلمون أن يكونوا كما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه نُصِر بالرعب مسيرة شهر، ولمن تبِعه واقتفى سنته نصيبٌ من هذا النصر العظيم الذي هو أوائل تحقُّق النصر، وهو أن يكون الرعب في قلوب الأعداء، ولذلك يكون كما في وصف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هنا، بعد أن تذهب همة المسلمين وتقل عنايتهم بدينهم، ويَقِل تعلُّقهم بالآخرة، أن المهابة وهو الخوف والرعب يُزال من قلوب أعدائهم نحوهم.
وعلى الضد من ذلك أن الله يعاقب هذا العدد الكبير من أمة الإسلام بعد أن بُيِّن لهم وأُنعِم عليهم، ثم تولَّوْا عما أُمِروا به أن الله -سبحانه- يقذف في قلوبهم الوهن.
والمعنى أن الله يجعل فيهم أيضًا الوهن، والوهن كما هو ظاهر ومفسر في اللغة هو الضعف؛ كما قال تعالى في شأن الأم: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) [لقمان: 14] ضَعفًا على ضَعفٍ، ولكن جاء السؤال أيضًا من بعض الصحابة -رضي الله عنهم-: وما الوهن يا رسول الله؟ لعله سبق إلى ذهن الحاضر أن الوهن له معنى محدد، وقد سأل عنه، فجاء بيان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بيانًا أكثر مما تقتضيه اللفظة اللغوية، فقال: "الوهن هو حب الدنيا وكراهة الموت"، والمعنى في ذلك، وإن كان كل منهما يؤدي إلى الآخر، لكن يكون في وصف هذه الحال أن ثمة نوعًا من الوهن وهو أن يكون ثمة تعلق بالدنيا، وكراهية للموت، وليس المقصود في قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في تعريفه للوهن بأنه حب الدنيا وكراهية الموت.
المعنى الظاهر أن الإنسان لا يحب الدنيا، وأن الإنسان يكره الموت، فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود منه الجانب السيئ الذي يحمل الإنسان على حب الدنيا وأموالها، وحب البقاء فيها على سبيل الدعة والقعود عن العمل، ونسيان الآخرة، وليس المقصود بكراهية الموت المعنى الظاهر لأول وهلة فكلنا يكره الموت؛ كما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لَمَّا سمِعت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كرِه لقاء الله كره الله لقاءه"، قالت: أكراهية الموت، فكلنا يكره الموت"، فوصف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا المعنى وشرحه بأنه ليس هو المعنى الظاهر من كراهية الإنسان الطبيعية للموت، ولكن المعنى قال: إن المؤمن إذا حضره أجله، وبُشِّر بما عند الله من الكرامة، أحب لقاء الله (تعجَّل الموت) كأنما يقول للملائكة مع ملك الموت: عجلوا بقبض الروح؛ كيما أنتقل للقاء ربي، وأنال ما وعدني ربي من الكرامة، قال: وأما الفاجر، فإنه إذا حضره الموت ورأى ما أعد له من سخط الله وعقوبته، كره الموت وكره هذه النقلة، وكره الله لقاءَه.
وهكذا هو المعنى في هذا الحديث أن المؤمنين لو صدقوا في إصلاح أنفسهم وإصلاح دنياهم، وتشوفوا إلى ما عند الله، فلن تكون الدنيا محبوبة عندهم لذاتها، فهم يعمرونها كما أمر الله -جل وعلا-، ويهيؤونها بالخير والعدل، ونشر البر، وإيتاء الحقوق والعدل، ومنع الظلم وتهيئة الأحوال على ما أرد الله -جل وعلا-، وهم بذلك على نسق ما وصف الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].
فهم في هذه الدنيا رحمة على الجميع؛ على المسلمين، وعلى غير المسلمين، على الكائنات من الحيوانات والطير والوحش، وعلى غير ذلك.
فهم في كل مجال يسيرون فيه ينشرون الخير والبر، ويحسنون إلى الجميع، ولذلك كان الصحابة -رضي الله عنهم- على هذا المنوال الكريم، طلَّقوا الدنيا ولم يحبوها لذاتها، وتشوَّفوا لموعود الله، فآتاهم الله في الدنيا وسيؤتيهم الآخرة بفضله وإحسانه جل وعلا، ولذلك لَمَّا وصف أحد القادة من غير المسلمين جيشَ المسلمين وهو يُبين لرئيسه ومَلِكِه، قال له: نواجه قومًا يحبون الموت كما يحب جندك الحياة، فأرادوا الموت شهادةً في سبيل الله ونُصرة لدينه -جل وعلا-، فوهبهم الله الحياة، ولكن ليست أي حياة، وإنما هي الحياة الكريمة حياة العز والشرف.
وبهذا يتبيَّن -أيها الإخوة المؤمنون- أن هذا الوصف النبوي البليغ يشخص أسباب ضعف المسلمين، وكيف أنهم إن التفتوا إلى الدنيا ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم فيها، فإنهم سينالون ضد ما أرادوا، وسيُسلط عليهم أعداءهم، وهذا المشهد تكرر في أحقاب متوالية في الدول الإسلامية من بعد عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا، فهو مشاهد في أحوال الدولة الأموية والعباسية، وما بعدها من الدول، وما حصل للمسلمين في الأندلس بعد أن أقاموا فيها حكم الله، ونشروا العدل وازدهرت حضارة أمة الإسلام، وكانت المكتشفات والمخترعات، وما حصل لهم من الحضارة التي نُقِلت إلى أوروبا مما هو مشاهد إلى يومنا هذا، وإنما نُقِض ذلك حينما خالفوا المعادلة الإسلامية في قيام الدول واستمرارها، واستبدلوا بذلك حب الدنيا وكراهية الموت؛ فإنهم في بادئ أمرهم كانوا غير متعلقين بالدنيا، وإنما متعلقون بالآخرة والموت عندهم؛ كما قال الله -جل وعلا-: (وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ) [آل عمران: 158]، فآتاهم الله الدنيا وهيَّأ لهم من الديار والأموال وأنواع النعم، وبقوا على عز وشرف حقبة من القرون، بضعة قرون وحكم الإسلام ظاهر بيِّن، فلما قلبت المعادلة، وصاروا إلى الدعة، وصاروا عالة على المجتمعات الإنسانية، صار ما صار من نصرة الأعداء والتسلط عليهم، وأُقيمت على سبيل المثال في الأندلس محاكم التفتيش التي شهدت من أنواع الظلم والبغي والقتل والسجن والتعذيب، ما حفلت به سجلات التاريخ.
ومهما يكن من أمر -أيها الإخوة المؤمنون-، فهذا النص النبوي نصح نبوي مصطفوي إلى أمة الإسلام بأن يلتفتوا إلى ما فيه عزهم وشرفهم وحسن عاقبتهم، وهو استقامتهم على دين ربهم، فإنهم إن فعلوا آتاهم الله الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فاللهم لك الحمد كله، لا قابض لما بسطت يا رب، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لِما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قاربت.
اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك، ومن رزقك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.
اللهم إنا نسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إنا نعوذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا، اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم توفَّنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم قاتِل الكفرة الذين يكذبون رُسلك، ويصدون عن سبيلك، ويتسلطون على عبادك، اللهم إنا نستعين بك ونتوكل عليك يا رب العالمين.
أيها الإخوة المؤمنون: إن هذا الخبر النبوي العظيم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها"، قيل: يا رسول الله ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "أنتم كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله المهابة من قلوب أعدائكم، وليُلقينَّ الله في قلوبكم الوهن"، قيل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حُب الدنيا وكراهية الموت".
إنه ليقرر أمرًا في غاية الأهمية إذا ما أراد المسلمون عزهم والحياة الكريمة، وحسن العقبى عند لقاء ربهم -جل وعلا-، وهذا النص النبوي خطاب لأمة الإسلام جميعًا، خطاب لهم حكومات وقادة وشعوب وأفرادًا، كل فيما أمر به، ولا شك أن من أعظم ما يحفظ هيبة المسلمين أن يكونوا مجتمعين، ولن يكون لهم اجتماع ما لم تكن لهم قيادة، ولن تكون قيادة ما لم تكن طاعة.
وأنتم تشاهدون -أيها الإخوة المؤمنون- كيف أن دول الإسلام لَمَّا اختلَّت قياداتها على ما فيها من أنواع البغي والظلم، كان تسلط الأعداء، وولوجهم إلى دولهم، وتحكُّمهم في خيراتهم ومقدراتهم، سبيلًا ميسورًا، ولذلك جاءت النصوص النبوية، بل جاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية مؤكدة السمع والطاعة لولاة الأمور أن يسمع لهم ويُطاع بالمعروف، يطاعون فيما أمر الله به، ولا يطاعون فيما يخالفون الله -تعالى- به، وأن يُحافظ على الاجتماع قدر الوسع والاستطاعة، وألا تنزع يد من طاعة.
وإننا بحمد الله -تعالى- في هذه المملكة العربية السعودية حصل من الخيرات ما هو مشاهد منذ أن بدأت الدعوة إلى توحيد الله -جل وعلا- في هذه الديار، بعد العقد الذي كان مع الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب، وما أفاء الله من الخيرات، وما حصل من الاجتماع والاستقرار، وهكذا استمر هذا الأمر في الدولة السعودية الأولى والثانية، وظهر بيِّنًا ظاهرًا في هذه الدولة السعودية الثالثة، حينما أشهر الملك عبد العزيز -رحمه الله وطيَّب ثراه- ما أراد من إقامة شرع الله -جل وعلا-، فأقبلت عليه القبائل، وتتابع الناس بمتابعته سمعًا وطاعة، وإلاَّ فإن الناظر في حال هذه الجزيرة العربية وكِبَر مساحتها فإنه يُحتاج إلى توحيدها من القوة والأعداد ما هو كثير، لكنها -والله أعلم- نية صادقة عنده رحمه الله، توافقت مع الخير الذي يريده الناس في هذه البلاد المملكة العربية السعودية، فالتقت النيات الصادقة والمرادات السامية، فهيَّأ الله هذا الخير، وهي مسؤولية الأجيال جيلًا بعد جيل في الحفاظ على ذلك، مسؤولية القادة والأجيال في الحفاظ على هذا المسار بأن يستقيموا على شرع الله ما استطاعوا، وأن يحاذروا من الفرقة، ومما يراد من شق الصف مما يشاع من الأقاويل والإشاعات المتنوعة التي تُدعَم من الأعداء، ولا شك أن أعظم سبيل يصلون إليه في تحقيق مآربهم لتفريقنا، هو أن يحققوا الفرقة بين القيادة، بين ولاة الأمر وبين شعبهم، وأنى لهم ذلك بعون الله -تعالى-؟!
ثم بما يكون من الفهم والحكمة التي تكون لدى الناس اتباعًا لشرع الله بالسمع والطاعة بالمعروف؛ كما أمر الله -جل وعلا-، فإنه مما قرره أئمة العقيدة في ضوء نصوص الكتاب والسنة: أن ما يكون من الاجتماع والسمع والطاعة لولاة الأمر، يكون خيرًا كثيرًا، ولذلك حذَّر العلماء من أن يُتَدَخَّلَ فيما هو من شأن ولاة الأمر، وألا يكون شيء يحدثه الناس مما اختص الله به ولاة الأمر؛ من مثل إعلان الجهاد، ومن مثل إقامة الجُمع والجماعات والأعياد، ومن مثل تنظيم حياة الناس، وترتيب أحوالهم، مما هو من اختصاص ولاة الأمور.
وهكذا يجب أيضًا على ولاة الأمور أن يتلمسوا ما فيه الخير والسماحة لشعبهم، ولمن تحت أيديهم، فإن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أكد هذا الأمر على كلٍّ من ولي ولاية من الولايات على المسلمين، وقال: "اللهم مَن وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا، فرفق بهم فارفق به، ومَن وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا، فشق عليهم، فاشقق عليه".
وبعد -أيها الإخوة المؤمنون- فإن أحوال أمة الإسلام اليوم كما هو مشاهد، توجب العناية باتباع النصوص القرآنية والأحاديث النبوية فيما فيه حفظ أمنهم، واستقرار أحوالهم، والحذر من تسلط أعدائهم.
نسأل الله الثبات على ذلك.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا الله بذلك، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10].
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء والأموات، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق يا رحمن، اللهم فرِّج همومهم، ونفِّس كروبهم، ويَسِّر أمورهم، اللهم اشف مرضاهم، اللهم دافِع عنهم ممن تسلط عليهم يا رب العالمين.
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءًا فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الدعاء.
اللهم احفظ علينا في بلادنا الأمن والطمأنينة والرخاء، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لما فيه الخير، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة، وأبعد عنه بطانة السوء يا رب العالمين.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم، اللهم احقن دماء إخواننا المسلمين في كل البلاد في فلسطين وسوريا وفي ليبيا واليمن، وفي مصر وغيرها يا رب العالمين.
اللهم اجمعهم على الحق، اللهم أعذهم من الفتن، اللهم أعذنا وإياهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغارًا، اللهم أصلح لنا نياتنا وذرياتنا وأحسِن عاقبتنا في الأمور كلها.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يَذكركم، واشكروه على نِعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].