القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم النعيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحكمة وتعليل أفعال الله |
المسجد أحب البقاع إلى الله -تعالى-، فهو قلعة الإيمان وبيت كل تقي، أُمِرَ كل مسلم بالغ أن يدخله في اليوم خمس مرات، فالمسجد بيت الله، ولهذا المسجد حرمة وآداب وأحكام، وقد تكلمنا في الخطبة الماضية عن بعض الفضائل التي لا توجد إلا في المسجد، واليوم نبدأ في التحدث عن بعض أحكام المساجد، وهي كثيرة ولكن نأخذ المهم منها، ويمكن أن نقسمها إلى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
المسجد أحب البقاع إلى الله -تعالى-، فهو قلعة الإيمان وبيت كل تقي، أُمِرَ كل مسلم بالغ أن يدخله في اليوم خمس مرات، فالمسجد بيت الله، ولهذا المسجد حرمة وآداب وأحكام، وقد تكلمنا في الخطبة الماضية عن بعض الفضائل التي لا توجد إلا في المسجد، واليوم نبدأ في التحدث عن بعض أحكام المساجد، وهي كثيرة ولكن نأخذ المهم منها، ويمكن أن نقسمها إلى أقسام ليسهل لنا فهمها:
القسم الأول: أشياء ينهى عن دخولها المسجد.
القسم الثاني: آداب دخول المسجد.
القسم الثالث: أشياء ينهى عن فعلها داخل المسجد.
والقسم الرابع: أحكام متنوعة لا تدخل في الأقسام السابقة.
أما عن القسم الأول المتعلق بالأشياء التي ينهى عن دخولها المسجد فسأذكر خمسة أشياء:
أولا: من أكل الثوم والبصل وما في حكمهما: فقد روى البخاري ومسلم عن جابر -رَضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلمَ- قال: "من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم".
وروى قُرَّةَ بن إياس -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- نَهَى عَنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ -يَعْنِي الْبَصَلَ وَالثُّومَ– وقال: "مَنْ أَكَلَهُمَا فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا"، وَقَالَ: "إِنْ كُنْتُمْ لا بُدَّ آكِلِيهِمَا فَأَمِيتُوهُمَا طَبْخًا" [رواه أبو داود].
فالمسجد مهبط الملائكة وهم يتأذون مما يتأذى منه بنو آدم، ولذلك ينبغي الحذر من إيذائهم كي لا نحرم من نفورهم عنا وعدم دعائهم لنا، وإذا كان أكل الثوم والبصل على ما فيهما من فوائد طبية مكروه ويُسقط صلاة الجماعة في المسجد عن الفرد كي لا يؤذي الملائكة والمصلين، فكيف بالدخان وهو محرم ونتن الرائحة؟ لذلك من كان مدخنا فليستعن بالله وليقلع عن تدخينه حتى لا يكون مطرودا من بيوت الله، ولا يقل طالما أن صلاة الجماعة تسقط عني فهذه فرصة للصلاة في البيت؛ كلا لأنه سيُحرم من كل الثواب الذي ذكرناه في الخطبة السابقة ولا يوجد إلا من دخل بيت الله.
فهي ليست فرصة وإنما حرمان لمن حرص على رضا الرحمن.
ثانيا: ومما ينهى عن دخوله المسجد والجلوس فيه: الجنب والحائض، فلا يجوز لهما الجلوس في المسجد، لسماع محاضرة أو درس أو نحوه، وعندما أمر النبي -صلى الله عليه وسلمَ- نساء الصحابة أن يحضرن صلاة العيد في المصلى وليس في المسجد أمر الحيض اعتزال المصلى فقال: "وَيَعْتَزِلْنَ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى".
ولكن يجوز للجنب والحائض مرورهما في المسجد دون الجلوس؛ لقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ) [النساء: 43]، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "ومن هذه الآية احتجّ كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضاً في معناه" ا. هـ.
ودليل جواز مرور الحائض المسجد ما روته عائشة -رَضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قال لها: "ناوليني الخمرة من المسجد -والخمرة هي السجادة-، فقالت: إني حائض، فقال: "إن حيضتك ليست في يدك" [رواه مسلم].
وأما الكافر وإن كان في الغالب على جنابة لأنه لا يغتسل منها إلا أنه يجوز دخوله المسجد عند الحاجة مثل: الكهربائي والسباك ونحوه، أو كان في دخوله مصلحة كدعوته إلى الإسلام لحديث أبي هريرة -رضي الله عنهَ- قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ" فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: "أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ" [الحديث متفق عليه].
والحاصل: أن كل من رُجي دخوله الإسلام أو تألف قلبه لدفع شره عن المسلمين أو أن يساعد دخوله المسجد في تبديد تصوره السلبي للإسلام فلا يُمنع من دخول المسجد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا.
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل المسجد بيت كل تقي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم كل خفي، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أشرف نبي، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى وعظموا بيوت الله واعرفوا آدابها واعملوا بها، فمن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
ثالثا: ومما ينهى عن دخوله المسجد الصور والتي باتت تدخل عن طريق الجرائد وملابس الأطفال والشباب، وبعض تلك الملابس ما يحمل أسماء لاعبين أو فنانين أوروبيين غير مسلمين.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء: ما حكم لبس الملابس الرياضية التي تحمل شعارات خاصة بالكفار، مثل "الفنايل" الرياضية التي عليها شعارات إيطاليا، أو ألمانيا، أو أمريكا، أو التي مكتوب عليها أسماء بعض اللاعبين الكفار؟
فأجابت اللجنة قائلة: الملابس التي تحمل شعارات الكفار فيها تفصيل كما يلي:
(1) إن كانت هذه الشعارات ترمز إلى ديانات الكفار كالصليب، ونحوه، ففي هذه الحالة لا يجوز استيراد هذه الملابس، ولا بيعها، ولا لبسها.
(2) إن كانت هذه الشعارات ترمز إلى تعظيم أحدٍ من الكفار، بوضع صورته، أو كتابة اسمه، ونحو ذلك، فهي أيضاً حرام، كما سبق .
(3) إذا كانت هذه الشعارات لا ترمز إلى عبادة، ولا تعظيم شخص، وإنما هي علامات تجارية مباحة، وهي ما يسمى بـ "الماركات"، فلا بأس بها ا. هـ.
أقول: فإذا كان لبس هذه الملابس لا يشرع فكيف بمن يَدخُل بها في المسجد؟
رابعا: ومما ينهى عن دخوله المسجد: المرأة المتزينة والمتطيبة؛ فقد لَقِيَ أبو هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- امْرَأَةً مُتَطَيِّبَةً تُرِيدُ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ أَيْنَ تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ: الْمَسْجِدَ، قَالَ: وَلَهُ تَطَيَّبْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- يَقُولُ: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ لَمْ تُقْبَلْ لَهَا صَلاةٌ حَتَّى تَغْتَسِلَ" [رواه ابن ماجة].
فإذا كانت المرأة التي هذا حالها نهيت عن دخول مسجد لتصلي فيه خشية الافتتان بها، فكيف بمن تذهب بهذه الصورة في الأسواق والأماكن العامة؟
فإني أقدم هذا الحديث هدية لدعاة الاختلاط والتبرج.
خامسا: ومما ينهى عن دخوله المسجد: الموسيقى، فالموسيقى محرمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلمَ: "فِي هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: "إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ -أي المغنيات- وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ" [رواه الترمذي].
ومعنى: "الْقَيْنَات" أي المغنيات، وكل ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قد ظهر في هذا الزمن خصوصا المعازف والموسيقى التي انتشرت عبر وسائل الإعلام كانتشار النار في الهشيم، ودخلت حتى المساجد بأيدي المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله عن طريق رنات الجوال.
فإذا كانت الموسيقى محرمة فينبغي العلم أن هذه الحرمة تزداد إذا كانت تحدث في بيوت الله، ألا فليتق الله كل من حمل جوالا ووضع رنته مقطعا موسيقيا، وليخشَ غضب الله عليه وليبادر إلى تغيير هذه النغمة، فلا يكفي أن تغلقه أو تضعه على الصامت، فما المبرر أصلا أن تضعه برنة موسيقية أو غنائية؟ وهي محرمة داخل المسجد أو خارجه، ولماذا لا تضعه رنة عادية؟
إن الكثير من الصالحين يجاهد نفسه بحفظ سمعه من الموسيقى في بيته باختيار القنوات الفضائية الإسلامية المحافظة ولكنه يتفاجئ أن تلاحقه هذه الموسيقى في بيت الله؛ بل لا تكاد تمر صلاة في مسجد إلا ونسمع فيها سنفونية أو مقطع أغنية يختلط مع صوت القرآن وأين؟ في بيت الله، أفي بيت الله يعصى الإله؟ إن هذا لمنكر عظيم استهان به كثير من الناس وباتوا يألفوه حتى دخل المسجد الحرام الذي تعظم فيه السيئات، فلنعظم بيوت الله، ولننزهها من هذه المحرمات، ولنخشَ أن يتحقق فينا ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلمَ- من الخسف والمسخ والقذف: "إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ"، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم قومنا إذا اعوججنا، وأعنا إذا استقمنا وكن لنا ولا تكن علينا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الدين.
اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته...
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
(ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147].
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].