البحث

عبارات مقترحة:

الحسيب

 (الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...

الكريم

كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

تحفة الطلب .. بأهمية الأدب

العربية

المؤلف خالد بن علي أبا الخيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. الإسلام دين الآداب والأخلاق المحمودة .
  2. مفهوم الأدب .
  3. مجالاته .
  4. ثمراته .
  5. أجلّ خصائصه .
  6. أهميته .
  7. دلالاته .
  8. الأدب سمْت العلماء .
  9. أجر التأديب .
  10. مقام الأدب .
  11. الاهتمام بتأديب النشء .
  12. غناء المكتبة الإسلامية بكتب التأديب .

اقتباس

وحديثنا في جمعتنا: "تحفة الطلب في أهمية الأدب"، والأدب جماع الخير في العبد، ومنه المأدبة، وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس؛ وعلم الأدب علم إصلاح اللسان، والنفس، والجنان.

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله الذي جعل الآداب عنوان النجاح، أحمده -سبحانه- أدب عباده ورقى بهم إلى الفلاح، وأشهد أن لا إله إلا الله جعل الفوز في الآداب والصلاح، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرشدنا للأدب والكفاح، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ما تعاقب الليل والصباح.

أما بعد: عباد الله، اتقوا الله في أنفسكم، وراقبوه في أحوالكم، وأخلصوا له أعمالكم، واتبعوا رسولكم؛ تسعدوا في دينكم ودنياكم وآخرتكم، استعدوا لقبوركم بصالح أعمالكم.

أيها المسلمون: الإسلام دين الأدب والمروءة، والأخلاق والفضائل، مَن أحبّه الله شرفه به دينا، وهذبه به سلوكا، دين جمع المحاسن، وأرشد للآداب في الأزمان والأماكن، فالله أكمل لنا الملة، وأتم لنا النعمة، دين الآداب والفضائل، وجميل الخصال والشمائل.

جاءت شريعتنا كاملة، تامة بآدابها، وأخلاقها، وأثارها، وجمالها، فجمال ديننا ومحاسن إسلامنا في أدبنا، وسلوكنا، وعبادتنا، وتعاملنا، ومَن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن فلا أحسن منه، جمع المحاسن كلها بأخلاقه وآدابه؛ ولهذا نوه الله بهذه الأخلاق والآداب: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، وفي قوله -سبحانه-: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم:6]، قال ابن عباس وغيره: أدبوهم، وعلموهم، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "بعثت لأتمم صالح الأخلاق" رواه مالك وأحمد.

وحديثنا في جمعتنا: "تحفة الطلب في أهمية الأدب"، والأدب جماع الخير في العبد، ومنه المأدبة، وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس، وعلم الأدب علم إصلاح اللسان، والنفس، والجنان.

والأدب استعمال ما يحمد قولًا وفعلًا، والأخذ بمكارم الأخلاق، ويدخل في الآداب الواجبات، والمستحبات، والمباحات.

وانظر الأدب الإسلامي من جوهرة الأخلاق، وهو أحد ركائز الدين والإرفاق، وانظر إلى أدب جبريل حينما جاء يسأل الرسول عن أركان الدين، تمثل الأدب الجمّ بجماله وخلقه لأفعاله وجلوسه، "شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، لا يرى عليه أثر السفر، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه".

وفي صورة الآداب، توجيهات ونداءات لأولي الألباب، ومن أعظم الآداب: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [الحجرات:3]، ولا عجب -عباد الله- فالأدب مع الله ورسول الله هو الأصل الأصيل.

قال يحيى بن معاذ -رضي الله عنه-: "من تأدب بآداب الله صار من أهل محبة الله". وقال الدقاق -رضي الله عنه-: "العبد يصل بطاعة الله إلى الجنة، ويصل بأدبه في طاعة الله إلى الله، فمن لم يتأدب بالكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة، فالحرمان حليفه، والشقاء قرينه". قال يحيى الدقاق -رضي الله عنه-: "ترك الأدب يوجب الطرد، فمن أساء الأدب على البساط، طرد إلى الباب، ومن أساء الأدب على الباب، طرد إلى سياسة الدواب".

فالأدب: -أيها الأصحاب- عنوان السعادة والفلاح، ومفتاح الخير والكفاح، وسبب الرقي والنجاح، وعلامة الصلاح والإصلاح، من حرم الأدب حرم الخير كله، ومن تهاون بالأدب تعرض للشر كله، إذ الآداب مفتاح العلوم، ومنبع الفهوم؛ قال يوسف بن الحسين -رضي الله عنه-: بالأدب تتفهم العلم، وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تتناول الحكمة، وبالحكمة تفهم الزهد، وبالزهد تترك الدنيا وترغب في الآخرة، وبذلك تنال رضا الله، فالخير كل الخير في الآداب.

ومن أجلّ خصائصه الأدب مع الله، والأدب مع رسول الله، والأدب مع العلماء والأمراء، والأدب مع الأمهات والآباء، والأدب مع الأهل والصغار، والأدب مع الأصحاب والكبار، والمرء يدرك بأدبه صلاحه، وحسن مستقبله، وجمال ذكره. قال الحسن -رضي الله عنه-: "إن كان الرجل ليخرج في أدب يكسبه السنين ثم السنين".

ولأهمية الآداب، اسمع كلام الإمام العجاب، ابن القيم -رضي الله عنه-: "وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استُجِلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب".

 
وقال ابن المبارك -رضي الله عنه-: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة، فإن الآداب تميز المسلم، وترفع شأنه، ويفتخر بدينه، ويرفع رأسه، وتظهر سموه، ويفوق أقرانه.

قال أحمد بن عطاء -رضي الله عنه-: من ألزم نفسه آداب الشريعة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الرسول في أوامره، وأفعاله، وأخلاقه.

والأدب: عنوان عقل صاحبه، وثباته ورسوخه، وتأنيه وإدراكه، فالفضل بالعقل والأدب، لا بالأصل والحسب؛ لأن من ساء أدبه ضاع نسبه، ومن قل عقله ضل أصله.

قال بعض السلف: "ذكِّ قلبك بالأدب، كما تذكي النار بالحطب، واتخذ الأدب غنمًا، والحرص عليه حظا، يرتجيك راغب، ويخاف صولتك راهب، وكان السلف يجلسون، وبهدي وسمت العلماء والآداب يتعلمون".

كان محمد الطنافسي -رضي الله عنه- يقول لأصحاب الحديث: "ألا تكونون مثل عيسى بن يونس؟ كان إذا أقبل إلى الأعمش ومعه الشباب والشيوخ ينظرون إلى هديه وسمته". وكان علي بن المدين وغير واحد يحضرون عند يحيى القطان، ما يريدون أن يسمعوا شيئًا إلا أن ينظروا إلى هديه وسمته. قال النخعي: "كنا إذا أردنا أن نأخذ عن شيخ سألناه عن مطعمه، ومشربه، ومدخله، وملبسه، فإن كان على استواء أخذنا عنه، وإلا لم نأته". وقال مالك بن أنس: "كانت أمي تلبسني الثياب وتعممني وأنا صبي إلى ربيعة وتقول: تأتي مجلس ربيعة فتعلم من سمته وأدبه قبل أن تعلم من حديثه وفهمه"، وكان يجتمع في مجلس أحمد بن حنبل زهاء خمسة آلاف ويزيدون، خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون من حسن الأدب وحسن السمت.

الأدب، أيها المسلم الرغب، وسيلة إلى كل فضيلة، وذريعة إلى كل شريعة، الأدب استعمال الخلق الجميل، والسمت النبيل، الأدب ترويض النفس على كريم الخصال، وجميل الأفعال، الآداب حلية زين الله بها مواطن الأحساب، ودعامة أيد الله بها الألباب، بالآداب يعرف المسلم ما له وما عليه، في عبادته وتعامله، مع نفسه وغيره، مع زوجه وذريته، مع صديقه وجليسه، يعرف المرء سلوكه، وأخلاقه، وجلوسه، وقيامه، وطعامه، وشرابه، والعلم وطلابه.

والناس صنفان:

أكرم بذي أدب أكرم بذي حسب

فإنما العزم في الأحساب والأدب
ذو عقل وذو أدب كمعدن الفضة البيـضاء والذهب

وسائر الناس من بين الورى همجٌ

كانوا موالي أو كانوا من العرب

ولأهمية الآداب فإنها من شروط المسلم الواعي عند العلماء...

ليس اليتيم الذي قد مات والده

إن اليتيم يتيم العلم والأدب

كما عدوا أن الجمال والبهاء، للآداب والثناء.

ليس الجمال بأثواب على بدن

إن الجمال جمال العلم والأدب

قال ابن القيم في مقالته العصماء: والأدب هو الدين كله، فإن ستر العورة من الأدب، والوضوء من الأدب، وغسل الجنابة من الأدب، والتطهر من الخبث من الأدب، حتى تقف بين يدي الله طاهرا، ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته للوقوف بين يدي ربه.

ما وهب الله لامرئ هبة

أفضل من عقله ومن أدبه

هما حياة الفتى فإن فُقِدَا

فإن فَقد الحياة أحسن به

قال العلماء: الإيمان كمثل بلدة لها خمسة حصون، من ذهب، وفضة، وحديد، وآجرّ، ولبن، وهي: اليقين، والإخلاص، والفرائض، والسنن، وحفظ الآداب؛ فما دام العبد يحفظ الآداب، ويتعاهدها، فالشيطان لا يطمع فيه، فإذا ترك الآداب طمع الشيطان في السنن، ثم الفرائض، ثم الإخلاص، ثم اليقين.

 
ولتعلم -أيها الأخ المسلم- أجر التأديب والتعليم، فاسمع إلى ما رواه البخاري ومسلم مرفوعًا: "ثلاثة لهم أجران"، ومنهم: "رجل كان عنده أمة، فأدبها، فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها؛ فله أجران"، فإذا كان هذا في الأمة المملوكة، فكيف بالأهل، والأبناء، والذرية؟.

والآداب في جملة القول ثلاثة: أدب مع الله،  وأدب مع رسول الله،  وأدب مع خلق الله.

 

خير ما ورّث الرجال بنيهم أدب صالح وحسن الثناءِ

هو خير من الدّنانير والأو

راق في يوم شدّة أو رخاء

تلك تفنى والدين والأدب الصا

لح لا يفنيان حتى اللقاء

ولا يزكو الرجل وينبل، ويعظم ويفضل إلا برزانة عقله، وكمال أدبه، قال ابن المبارك -رضي الله عنه-: "لا ينبل الرجل بنوع من العلم ما لم يزين عمله بالأدب"، وقال: "خير ما أعطي الرجل غريزة في عقل، وأدب حسن".

 

كن ابن من شئت واكتسب أدبًا  يغنيك محموده عن النسبِ

إن الفتى من يقول ها أنا ذا

ليس الفتى من يقول كان أبي

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.

 
والأدب -عباد الله- مقدم على العلم وطلبه، إذ هو مفتاحه وسببه، قال عبد الله بن المبارك -رضي الله عنه-: "نحن إلى قليل من الأدب، أحوج منا إلى كثير من العلم"، والسر في ذلك: أن الأدب يأتي بالعلم، ويحمل صاحبه على التواضع والفهم.

 
قال ابن جماعة: "فإن أهم ما يبادر به اللبيب في شرخ شبابه، ويؤدب نفسه في تحصيله واكتسابه، حسن الأدب الذي شهد الشرع والعقل بفضله، واتفقت الآراء والألسنة على شكر أهله، وإن أحق الناس بهذه الخصلة الجميلة، وأولاهم بحيازة هذه المرتبة الجليلة، أهل العلم".

بل كان السلف يتعلمون الأدب، كما يتعلمون العلم، قال ابن سيرين -رضي الله عنه-: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم"، وقال بعضهم لابنه: "يا بني، لأن أتعلم بابًا من الأدب، أحب إلي من أن تتعلم سبعين بابًا من العلم"، وقال حبيب لابنه -رضي الله عنه-: "يا بني، اصحب الفقهاء، والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم، فإن ذلك أحب إلي من كثير من الحديث".

بل قال محمد البوشنجي -رضي الله عنه-: "من أراد العلم بغير أدب، فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله، وقد عد العلماء الحاجة إلى الأدب كالحاجة إلى العلم، بل ومنهم من رحل ليعلم ويتطلب الأدب، كما يرحل في طلب العلم". قال الحجاج بن أرطأة -رضي الله عنه-: "إن أحدكم إلى أدب حسن، أحوج منه إلى خمسين حديثًا"، وقال زكريا العنبري -رضي الله عنه-: "علم بلا أدب، كنار بلا حطب، وأدب بلا علم، كروح بلا جسم"، وقال الأحنف بن قيس -رضي الله عنه-: كنا نجلس إلى قيس بن عاصم، نتعلم الحلم، كما نختلف إلى العلماء لنتعلم العلم". وقيل لابن المبارك: أين تريد؟ قال: "إلى البصرة"، فقيل: من بقي؟ فقال: "ابن عون، آخذ من أخلاقه، وآخذ من آدابه".

فعلى العلماء والمربين، والمدرسين، والآباء والأمهات، والموجهين أن يعنوا بهذا الباب، لتعليم النشء هذه الآداب، والتركيز على الصغار منذ نعومة أظفارهم، والحرص على الطلاب لتوجيههم، فهذا وقتهم، وهذه هي تربيتهم، وقد قال الأول:

 وينشأ ناشئ الفتيان منا

على ما كان عوده أبوه

ويقول الآخر:

عود بنيك على الآداب في الصغر

كيما تقر بهم عيناك في الكبر

فإنما مثل الآداب تجمعها

في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر

ولهذا كان السلف يرسلون أبناءهم، ويتحملون نفقاتهم، إلى من يعلمونهم الآداب والأخلاق. مؤدب آل عبد الملك بن مروان، إسماعيل بن عبيد الله، ومؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، صالح بن كيسان، وكان ابن أبي الدنيا، صاحب المؤلفات المشهورة، يؤدب غير واحد من أولاد الخلفاء.

 
وقال بعضهم:

قد ينفع الأدب الأطفال في صغرٍ

وليس ينفع عند الشيبة الأدب

إن الغصون إذا قومتها اعتدلت

ولن يلين إذا قومته الخشب

وحبذا أن يقترح، أو يبدأ المعلم ويقترح، البداءة بالآداب والأخلاق، قبل الدخول في العلم والرقاق، ومن هذا الباب... فعقائد المسلمين لا تخلو من آداب، يرسمها أهل السنة والجماعة، وهذا ما صنعه شيخ الإسلام ابن تيمية في آخر العقيدة الواسطية، وحتى الأحكام تحتاج إلى آداب.

وفي صحيح البخاري كتاب خاص يسمى كتاب "الآداب"، ومن جميل ما صنع ابن حجر في بلوغ المرام، ختمه بحسن ختام، بالآداب والأخلاق، وأسماه: "كتاب الجامع"، وابن القيم عقب منزلة من منازل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5]، منزلة الآداب.

والعلماء لم يتركوا هذا الباب، بل أوفوه حقه من الآداب، فاقرأ إن شئت "تذكرة السامع"، و"المتكلم، في آداب العالم والمتعلم" لابن جماعة، و"الآداب الشرعية" لابن مفلح، و"منظومة ابن عبد القوي"، نظم جميل، وتنسيق جليل... "غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب"، وخذ كتابًا آخر: "نزهة الألباب في معرفة الآداب"، وخذ كتابًا جامعًا، وسفرًا حافلًا ماتعا: "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم، عليهم رحمة الله أجمعين.

 
هذا وابتهلوا واجتهدوا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.

يا خير من طرق المسامع ذكره

وأعف مخلوق وخير جوار

صلى عليك الله والملأ العلى

والناس من بدو ومن حضار

والله أعلم.