الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
صاحبنا ولد في بداية القرن الثاني، في عام ثمانية بعد المائة للهجرة، فهو قريب من عهد بالنبوة، معدود في تابعي التابعين؛ إنه الرجل المبارك: أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك -رحمه الله-. فما أحوجنا إلى سير أسلافنا! لنعلم أن الخير والفضائل ميدان للمتسابقين، فهم رجال ونحن رجال، وعندهم من الصوارف وما يشغلهم نظير ما عندنا أو أشدّ، ولكن؛ من أخذ كتابه بقوة ليس كمن قال الله فيهم: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَ?نِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف:36].
الخطبة الأولى:
أما بعد: فأخبار النبلاء، وسير العظماء، وحكايات الصالحين، جند من جنود يثبت الله بها المؤمنين، ويجدد بها صبر ومجاهدة الراغبين؛ كم قصة أيقظت همة نائمة، وتعافت بها نفس عليلة! والأرواح جنود مجندة!.
وخير القصص قصص الأنبياء، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ) [يوسف:111]، ثم قصص أوليائه الأصفياء الذين ساروا على هديهم واستنوا بسنتهم؛ فعن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، قال عمران: "فلا أدري، أَذَكَر بعد قرنه قرنينِ أو ثلاثا" متفق عليه، وفي رواية: "خير الناس قرني".
دعونا نختار من رجالات تلك القرون المفضلة رجلاً بآلاف الرجال.
والناسُ ألفٌ منهمُ كواحدٍ | وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عَنَى |
نختار رجلاً ليس ذا قبيلة عريقة، ولا نسب في قومه، ولا حسب في ناحيته، بل مولى، أصوله أعجمية، أبوه تركي، وأمه خوارزمية، وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله : "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين"، وفي رواية الدارمي: "إن الله يرفع بهذا القرآن".
وهذه لفتة قبل أن نغادرها للذين تورمت أشداقهم من الحديث عن أنسابهم ومفاخر أجدادهم، محتقرين غيرهم، لابسين جبة الكبر والغطرسة، فلعل قول الآخر ينطبق عليهم: قلنا صدقتَ، ولكن بئس ما ولدوا!.
أيها الإخوة: صاحبنا ولد في بداية القرن الثاني، في عام ثمانية بعد المائة للهجرة، فهو قريب من عهد بالنبوة، معدود في تابعي التابعين؛ إنه الرجل المبارك: أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك -رحمه الله-. فما أحوجنا إلى سير أسلافنا! لنعلم أن الخير والفضائل ميدان للمتسابقين، فهم رجال ونحن رجال، وعندهم من الصوارف وما يشغلهم نظير ما عندنا أو أشدّ، ولكن؛ من أخذ كتابه بقوة ليس كمن قال الله فيهم: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف:36].
سطرت كتب التراجم عشرات الصفحات في أخبار هذا العالم الفذ، ولم تسجل شيئاً كثيراً عن أسرته ووالديه، إلا أن خبراً لا بد أن يستوقفنا حينما ذكروا في شأن أبيه أنه رجل بستاني في مزرعة لغيره، فهو فلاح مستأجر بلغ في الأمانة مبلغاً عظيما حتى أعجب به صاحب البستان فزوجه على فقره؛ لدينه وعقله. سأله: من ترى أزوِّج بنتي؟ فقال: أهل الجاهلية يزوجون للحب والعشق، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمّة تزوج للخلق والدين؛ فكبر بعينه، وأعجب بمنطقه، وقال : لا أرى لها زوجاً غيرك!.
فهذا منبت عبد الله بن المبارك، وهذا والده، رجل صالح، وربما أدرك صلاح الآباء الأبناء؛ فلنصلح -يا عباد الله- أنفسنا يصلح الله لنا أبناءنا؛ جزاء وفاقاً، قال الله -تعالى-: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) [الكهف:82]، حفظ الله كنز الغلامين اليتيمين حتى بلغا أشدهما واستخرجا كنزهما بصلاح أبيهما. فاللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا.
نشأ صاحبنا المبارك عبد الله بن المبارك نشأة الصالحين، ولا يزال تمضي به السنون وهو يأخذ من كل فضل بنصيب، ومن كل مكرمة بطرف، فهي خصال تنوعت واجتمعت في رجل واحد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
اجتمع أصحاب عبد الله بن المبارك يوما فقالوا : تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا : العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه.
ولعله يستوقفك -أيها السامع- الخصال الثلاثة الأخيرة: ترك الكلام فيما لا يعنيه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" حديث حسن.
والإنصاف أن تكون عادلاً لا تظلم الناس حقهم من المال، والفضل أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك: "ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"؛ فالصديق له حقه، والقريب والزوجة، وكبير السن والضعيف، (ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) [الأعراف:85]، بل من عاداك، وتسلط عليك، وترى أنه ظالم لك، فله حقه، وأعظم حقوقه كفه عن الظلم، واستصلاحه بنية صادقه، "أنصر أخالك ظالما أو مظلوما".
وأما قولهم: (وقلة الخلاف على أصحابه) فطول الصحبة مظنة للملل وتبدل النفسيات، وإدبارها عمن طالما أقبلت عليه، فأقلِل الخلاف والعتب مع أصحابك، وجارهم فيما تسع المجاراة والتغافل فيه.
لذا كثر أصحاب ابن المبارك، وأمسك بزمام علاقته معهم، وأعظم دليل على ذلك أن اعترف أقرانه له بالسبق بأصدق العبارات وأبلغها، والقرين مظنة لغمط قرينه، وتجاهل مناقبه، يقول سفيان ابن عيينة: "نظرت في أمر الصحابة، وأمر عبد الله بن المبارك، فما رأيت لهم عليه فضلا إلا بصحبتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وغزوهم معه".
ومن عباراتهم: ما رأينا مثله، وما قدم علينا مثله. لا أنصح للأمة من ابن المبارك. وكان الفضيل بن عياض ومشيخة جلوسا في المسجد الحرام ، فطلع ابن المبارك من الثنية، فقال سفيان: "هذا رجل أهل المشرق"، فقال فضيل: "رجل أهل المشرق والمغرب وما بينهما"، رحمهم الله جميعا. وغير ذلك كثير. وليس من ديننا الغلو والتقديس؛ ولكن من ديننا: لا بد أن يؤتى كل ذي فضل فضله.
بعد هذا؛ ماذا عسى أن ننقل من أخباره وماذا نترك؟ نعم، سنختصر، ولكننا لن نختصر موقفاً يدل على حرصه على وقته، وحيطته لدينه، كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: "كيف أستوحش وأنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؟!". يعني بذلك مطالعته كتب السيرة، وأخبار وأحاديث الصحابة، ومن اشتغل بشيء ذهبت وحشته، فلننظر بم اشتغلنا في خلواتنا وجلواتنا، وما حظ التقليب في صفحات الجوال من ساعات يومنا؟ نسأل الله العفو والعافية!.
وفي سياق آخر أنه قال لهم: "فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس!"، رحمه الله، لا مجاملة لمن صارت الغيبة جزءا من مجالسهم.
ومع هذا فهو ليس من العلماء المعتزلين مجتمعهم، بل هو فيهم ومنهم وإليهم، يعلمهم ويروي لهم أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل ويواسيهم ويقضي ديونهم، وربما حج أهل بلدته معه على نفقته، في خبر عجيب ارجع إليه، فهو التاجر الزاهد، ماله في يده وليس في قلبه؛ فقد فهم الزهد بمعناه الصحيح، عاتبه الفضيل بن عياض: كيف يأمره بالتقلل من الدنيا وهو مشتغل بالتجارة؟! فقال: "إنما أفعل هذا لأصون به وجهي، وأكرم به عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقاً إلا سارعت إليه، حتى أقوم به". فقال الفضيل: "ما أحسن ذا إن تم ذا!". رحمه الله ...
الخطبة الثانية:
فهذه بعض أخبار المبارك عبد الله بن المبارك. أما جهاده وبلاؤه في مقاتلة الأعداء وملازمة الثغور فهي جزء من شخصيته، وجانب عظيم في سيرته، فهو الجندي الذي حرص على إخفاء نفسه، يبارز الأعداء من الروم متلثماً حتى يثخن فيهم، ويكثر منهم، ثم يعود مستخفيا في صفوف المسلمين، "والله يحب العبد التقي الغني الخفي"، فلما كشف وعرف شق عليه ذلك مشقة بالغة!،
وهو صاحب المقولة: "رب عمل صغير تكثره النية، ورب عمل كثير تصغره النية".
ثم المنقول من كلامه ونصحه عليه مسحة نبوة، وينبئ عن صدق سريرة؛ لما سئل -رحمه الله-: إلى متى تكتب العلم؟ قال: لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد! الله أكبر، هذه -والله- الآثار التي تنثر، والقصص التي يجب أن تنشر، فعد إليها في مظانها مسموعة مقروءة.
فهذه أحوالهم ونهاياتهم، فإن أردتها فعليك ببداياتهم؛ لعلك أن تبلغ مقاماتهم، فمن ضرب من كل عمل مرضي عند الله بسهم كثرت أجوره، وتعدد نفعه، وحلت البركة عليه في نفسه وأهله وماله وأصحابه وآله، والله ذو الفضل العظيم...