الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة |
نحن في هذا الزمن قصرت همم شبابنا وآبائهم، فصاروا يتعلمون سِيَر الساقطين من الممثلين والمغنيين والمشهورين، ومنهم ليس بمسلم، ولا يعرفون عن سير أسلافهم الأفذاذ شيئًا للأسف، ومن هذا المنطلق سنمر باختصار على سيرة علم من أعلام السلف قلَّ أن تجد مثله في السلف فضلاً عن الخلف، لنعرف شيئًا من سيرته ونحدث بها أطفالنا، وتكون داعية لنا في قراءة سير أسلافنا الآخرين.. إنه الخليفة الأموي الزاهد العابد، إنه عمر بن عبد العزيز..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد --صلى الله عليه وسلم--، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يا أيها الناس: أمة ليس لها سلف ليس لها تاريخ، ونحن أمة جعل خيرها وبركتها في أولها، ولنا مجد فاخر لا يضاهيه مجد، كيف لا يكون ذلك وسلفنا على منهاج النبوة، وليست أي نبوة إنها خير نبوة عرفها التاريخ، ولا يزال كل جيل يعيش على آثار من سبقه من الأئمة المقتدَى بهم، وكانوا يربون أبناءهم على سير السلف ويربطونهم بهم، فتقتدي أجيال بأجيال ويمتد الخير ويستمر إلى قيام الساعة.
ونحن في هذا الزمن قصرت همم شبابنا وآبائهم، فصاروا يتعلمون سِيَر الساقطين من الممثلين والمغنيين والمشهورين، ومنهم ليس بمسلم، ولا يعرفون عن سير أسلافهم الأفذاذ شيئًا للأسف، ومن هذا المنطلق سنمر باختصار على سيرة علم من أعلام السلف قلَّ أن تجد مثله في السلف فضلاً عن الخلف، لنعرف شيئًا من سيرته ونحدث بها أطفالنا، وتكون داعية لنا في قراءة سير أسلافنا الآخرين.
عباد الله: إنه الخليفة الأموي الزاهد العابد، إنه عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي الذي لا تمل من قراءة سيرته، ولا ينقضي عجبك منها.
وقد عدَّ كثير من العلماء عمرَ بن عبد العزيز -رحمه الله- من مجددي هذا الدين.
فقد أخرج رواه أبو داود (4291) في سننه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ --صلى الله عليه وسلم-- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا".
قال ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية" (9/ 232): "فقال جماعة من أهل العلم، منهم أحمد بن حنبل -فيما ذكره ابن الجوزي وغيره-: إن عمر بن عبد العزيز كان على رأس المائة الأولى، وإن كان هو أولى مَن دخل في ذلك، وأحق؛ لإمامته، وعموم ولايته، وقيامه، واجتهاده في تنفيذ الحق، فقد كانت سيرته شبيهة بسيرة عمر بن الخطاب، وكان كثيراً ما تشبَّه به.
وكان عمر بن الخطاب يقول؛ إما بإخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- له، أو برؤيا في منامه: "إنه سيلي من ذريته رجل يعدل بين الناس, وكان يقول: إن من ولدي رجلاً بوجهه شين يلي يملأ الأرض عدلاً".
وقال ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية" (6/ 268): "وكان نافع مولى ابن عمر يقول: "لا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز", وقد رُوي ذلك عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب نحواً من هذا، وقد كان هذا الأمر مشهوراً قبل ولايته، وميلاده، بالكلية، أنه يلي رجل من بني أمية يقال له: "أشج بني مروان"، وكانت أمه ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.
أما سيرته -رحمه الله تعالى-: فقد كانت مثالاً عظيماً، ومضرباً للمثل، في عدله، وزهده، وحُسن خلقه، وهذه مقتطفات من سيرته نختارها من كتاب " البداية والنهاية " لابن كثير رحمه الله (9/ 217) فما فوقها.
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو حفص، القرشي، الأموي، المعروف، أمير المؤمنين، وأمه أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، ويقال له " أشج بني مروان"
وكان حكَماً، مقسطاً، وإماماً عادلاً، وورعاً ديِّناً، لا تأخذه في الله لومة لائم، رحمه الله تعالى.
قال الزبير بن بكار: حدثني العتبي قال: إن أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز: حرصه على العلم، ورغبته في الأدب، إن أباه ولي مصر وهو حديث السن يشك في بلوغه، فأراد أبوه إخراجه معه إلى مصر من الشام، فقال: يا أبتِ أو غير ذلك لعله يكون أنفع لي ولك ؟ قال: وما هو ؟ قال: ترحلني إلى المدينة فأقعد إلى فقهائها، وأتأدب بآدابهم، فعند ذلك أرسله أبوه إلى المدينة، وأرسل معه الخدام، فقعد مع مشايخ قريش، وتجنب شبابهم، وما زال دأبه حتى اشتهر ذكره.
وثبت من غير وجه عن أنس بن مالك قال: "ما صليتُ وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا الفتى - يعني: عمر بن عبد العزيز - حين كان على المدينة".
قالوا: وكان يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود، وفي رواية صحيحة: أنه كان يسبح في الركوع والسجود عشراً عشراً.
قال ابن كثير: وقد كان في هذه المدة من أحسن الناس معاشرة، وأعدلهم سيرة، كان إذا وقع له أمر مشكل: جمع فقهاء المدينة عليه، وقد عين عشرة منهم، وكان لا يقطع أمراً بدونهم، أو من حضر منهم، وهم عروة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن حزم، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت.
وكان لا يخرج عن قول سعيد بن المسيب.
رحم الله عمر بن عبد العزيز فقد سنَّ للخلفاء بعده طريق الصواب والهداية.
اللهم أعنا على أنفسنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا يا كريم..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أما بعد فيا أيها الناس: لا زلنا نقطف من سيرة الإمام العادل عمر بن عبد العزيز ما ينفعنا ويحيي قلوبنا، وقد ظهرت عليه علامات الورع، والدِّين، والتقشف، والصيانة، والنزاهة، من أول حركة بدت منه، حيث أعرض عن ركوب مراكب الخلافة، وهي الخيول الحسان الجياد المعدَّة لها، والاجتزاء بمركوبه الذي كان يركبه، وسكنى منزله رغبة عن منزل الخلافة، ويقال: إنه خطب الناس فقال في خطبته: "أيها الناس، إن لي نفساً تواقة لا تُعطَى شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها، وهي الجنة، فأعينوني عليها، يرحمكم الله".
ولمَّا استُخلف عمر بن عبد العزيز: قام في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس! إنه لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد عليه السلام، وإني لست بقاضٍ ولكني منفِّذ، وإني لست بمبتدع ولكني متبع، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم، ألا إن الإمام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل".
وفي رواية أنه قال فيها: وإني لست بخير من أحد منكم، ولكنني أثقلكم حِملاً، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا هل أَسْمعتُ؟
وقد اجتهد رحمه الله في مدة ولايته -مع قصرها- حتى رد المظالم، وصرف إلى كل ذي حق حقه، وكان مناديه في كل يوم ينادي: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغنى كلاًّ من هؤلاء.
وقالت زوجته فاطمة: دخلتُ يوماً عليه وهو جالس في مصلاه واضعاً خدَّه على يده، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وُليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي -عز وجل- سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمتُ نفسي، فبكيت.
قال مالك بن دينار: يقولون مالك زاهد، أي زهد عندي؟ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها، فتركها جملة.
قالوا: ولم يكن له سوى قميص واحد، فكان إذا غسلوه جلس في المنزل حتى ييبس، وقد وقف مرة على راهب فقال له: ويحك عظني، فقال له: عليك بقول الشاعر:
تجرد من الدنيا فإنك إنما | خرجتَ إلى الدنيا وأنت مجرد |
قال: وكان يعجبه، ويكرره، وعمل به حق العمل.
قالوا: ودخل على امرأته يوما فسألها أن تقرضه درهماً، أو فلوساً يشتري له بها عِنَباً، فلم يجد عندها شيئاً، فقالت له: أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري به عنباً؟ فقال: هذا أيسر من معالجة الأغلال، والأنكال، غداً، في نار جهنم.
وقالت امرأته فاطمة: ما رأيتُ أحدًا أكثر صلاة وصيامًا منه، ولا أحدًا أشد فرقًا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول: يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بُعد المشرقين، فوالله ما رأينا سروراً منذ دخلنا فيها.
وقال علي بن زيد: ما رأيت رجلين كأن النار لم تُخلق إلا لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز.
وفي الخامس والعشرين من رجب سنة إحدى ومائة من الهجرة: توفي عمر بن عبد العزيز بـ"دير سمعان"، وكانت مدة خلافته: سنتين وخمسة أشهر، وأربعة أيام.
فرحمه الله تعالى، وجزاه عن عدله وفعاله الحسنة خير الجزاء.