البحث

عبارات مقترحة:

الظاهر

هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...

الحافظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

سدوا الخلل

العربية

المؤلف مرشد الحيالي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. أهمية الاستغفار وسد الخلل .
  2. من ثمار الاجتماع على الصلاة والشعائر وسد الخلل فيها .
  3. من مظاهر الخلل في أمتنا .
  4. من الوسائل الهامة في إصلاح الخلل .

اقتباس

وقد أراد نبيُّنا وسيدنا أن ينبِّهنا ويرشدنا إلى أمر هام، عظيم تام، وهو أنَّ الأمة المحمدية إذا اجتمعَت في صلاتها وشعائرها، وعبادتها ونسكها على الألفة والمحبة، والأخوَّة والمودَّة في الباطن والظاهر، واجتمعَت على رصِّ الصفوف وتسويتها، والاهتمامِ بها في المساجد وبيوت الله، وسائر ما افترض عليها من فرائض - فإنَّ ذلك من أعظم ..

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسولُه، بعثه اللهُ رحمةً للعالمين هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمةَ، فجزاه اللهُ خيرَ ما جزى نبيًّا من أنبيائه، فصلواتُ ربي وتسليماته عليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى صحابته وآل بيته، وعلى مَن أحبهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور مُحدثاتُها، وكل مُحدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النَّار.

أيها المسلمون: لقد أوصانا ربُّنا سبحانه بطاعته وطاعة رسوله، وأمرنا بتقواه في السرِّ والعلَن، والظاهرِ والباطن، وفي العسر واليسر، فقال -جل شأنه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آلعمران:102-103].

لقد خلق الله الإنسان وأوجده في هذه الحياة؛ ليبتليه ويختبره ويمحِّص صبره وعبوديته، فقال -سبحانه- في كتابه الكريم: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2]، وقد جبل ابن آدم على الخطأ والنسيان، والسهو والنُّقصان، قال -تعالى-: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:34]، وفي الحديث: "كلُّ بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون".

ومن أجل ذلك جاءت الأوامر الشرعيَّة والوصايا النبويَّة بالحثِّ على التوبة والغفران، وبسدِّ الخَلل والنقصان، وإصلاح العوج بالعمل الصالح والعمران، ومن خلال الاستغفار والتوبة وتعمير الأرض بالطاعة ومحو السيئة بالحسنة؛ حتى تستقيم على طاعة الله سبحانه، وتفوز بالحياة المطمئنَّة السعيدة، قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) [طه:112]، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].

وما شرع الله سبحانه الاستغفار بعد الصَّلوات الخمس والتهجد والنزول من صعيد عرفات، إلَّا لحكمة بالِغة ونعمةٍ سابغة، ولسدِّ مداخل الشيطان وأبوابه على بني الإنسان.

وقد جاء في حديثٍ رواه الإمام أحمد قال: حدَّثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق قال: قالت عائشة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر في آخر أمره من قول: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه"، وقال: "إنَّ ربي كان أخبرني أنِّي سأرى علامة في أمَّتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبِّح بحمده وأستغفره، إنَّه كان توابًا، فقد رأيتُها: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر:1-3]".

وقد كان نبيُّنا يهتم بالإصلاح وسدِّ الخلل، وتقويم العوج؛ ابتداء من الصلاة المفروضة حيث يؤم المأمومين، والتي تعدُّ أعظم ركن بعد الشهادتين وإقامتها في الجمعة والجماعات، وانتهاء بسدِّ الثغرات على المجتمع الإسلامي التي من شأنها أن تشتِّت الشملَ، وتفرِّق الجمع وتقوض البنيان، وتفرط العقد.

ومن الأحاديث النبويَّة ما جاء في الصحيح وغيره: "أقيموا الصفوفَ، وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخَلل، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصَل صفًّا وصَله الله، ومَن قطع صفًّا قطعه الله".

وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سوُّوا صُفوفَكم، فإنَّ تسوية الصفِّ من تمام الصلاة".

وعن النُّعمان بن بشيرٍ -رضي الله عنهما- قال: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُسوِّي صُفوفَنا حتى كأنما يُسوِّي بها القداح، حتى رأى أنَّا قد عقلنا عنه ثُم خرج يومًا فقام حتى كاد يُكبِّر، فرأى رجُلًا باديًا صدرُه من الصفِّ، فقال: "عبادَ الله، لتُسوُّن صُفوفَكم أو ليُخالفنَّ الله بين وجوهِكم".

أيها المؤمنون: وقد أراد نبيُّنا وسيدنا أن ينبِّهنا ويرشدنا إلى أمر هام، عظيم تام، وهو أنَّ الأمة المحمدية إذا اجتمعَت في صلاتها وشعائرها، وعبادتها ونسكها على الألفة والمحبة، والأخوَّة والمودَّة في الباطن والظاهر، واجتمعَت على رصِّ الصفوف وتسويتها، والاهتمامِ بها في المساجد وبيوت الله، وسائر ما افترض عليها من فرائض - فإنَّ ذلك من أعظم بشائر نصرها، ومن أقوى أواصر وحدتها ودلائل قوَّتها وعزَّتها، وأسباب انتظامها ونظامها، وإذا تفرَّقَت وتشتَّتت، وتباعدَت وتباغضت في تسوية صفِّها في الصلوات المفروضات، تفرَّقَت القلوبُ، واختلف الباطن، ولا بد للارتباط الوثيق والاتصال العميق بينهما، وكان ذلك من أعظم دلائل خذلانها ووسائل تفرُّقها واختلافها.

وفي الوقت الذي كان نبينا ورسولنا يولي اهتمامه بتسوية الصفوف ورصِّها، ويسدُّ الخلل ويصلح العوج قولًا وعملًا وظاهرًا وباطنًا - كان في الوقت ذاته يرصُّ صفوفَ المقاتلين المجاهدين في ساحات القتال، والدفاع عن سياج الأمَّة، وينهى عن الغشِّ والتحايل في الأسواق، وينهى عن السلوكيَّات والأخلاقيات المخالِفة لتعاليم الإسلام ولمنهج القرآن حتى استقامَت الأمَّة، وصلح أمر دينها، وكانت بحقٍّ خير أمَّة أُخرجت للناس؛ كما قال مولانا في محكم التنزيل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آلعمران:110].

أيها المسلمون: إنَّ مظاهر الخَلل وأبواب النَّقص في حياتنا ومجتمعاتنا كثيرة بيِّنة، وعديدة واضحة جلية، علينا جميعًا أن نتآلف ونتَّحد من أجل سدِّها، والعمل معًا على تقويم اعوجاجها، وسدِّ ما استطعنا من ثغراتها، ومن تلكم المظاهر:

الخلَل في تسوية الصفوف ورصِّها، والاستقامة في الصلاة والجماعة؛ فالمساجد -ولله الحمد- تمتلئ بروَّادها وتبتهج بزوَّارها، ولكن ما أن تدخل في الصفوف ويقف المصلُّون جنبًا إلى جنب حتى ترى الخلَل واضحًا، والنقص باديًا، والعوج بيِّنًا ظاهرًا، ولا أحد ينتبه إلى قول الإمام: (استووا، واستقيموا، سدُّوا الخلل، لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، وكأنَّه يخاطِب غيرَ عالمنا، ويسمع غيرنا، بل وصل الحال إلى نفور بعض المصلِّين من تسوية الصفوف ورصِّها، وكراهية الاستجابة لنِداء الإمام ووصلها، حتى اختلفت القلوب وتنافرَت النفوس، وتباعدَت الأرواح لأنَّ الأجساد مختلفة، والأبدان مبدَّدة، والصفوف مختلفة متباعدة.

كيف نريد أن تتآلَف أرواحنا، ويحب بعضنا بعضًا، وينتشر بيننا الودُّ والإيثار، والمحبة والاتصال، ونحن في صلاتنا ووقوفِنا بين يدي ربِّنا واتجاهنا لقلبتنا مختلفون؟ فهذا متقدِّم والآخر متأخِّر، بل أحيانًا متباغضون متحاربون حتى في صلاتنا وتوجُّهنا.

لقد بلغ من اهتمام رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- بصلاة الجماعة ورصِّ الصفوف واعتدالها واستقامتها حتى في ساحات القتال، وأرض الوغى، بل في حالات الخوف من العدوِّ؛ كما جاء في صِفة صلاة الخوف في السنَّة المطهرة المشرَّفة المكرمة، ألا يتَّعظ المسلمون ويستفيقون من نومهم وسباتهم، ويرجعون إلى دينهم وسنَّة نبيهم؟ قال تعالى:(وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) [النساء:102].

من مظاهر الخلَل ومواطن الزَّلل في الأمَّة: الخلل في السلوكيَّات والأخلاقيات والمعاملات؛ فتجد أنَّ بعض المسلمين يؤدون صلاتهم، ويقرؤون كتابَ ربهم، ويحجُّون بيتَه المعمور، ولكن تجدهم في بيعهم يغشون ويحتالون، ولأمانتهم وعهدهم يخونون وينقضون، ولعلمائهم وأئمَّتهم لا يستمعون بل مُدبِرون، ولقضايا أمَّتهم لا ينتصرون، ولإخوانهم لا ينجدون ويغيثون! مما حدا بالبعض ممَّن دخلوا إلى الإسلام حديثًا وأسلم جديدًا، واستنار بنور القرآن وذاق طعمَ الإيمان واهتدى بهدي العلم والدِّين - أن يحمد الله أنه اهتدى لنور الإسلام قبل أن يحتكَّ بمعاش المسلمين، ويسبر غورهم، ويرى أعمالهم وأفعالَهم، ويختبر تصرُّفاتهم وأقوالهم.

من مظاهر الخلل في أمَّتنا: الجهل بمعاني الإسلام وقلة المعرفة بتعاليم الدين، والتخلف عن ركب الحضارة والإعمار، نتبع الغربَ ونقلِّدهم في كلِّ ما يعملونه دون وعيٍ أو إدراك، بل أحيانًا دون تنبيه أو استدراك، حتى ولو كان مصادمًا لنصوص الشريعة، أو مخالفًا لعقيدتنا وإسلامنا؛ في تعاملنا وسلوكنا، وسلامنا ولباسنا، ومظاهر حياتنا، وفي أسلوب أكلنا وشربنا، بل في نمط حياتنا، وبعد أن كنَّا أمَّةً ماجدة لها السبق في شتَّى ميادين الحياة والمعرفة، أصبحنا في آخر الرَّكب ونهاية الفصل وآخر السطر.

ما أسهل أن يجد أعداؤنا في أمَّتنا مواطنَ الضَّعف، ومواضع الإخفاق، ودلائل الخَلل والقصور من أجل الإجهاض علينا وتدمير ثقافتنا، ونسف كل ما بنيَّناه وحققناه، فنحن مَن فتحنا لهم الثغرات التي وَلج منها مختلف التيَّارات المنحرفة، والطوائف المضلَّة من علمانيين وليبراليين ومتحزبين، وتنصيريين ورافضة ومنافقين، من خلال وسائل إعلاميَّة وقنوات فضائية، ودور نشر صحفيَّة، حتى أخرجونا من تاريخنا العريض، وجعلونا وصوَّرونا بأنا أمَّة لا يمكنها التعايش، وأنَّنا متخلِّفون معقَّدون وإلى الله المشتكى، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أيها المسلمون: تأمَّلوا قوله -سبحانه- وهو يوجِّه خطابَه إلى صحابة نبيِّه الذين زكَّاهم وأثنى عليهم: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165]؛ أي: بسبب عِصيانكم للرسول لما أمركم أن لا تبرحوا من أماكنكم التي أمركم بها، فأبيتم إلَّا أن تنزلوا عن مواطنكم، فبسبب عصيانكم لرسول الله أصابكم هذا، فإذا كان خلَل في صفِّ المعركة وقع ممَّن زكَّاهم المولى، وجعلهم في المنازل العليَّة والمقامات السنية، يُحدِث مثل هذه المصيبة الكبيرة، والنَّكبة الجسيمة، ويؤدي إلى تلك الخسارة الفادِحة في الأرواح العزيزة، والمهج النفيسة - فكيف يأمن المسلمون اليوم وهم يَفتحون على أنفسهم وبلادهم الخلَلَ الجسيم والنَّقص الوخيم في شتَّى مجالات الحياة وميادينها؛ في المعرفة والاقتصاد، والتعليم والإرشاد، ألا يصيبهم بأكثر وأعظم ممَّا أصاب الأتقياء، الأنقياء الأصفياء؟

أيها المسلمون: إنَّنا أمَّة زكَّاها المولى ووعدها رسولُنا بالبشائر، ووعدنا سبحانه بالتمكين والقوَّة، والعزَّة والريادة، لكن متى ما قمنا بواجبنا وأدينا فرائضنا واستمعنا لعلمائنا، فهذه الأمَّة كالمطر، ولكنَّنا بحاجة إلى تغيير ونماء، وعزَّة وسناء: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11]، نحن بحاجة إلى سدِّ جميع الثَّغرات التي ينفذ منها أعداؤنا، ويتسلَّل منها حسَّادنا، وبحاجة إلى رأبِ الصَّدع ولمِّ الشَّمل، وسدِّ الخلل الذي أصاب جدارَنا من الداخل والخارج، من خلال وسائل أرشدنا إليها نبيُّنا، وذكَّرنا بها علماؤنا، ورسمها لنا فقهاؤنا وفضلاؤنا، ومنها:

العلم الشرعي، والوعي الديني، والتحذير من الخرافات المضادَّة للدين، والمنافية للعقيدة واليقين، والمشوهة لحقيقته، والمضادَّة لظاهره وباطنه، ترتكز إلى كتاب ربِّنا، وسنَّة نبينا، وتؤكِّد على القيم النبيلة، والأخلاق الصحيحة، وعلى منهج الوسط الذي ارتضاه ربُّنا لنا، وخطَّه لنا رسولنا فقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:143].

ومن الوسائل الهامَّة في إصلاح الخلَل: الاجتماع والائتلاف تحت مظلَّة الدِّين الحنيف، ومن أجل ذلك شرع لنا المولى الاجتماع في الصَّلوات الخمس، واجتماعًا أوسع منه في يوم العيد، وأوسع منه وأعظم اجتماع الحجَّاج في عرفات وأيام مِنًى؛ كل ذلك من أجل تحقيق أهداف سامية، وحِكَم عالية، ومقاصد جليلة، فيقف المسلِم جنبَ أخية المسلم في صلاته وحجِّه، دون تمييز بين لون ولون، ولا فضل لعربيٍّ على أعجمي، أو قبيلة على قبيلة إلَّا بالتقوى، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، فكل المسلمين -مهما اختلفت جنسيَّاتهم وألوانهم وأعراقهم- سواسية كأسنان المشط؛ وإلى ذلك أشار المصطفى عليه أفضل الصَّلاة وأتم التسليم: "مَثلُ المؤمنين في تَوادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو تَداعَى له سائرُ الجسَد بالسَّهر والحُمَّى".

ومن حديث المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذرٍّ بالربذة، وعليه بُردٌ وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر، لو جمعتَ بينهما كانت حلَّة، فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمُّه أعجمية، فعيَّرتُه بأمِّه، فشكاني إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلقيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية"! قلت: يا رسول الله، من سبَّ الرجال سبُّوا أباه وأمَّه، قال: "يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعِموهم ممَّا تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلَّفتموهم فأعينوهم".

إنَّ مما يحزن القلب أنَّ العنصرية والجاهليَّة أطلَّت برأسها من جديد، وكشَّرت عن أنيابها بثوبها الجديد، حتى في شعائرنا وصلواتنا وعبادتنا، وأحيانًا في مساجدنا؛ فالغنيُّ يأنف أن يقف بجانب أخيه الفقير، حتى تشتَّتت صفونا وتمزَّقَت وحدتنا، وتسلَّط علينا أعداؤنا، وشمت بنا حسَّادنا.

فالناظر إلى صفوفنا وإلى صلاتنا وسائر اجتماعاتنا يرى الخلَل باديًا، والتقصير واضحًا جليًّا، حتى انطبق فينا قولُ رسولنا الصادق الوعد الأمين في حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك الأمم أن تَداعى عليكم، كما تَداعى الأكلة إلى قصعتها"، فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهن"، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهن؟ قال: "حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت".

فاتقوا اللهَ -أيها المسلمون-، وتدبَّروا آياته، وتأمَّلوا في أسراره وإعجازه، واهتدوا بهدي نبيِّكم، وتذكَّروا هذه الآداب، واعملوا ليوم الحساب، وكونوا عبادَ الله إخوانًا: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].

نبَّهني الله وإيَّاكم من رقدة الغافلين، وحشرني الله وإيَّاكم تحت لواء سيِّد المرسلين، والحمد لله رب العالمين...