العالم
كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - الحكمة وتعليل أفعال الله |
فإذا ظهرَ لنا خطرَ الغِناءِ والمعازفِ على الشُّعوبِ والبلادِ.. وما يجلبُه من سَخطِ وغضبِ ربِّ العبادِ.. فمسئوليتُكم يا أهلَ بلادِ الحرمينِ عظيمةٌ.. في الحفاظِ على نعمِ اللهِ العميمةِ.. فلماذا يَفرِضونَ المهرجاناتِ الغنائيةَ وحُثالةَ العُروضِ الغربيةَ على السَّوادِ الأعظمِ المُتديِّنِ بحُجَّةِ التَّرفيهِ.. وأيُّ ترفيهٍ هذا الذي يجلبُ سخطَ الجبَّارِ؟.. ويُبدِّلُ العزَّ والشَّرفَ بالذُّلِّ والعارِ.. فكفُّوا أيديَ السُّفهاءِ، من قبلِ أن يأتيَ البلاءُ، ولا يُستجابُ يومئذٍ الدُّعاءُ..
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فَإنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيْثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْي هَدْيُ مُحَمّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ اْلأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةً، وَكُلَّ ضَلاَلَةِ فِي النَّارِ.
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: دَخَلَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ، وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فاضْطَجَعَ علَى الْفِرَاشِ وحَوَّلَ وَجْهَهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فانْتَهَرَنِي، وقال: مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا"، فلمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا.
سبحانَ اللهِ.. قالَ الصِّديقُ الأكبرُ في: دُفٍّ وجاريتينِ صغيرتينِ لم تَبلغا، وليستا بمغنِّيتينِ –أي ليستا من أهلِ الغِناء-، يُغنِّيانِ بغِناءِ بُعاثٍ وهي كلماتُ الحربِ والقِتالِ، أنَّه "مِزمارُ الشَّيطانِ"، ولم يُنكرْ عليه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- هذه التَّسميةَ، وإنما أخبرَه أن هذا الدُّفَ والغناءَ الشَّريفَ للنِّساءِ جائزٌ في الأعيادِ، كما يجوزُ في الأعراسِ.
فأفتوني أيُّها العُقلاءِ.. هل يجوزُ الاستدلالُ بهذا الحديثِ في جوازِ الغِناءِ المصاحبِ للمعازفِ بجميعِ أنواعِها في فِرقةٍ موسيقيةٍ مُتكاملةٍ، وكلامٍ غَزليٍّ يُحرِّكُ القُلوبَ ويُثيرُ الشَّهواتِ، يترنَّمُ به رجلٌ أو امرأةٌ أمامَ الرِّجالِ والنِّساءِ، في كلِّ الأوقاتِ وجميعِ المناسباتِ؟
بل وكانَ هذا الأمرُ خاصاً للنِّساءِ دونَ الرِّجالِ.. ولم تكنْ هذه مجالسُ الأبطالِ.. يقولُ شَيخُ الإسلامِ -رحمَه اللهُ-: "ولكنْ رَخَّصَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- للنِّساءِ أن يَضربنَ بالدُّفِ في الأعراسِ والأفراحِ، وأما الرِّجالُ على عهدِه فلم يكنْ أحدٌ يَضربُ بِدفٍّ ولا يُصفِّقُ بكفٍّ، بل ثَبتَ عنه في الصَّحيحِ أنه قالَ: "التَّصفيقُ للنِّساءِ والتَّسبيحُ للرِّجالِ، ولَعنَ المتشَبِّهاتِ من النِّساءِ بالرِّجالِ والمتشَبِّهينَ من الرِّجالِ بالنِّساءِ".
هل تعلمونَ ما هو صوتُ الشَّيطانُ؟، الذي جاءَ في قولِه تعالى مخاطبًا إبليسَ: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) [الإسراء: 64]، قالَ مُجاهدٌ والضَّحَّاكُ: صوتُ الشَّيطانِ هو الغناءُ والمَزاميرُ واللَّهْو.
ذكرَ اللهُ تعالى في كتابِه (لهوَ الحديثِ)، فسُئِلَ عنه ابنٌ مسعودٍ -رضي الله عنه- الذي قالَ عنه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يَقْرَأ الْقُرانَ رَطْباً كما نزَلَ فَلْيَقْرَأهُ على قِراءَةِ ابْنِ أمِّ عَبْدٍ"، والذي قالَ عن نفسِه: والذي لا إلهَ غيرُه ما من كتابِ اللهِ سورةٌ إلا وأنا أعلمُ حيثُ أُنزلتْ، وما من آيةٍ إلا وأنا أعلمُ فيما أُنزلتْ، ولو أَعلمُ أحداً هو أَعلمُ بكتابِ اللهِ مِنِّي تَبلغه الإبلُ لركبتُ إليه.. سُئلَ عن قولِه تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [لقمان: 6]، فقالَ: واللهِ الَّذي لا إلهَ إلاَّ هو إنَّه الغِناءُ.
وإدمانُ الغناءِ يُنبتُ النِّفاقَ في القلوبِ.. فكيفَ يجتمعُ فيهه كلامُ الشَّطانِ وكلامُ علاَّمِ الغيوبِ.. كتبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ -رحمَه اللهُ- إلى مؤدبِ ولدِه: "ليكنْ أولُ ما يعتقدونَ من أدبِك بُغضَ الملاهي التي بَدْؤها من الشَّيطانِ وعاقبتُها سخطُ الرحمنِ، فإنه بلغني عن الثِّقاتِ من أهلِ العلمِ: أنَّ صوتَ المعازفِ واستماعَ الأغاني واللَّهجَ بها يُنبتُ النِّفاقَ في القلبِ كما يَنبتُ العشبُ على الماءِ".
حبُّ الكتابِ وحبُّ ألحانِ الغِناءِ | في قَلبِ عبدٍ ليسَ يجتمعانِ |
فالقلبُ بيتُ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُهُ... حُبَّاً وإخلاصاً مَعَ الإحسَانِ
ثقُلَ الكتابُ عليهمُ لما رَأوا | تَقييدَه بشرائعِ الإيمانِ |
واللهوُ خفَّ عليهمُ لما رَأوا | ما فيه من طَربٍ ومن ألحانِ |
يا لذةَ الفُسَّاقِ لستِ كلذةِ | الأبرارِ في عَقلٍ ولا قُرآنِ |
وهكذا الكُّفارُ.. قالَ تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) [النجم: 59- 61]، قالَ ابنُ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: سامدونَ؛ أي: مُغنُّونَ، يُقالَ للقَيْنةِ (المُغنِّيةِ): أَسْمِدينا؛ أي: ألْهِينا بالغناءِ. فاللهُ تعالى عابَ على الكُفَّارِ هجرَ سماعِ القرآنِ والاشتغالِ بالغناءِ.
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَه اللهُ-: "ولهذا يوجدُ من اعتادَه واغتذى به، لا يَحنُّ على سماعِ القرآنِ، ولا يَفرحُ به، ولا يجدُ في سماعِ الآياتِ كما يجدُ في سماعِ الأبياتِ، بل إذا سمعوا القرآنَ سمعوه بقلوبٍ لاهيةٍ وأَلسنٍ لاغيةٍ، وإذا سمعوا المُكاءَ والتَّصديةَ خَشعتْ الأصواتُ وسكنتْ الحركاتُ وأصغتْ القلوبُ".
وقالَ شيخُ الإسلامِ -رحمَه اللهُ-: ولقد حدثني بعضُ المشايخِ أن بعضَ ملوكِ فارسٍ قالَ لشيخٍ رآه قد جمعَ الناسَ على مثلِ هذا الاجتماعِ (مجالسِ السَّماعِ والطَّربِ)، فقالَ: يا شيخُ إن كانَ هذا هو طَريقُ الجنةِ، فأينَ طريقُ النَّارِ؟
وصدقَ واللهِ.. فكيفَ يكونُ مجلسُ أهلِّ الجنَّةِ الأبرارِ.. مجلسَ غناءٍ وطربٍ وعودٍ ومِزمارٍ.. ولذلكَ وصفَ اللهُ تعالى عبادَه بقولِه: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الفرقان: 72]، قالَ محمدِ بنِ الحنفيَّةِ -رحمَه اللهُ-: "الزُّورُ هنا الغِناءُ".
الغناءُ له سكرةٌ قد تكونُ أعظمُ من سكرةِ الخمرِ، قالَ يزيدُ بنُ الوليدِ: "يا بَنِي أميَّة، إيَّاكم والغناءَ؛ فإنَّه يُنقصُ الحياءَ، ويَهْدمُ المروءةَ، ويَزِيدُ الشَّهوةَ، ويَنوبُ عن الخمرِ، ويَفْعلُ ما لا يفعلُه السُّكرُ"..
والغناءُ وسيلةٌ إلى الزِّنا، قالَ الفضيلُ بنُ عياضٍ -رحمَه اللهُ-: "الغناءُ رُقْيةُ الزِّنا".. ولذلكَ غالباً ما يجتمعُ الغناءُ والخمرُ والزِّنا.. في مجلسِ أهلِ الفُجورِ والخَنا.
اسمعوا إلى هذا الحديثِ المُخيفِ من الصَّادقِ المَصدوقِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "يَكُونُ في أمَّتِي قذْفٌ وخَسْفٌ ومَسْخٌ"، فخافَ الصَّحابُة رضيَ اللهُ عنهم فقالوا: متَى ذاكَ يا رسولَ اللهِ؟، قالَ: "إذا ظهَرَتِ القَيْنَاتُ والمعازفُ، وشُرِبَت الخُمورُ"، والمصيبةُ أنَّهم يُخادعونَ أنفسَهم والنَّاسَ بتسميَّتِها بغيرِ اسمِها، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "ليَشْرَبنَّ قومٌ من أمَّتي الخمرَ يُسمُّونها بغيرِ اسمِها، يُعزفُ على رؤوسِهم بالمعازفِ والمُغنِّياتِ، يَخْسفُ اللهُ بهم الأرضَ، ويَجْعلُ منهم قِرَدةً وخَنازيرَ".
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَه اللهُ-: مذهبُ الأئمةِ الأربعةِ أنَّ آلاتِ اللهوِ كلَّها حرامٌ، ثبتَ في صحيحِ البخاريِ وغيرِه أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أخبرَ أنه سيكونُ من أمتِه من يَستحِّلُ الحِرَّ والحريرَ والخمرَ والمعازفَ، وذكرَ أنهم يُمسخونَ قِردةً وخنازيرَ، ولم يذكرْ أحدٌ من أتباعِ الأئمةِ في آلاتِ اللَّهوِ نِزاعاً.
وقالَ الألباني -رحمَه اللهُ-: "اتَّفَقتْ المذاهبُ الأربعةُ على تحريمِ آلاتِ الطَّربِ كلِّها، وتفصيلُ كلامِه فيما يأتي:
قالَ القاضي أبو يوسفَ تِلميذُ الإمامِ أبى حنيفةَ رحمهما اللهُ تعالى وكان قاضي قُضاةِ الدَّولةِ العباسيةِ حينما سُئِل عن رجلٍ سمعَ صوتَ المزاميرِ من داخلِ أحدِ البيوتِ، فقالَ: "ادخلْ عليهم بغيرِ إذنِهم، لأنَّ النَّهيَ عن المنكرِ فَرضٌ".
وسَألَ رجلٌ الإمامَ مالكٍ -رحمَه اللهُ- عن الغناءِ، فقالَ للسَّائلِ: أرأيتَ إذا كانَ يومُ القيامةِ، أيكونُ مع الباطلِ أو معَ الحقِّ؟، فقالَ الرَّجلُ: يكونُ مع الباطلِ، فقالَ الإمامُ مالكٍ: والباطلُ أينَ؟، أفي الجنَّةِ أم في النَّارِ؟، قالَ الرجلُ: في النَّارِ، فقالَ الإمامُ: "اذهبْ، فقد أفتيتَ نَفْسَك، وقالَ: إنما يَفعلُه عِندنا الفُسَّاقُ".
وسُئلَ الشَّافعيُ -رضي الله عنه- عن الغِناءِ؟، فقالَ: أولُ من أحدثَه الزَّنادقةُ في العراقِ حتى يُلهوا النَّاسَ عن الصلاةِ وعن الذِّكرِ، وقالَ عبدُ اللهِ ابنُ الإمامِ أحمدِ بنِ حنبلَ -رحمهما اللهُ-: سألتُ أبي عن الغناءِ، فقالَ: "الغِناءُ يُنبتُ النِّفاقَ بالقلبِ".
فهذا بعضُ كلامُ اللهِ تعالى ورسولِه والصَّحابةُ والتَّابعينَ والأئمةِ الأربعةِ في الغناءِ، فهل انكشفَ الغِطاءُ، ووصلَ النِّداءُ؟
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ العظيمِ الرحمنِ، الكريمِ المنانِ، المتفضلِ بواسع ِالرحمةِ والعطاءِ والإحسانِ، أحمدهُ سبحانه وأشكرُه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، وصفيُّهُ وخليلُه، وخيرتُه من خلقِه، صلّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه ومن سارَ على نهجهِ، واقتفى أثرَهُ إلى يومِ الدينِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً:
فإذا ظهرَ لنا خطرَ الغِناءِ والمعازفِ على الشُّعوبِ والبلادِ.. وما يجلبُه من سَخطِ وغضبِ ربِّ العبادِ.. فمسئوليتُكم يا أهلَ بلادِ الحرمينِ عظيمةٌ.. في الحفاظِ على نعمِ اللهِ العميمةِ.. ففي بلادِكم بيتُ اللهِ الحرامُ.. ومسجدُ سيِّدِ الأنامِ.. وإليكم تتطَّلعُ أعينُ أهلِ الإسلامِ.. في بلادِكم لا يجتمعُ دينانِ.. وأيِّسَ أن يُعبدَ فيها الشَّيطانُ.. وطهَّرَها اللهُ من عبادةِ الأوثانِ.. وليسَ للبدعِ الظَّاهرةِ فيها مكانٌ.. فاشكروا اللهَ تعالى الكريمَ الرَّحمنَ.
ولذلكَ فإنَّ معصيةَ من أنعمَ اللهُ تعالى عليه، ليسَ كمعصيةِ غيرِه.. قالَ تعالى في أهلِ غزوةِ أُحدٍ: (وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 152].. فالمعصيةُ من بعدِ ما أرانا اللهُ ما نُحبُّ من أنعامِه خطيرةٌ.. وبالعقوبةِ المُضاعفةِ جديرةٌ.
وإنكَ لتعجبُ من تخطيطِ وصبرِ أهلِ الباطلِ.. (وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)[ص: 6]، حتى أنَّهم يَفرِضونَ المهرجاناتِ الغنائيةَ وحُثالةَ العُروضِ الغربيةَ على السَّوادِ الأعظمِ المُتديِّنِ بحُجَّةِ التَّرفيهِ.. وأيُّ ترفيهٍ هذا الذي يجلبُ سخطَ الجبَّارِ؟.. ويُبدِّلُ العزَّ والشَّرفَ بالذُّلِّ والعارِ.. فكفُّوا أيديَ السُّفهاءِ، من قبلِ أن يأتيَ البلاءُ، ولا يُستجابُ يومئذٍ الدُّعاءُ، "والذي نفسي بيدِه لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتنهوُنَّ عن المنكرِ، أو ليُوشِكنَّ اللهُ أن يبعثَ عليكم عِقاباً منه، ثم تَدعونَه فلا يُستجابُ لكم".
وإذا جاءَ عقابُ ربِّ العالمينَ، لا ينفعُ حينَها وجودُ الصَّالحينَ، "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ".. (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
فلنخاطبَ الولاةَ والمسئولينَ والعلماءَ، ولنُحذِّرَ في المجالسِ ووسائلِ التَّواصلِ من الغِناءِ، ولنُوصِلَ أصواتِنا للقريبِ والبعيدِ، ولنُحصِّنَ بيوتَنا وأبنائنا من هذا الخطرِ المريدِ، فلا ينبغي لأهلِّ الحقِّ السُّكوتُ والتَّخاذلُ، وهم الأكثرونَ الأفاضلُ، حتى يرتفعَ الشَّرُ والفسادُ، وتنجو سَّفينةُ البلادِ، واصبروا وصابروا، وشِعارُنا لمن أرادَ دينَنا وبلادَنا بسوءٍ.. (وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا) [الإسراء: 8].
اللهمَّ يا ذا العزَّةِ والجبروتِ، يا من يُحيي العظامَ بعدَ الموتِ، اللهمَّ بأسمائكَ الحسنى وصِفاتِك العُلى، يا واحدُ يا أحدٌ، يا من ليسَ له كُفواً أحدٌ.
اللهمَّ احفظْ بلادَنا وبلادَ المسلمينَ من كلِّ شرٍّ وفسادٍ، اللهمَّ اكفِنا شرَّ الأشرارِ وكيدَ الفجَّارِ، اللهمَّ لا تؤاخذُنا بما فعلَ السُّفهاءُ منا.
اللهم رُدَّنا إلى الحقِّ رداً جميلاً، واجمعْ قلوبَنا على طاعتِك، ونعوذُ بكَ من موجباتِ سخطِكَ، ونسألُك موجباتِ رحمتِك، وعزائمَ مغفرتِك.
اللهمَّ وفِّقْ وليَ أمرِنا ونائبيهِ لكلِّ خيرٍ، واجعلهم مفاتيحَ كلِّ خيرٍ، مغاليقَ كلِّ شرٍ، انفعْ بهم العبادَ والبِلادَ، وكفَّ بهم أهلَ الزِّيغِ والفسادِ، واجعل هذا بلداً آمناً مؤمناً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ، برحمتِك يا أرحمَ الرَّاحمينَ.