الحق
كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...
العربية
المؤلف | حسام بن عبد العزيز الجبرين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لا أدري أيكون العجب من جوع خير البشر وأفضل أصحابه، أم من هذا النعيم الذي حوته سفرة فيها ثلاثة أصناف !الله المستعان! بالله عليك كم من صنف طعام في وجبة غدائك المعتادة؟!
الخطبة الأولى:
الحمد لله الغنيِ الخبير الصبور البصير الحليم القدير، نحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ملء السموات وملء الأرض، ونحمده عدد ما خلق وملء ما خلق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شكر ربه بالفعال وبالمقال، صلى الله عليه وسلمَ وبارك وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، والسعي لما ينميها في قلوبنا وجوارحنا؛ فإنها كما أخبر سبحانه خير لباس وخير زاد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].
إخوة الإيمان: خرج رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ذاتَ يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكرٍ وعمرَ، فقال: "ما أخرجكما من بيوتِكما هذه الساعةَ؟" قالا: الجوعُ يا رسولَ اللهِ! قال: "وأنا والذي نفسي بيده! لأخرجَني الذي أخرجَكما، قوموا"، فقاموا معه، فأتى رجلًا من الأنصارِ، فإذا هو ليس في بيتِه، فلما رأته المرأةُ قالت: مرحبًا! وأهلًا! فقال لها رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "أين فلانٌ؟" قالت: ذهب يستعذِبُ لنا من الماءِ. إذ جاء الأنصاريُّ فنظر إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وصاحبَيه، ثم قال: الحمد للهِ، ما أحدٌ اليومَ أكرمُ أضيافًا مِنِّي، قال: فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بُسرٌ وتمرٌ ورطبٌ، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المُديةَ -أي السكين- فقال له رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "إياك والحَلوبَ" فذبح لهم، فأكلوا من الشاةِ، ومن ذلك العِذقِ، وشربوا. فلما أن شبِعوا ورَوَوْا، قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لأبي بكرٍ وعمرَ: "والذي نفسي بيده! لتُسأَلُنَّ عن هذا النعيمِ يومَ القيامةِ، أخرجَكم من بيوتِكم الجوعُ، ثم لم ترجِعوا حتى أصابَكم هذا النَّعيمُ" [رواه مسلم].
لا أدري أيكون العجب من جوع خير البشر وأفضل أصحابه، أم من هذا النعيم الذي حوته سفرة فيها ثلاثة أصناف !الله المستعان! بالله عليك كم من صنف طعام في وجبة غدائك المعتادة؟!
اللهم اغفر لنا تقصيرنا في حقك وأوزعنا شكر نعمك.
معشر الكرام: نُشر في بعض الصحف الالكترونية خبرا مزعجا؛ فيه أن السعودية الأولى عالميا في إهدار الأطعمة! أيعقل -يا عباد الله- أن تكون بلاد الحرمين ومهبط الوحي هي الأولى بالإسراف وهدر النعمة؟! حيث تقدر قيمة الفقد والهدر الغذائي بالمملكة بـ "49.833" مليار ريال سنوياً حسب الورقة المقدمة من وزارة الزراعة في ورشة الحد من الفقد والهدر الغذائي.
كيف نسي المترف المسرف جوع أبيه أو جده! ألم يعلم أن من أهل هذه البلاد من فرح بجيفة حمار حين وجدها بل لم يخبر بها أحدا وصار يتردد عليها فيأخذ شِلْعا منها وينفضه بيده ليتساقط الدود ثم يشويه فيأكله كما أخبر بذلك حفيده، وأخبر هذا الحفيد أن جده لأمه بكى مرة لما رأى علبة زبادي تُرك بعضها على السفرة لم يؤكل، فلما بكى ذكر من أخبار الجوع وذكر أنه عايش رجلا كان يعرض ابنته لمن يقبل الزواج بها مقابل مَلء بطنها! ولكنه لم يجد وماتت -رحمها الله- بعد مدة ليست بطويلة! أَجهِل الذي لا يقدر النعمة أن أهل هذه البلاد فيهم من كان يبقى أياما بلا طعام ومنهم من مات جوعا!
عباد الله: إن حفظ النعم من الزوال إنما يكون بالشكر: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]، فلنستشعر نعم الله بقلوبنا، ولنكثر حمده بألسنتنا، ولنستكثر مما يرضيه، ولنجتنب ما يسخطه، فبهذه الأربع يكون الشكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 168- 169]، وقال عز شأنه: (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [الأنعام: 142]، فأمر سبحانه بالأكل من رزقه ونهي عن اتباع خطوات الشيطان، ومن ذلك الإسراف.
محزن ومخيف أن تكون بلادنا الأولى في إهدار الأطعمة؛ لأن هذا كفر للنعمة يقود لزولها: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]؛ و لأن الله أمر بالشكر ونهى عن الإسراف: (كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141]، وقال: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
إن هذا الخبر عن بلادنا يسيء للإسلام من حيث شعرنا أم لم نشعر! فالخبر منشور في وسائل الإعلام وبلادنا فيها قبلة المسلمين التي يتوجهون إلى كل يوم خمس مرات على الأقل وفيها المشاعر المقدسة وإليها يحج المسلمون من أصقاع المعمورة، فيا ترى ماذا سيكون انطباع العالم عن الإسلام الذي تصدرت فيه بلاد الحرمين جميع دول العالم في هدر الأطعمة؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم يا منان يا عفو منّ علينا بعفوك، اللهم يا منان يا شكور منّ علينا بشكرك واستغفروا الله إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
معشر الكرام: إن وعي الفرد ووعي الأسرة هو أول خطوة في التصحيح فالوالدان مع أولادهم والمعلم مع تلاميذه وهكذا، وبلا شك أن على المشاهير في الإعلام وأصحاب الأقلام دور كبير جدا في نشر الوعي وتنميته في المجتمع، فلو أن المشهور في وسائل التواصل مثلا نشر فكرة حفظ ما تبقى من الطعام النظيف وفكرة الصدقة به لأثر تأثيرا كبيرا ، والمحزن أن يكون الإسراف والسلوك الخاطئ من بعض القدوات!
إذا وجد الوعي، فإن أهل البيت يطبخون ما يحتاجون وحين يبقى شيء يحفظوه فيَطعموه فيما بعد أو يُطعِموه، وإذا زاد الوعي فستجد الإنسان في البوفيه المفتوح لا يأخذ إلا حاجته لا كما نراه من بقاء الأطعمة في الصحون ثم يرمى بعد ذلك.
ومن الوعي: وضع نظيف الطعام مما يتبقى في صحن سفري، سواء أكنا في مطعم أو نزهة ، والعلب القصديرية صارت متوفرة بأحجام متنوعة ولله الحمد.
والأكباد الجائعة أولى من البهائم فضلا عن تركتها للقمامة ! ومن الجيد جمع بقايا الطعام في البيوت والمطاعم والمدارس مما لا يناسب توزيعه فيطعم للطيور والبهائم .
وهذا مقترح لأهل المطاعم وعسى أن يكون مناسبا: الشيء الملحوظ أن نفر الأرز -كما غلب الاصطلاح عليه- في المطاعم كثير على الفرد وغالبا لا يأكل الفرد إلا دون النصف ، والمقترح أن تجعل المطاعم لأرز الفرد مقاسين ويكون الأصغر بسعر أقل، وهكذا..
ومن المقترح على التجار ومصنعي الألبان والأغدية: إيجاد أحجام صغيرة بأسعار أقل ، فلماذا لا يوجد علبة زبادي بنصف ريال وكذا اللبنة وغيرها؟ ولماذا لا يكون في الخبز حجم أصغر بنصف السعر مثلا وكذا الصامولي؟
ومن نعم الله: انتشار مشايع حفظ النعمة في المدن ليأخذوا بقية أطعمة المناسبات وخاصة الكبيرة فيَصِل عن طريقهم إلى المحتاجين .
إخوة الإيمان: إذا كان صح الأمر النبوي بأكل ما سقط من الطعام فكيف يا ترى بما كان نظيفا في صحنه؟! في الحديث: "فإذا سقطت من أحدِكم اللقمةَ فليمطْ ما كان بها من أذى ثم لْيأْكلْها، ولا يدعها للشيطانِ، فإذا فرغ فلْيلْعقْ أصابعَه" [أخرجه مسلم]، قال أنس راوي الحديث: "وأَمرَنا أن نسلتَ القصعةَ" أي نمسَحَها ونتتبَّعَ ما بِقِيَ فيها مِنَ الطَّعامِ.
وأقل شيء تجاه النعمة أن توضع للطيور والحيوانات وعسى الله ألا يؤاخذنا.
(كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) [طه: 81].
ثم صلوا وسلموا على خير البرية...