العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصلاة |
إذا عَجزَ المصلي عن الإتيانِ بأركانِ الصلاةِ أو ببعضِ هيئاتِها الشرعيةِ فإنه يسقطُ عنه ما عجَز عنه، ويأتي به بحسبِ حالهِ وما تيسَّر له، وقد أجمع أهلُ العلمِ على أنَّ من صلى الفريضةَ جالساً وهو قادرٌ على القيامِ فصلاتُه باطلة.. ومن الملاحظِ في الآونةِ الأخيرةِ تساهلُ بعضِ المصلين - رجالاً ونساء - في أداءِ الصلاةِ المكتوبةِ على الكراسي، ولذا رأيتُ التنبيهَ على أحكامِ الصلاةِ على الكرسي على الوجهِ الصحيحِ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي أيها المؤمنون والمؤمنات بتقوى الله -جل وعلا-، فإن تقواه خيرُ زادٍ للنجاةِ من كرباتِ يومِ المعادِ، ودخولِ الجناتِ برحمةِ الرحيمِ المنان (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون)[البقرة: 281].
عباد الله: جاءتْ شريعةُ الإسلامِ السمحاءُ بالتخفيفِ والتيسيرِ، ورفعِ الحرجِ، ودفعِ المشقَّةِ، وهي قاعدةٌ شرعيةٌ أصيلةٌ مبنيةٌ على أدلةِ الكتابِ والسُّنَّةِ، كما في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]، وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وقوله -جل وعلا-: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" (رواه البخاري)، وقال أيضاً -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدين يسر" (رواه البخاري ومسلم).
فهذه النصوصُ وغيرُها تدلُّ على أن شريعتَنا - ولله الحمد والمنَّة - سهلةٌ يسيرةٌ، وأنَّها جاءتْ برفعِ الحرجِ عنِ المكلفين لمراعاتِها أحوالَهم في كلِّ زمانٍ، ومكانٍ، وأن أيَّ حكمٍ خرجَ عن التسهيلِ والتيسيرِ إلى ضدِّه من المشقةِ والعنتِ والحرجِ، فليسَ من الدينِ في شيءٍ. فكلُّ عُسرٍ ومشقةٍ يستوجبُ التخفيفَ والتيسيرَ.
عباد الله: وبناءً على هذا الأصلِ العظيمِ، فإذا عَجزَ المصلي عن الإتيانِ بأركانِ الصلاةِ أو ببعضِ هيئاتِها الشرعيةِ فإنه يسقطُ عنه ما عجَز عنه، ويأتي به بحسبِ حالهِ وما تيسَّر له.
وقد أجمع أهلُ العلمِ على أنَّ من صلى الفريضةَ جالساً وهو قادرٌ على القيامِ فصلاتُه باطلة؛ لقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صلِّ قائماً، فإن لم تستطعْ فقاعداً، فإن لم تستطعْ فعلى جنبك" (رواه البخاري).
عباد الله: ومن الملاحظِ في الآونةِ الأخيرةِ تساهلُ بعضِ المصلين - رجالاً ونساء - في أداءِ الصلاةِ المكتوبةِ على الكراسي، ولذا رأيتُ التنبيهَ على أحكامِ الصلاةِ على الكرسي على الوجهِ الصحيحِ، فأقول وبالله التوفيق:
(1) أجمع العلماءُ على أنَّ لصلاةِ الفريضةِ أركاناً لا تصحُّ إلا بها، منها القيامُ والركوعُ والسجودُ وغيرُها؛ فمن ترك منها ركناً وهو قادرٌ عليه فصلاتُه باطلةٌ.
إذا صلى المتطوعُ صلاةَ النافلةِ جالساً وهو عاجزٌ عن القيامِ فإن أجرَه تامٌ، وذلك لأنه معذورٌ في تركِ القيامِ، أما إذا تركه وهو قادرٌ عليه غيرُ معذورٍ فإنَّ أجرهَ على النصفِ من أجرِ القائم.
(2) القاعدةُ العامةُ في الشريعةِ "أن من عجز عن القيامِ صلى جالساً، ومن عجز عن الركوعِ أومأ حالَ قيامِه، ومن عجز عن السجودِ أومأ حالَ جلوسِه"، ومستندُ هذهِ القاعدةِ قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" (رواه البخاري ومسلم)، وقولُه -صلى الله عليه وسلم- لعمَّارٍ: "صلِّ قائماً فإن لم تستطعْ فجالساً فإن لم تستطعْ فعلى جنبٍ" (رواه البخاري).
(3) أنَّ قاعدةَ "المشقةُ تجلبُ التيسيرَ"، وقاعدةَ "لا واجبَ مع العجزِ"، تؤكِّد أنه لا يلجأُ المسلم للصلاةِ على الكرسي إلا إذا عجز عن الصلاةِ جالساً على الأرض.
(4) قياسُ بعضِهم جوازُ الصلاةِ على الكرسي بصلاةِ الصحابةِ معتمدينَ على العصيِّ في
صلاةِ التراويحِ قياسٌ مع الفارق، للفرقِ بين الفريضةِ والنافلةِ.
(5) أنَّ التعبديات لا مدخلَ فيها للقياسِ، وأيضاً غالبُ الذين يصلُّونَ على الكراسي يقلِّدُ بعضُهم بعضاً، وبعضهُم يستطيعُ الصلاةَ جالساً على الأرضِ دونَ مشقةٍ لكنَّه لا يستطيعُ القيامَ، وهذا يصلي على الأرضِ ولا يصلي على الكرسي.
(6) من يصلي الفريضةَ على الكرسي وهو قادرٌ على السجودِ على الأرضِ، ولكن لا يسجدُ بلْ يومئ وهو على الكرسي، فهذا لا تصح صلاتُه؛ لأنه ترك ركناً من أركانِ الصلاةِ وهو السجودُ وهو قادرٌ عليه.
(7) من يصلى على الكرسي وهو يستطيعُ القيامَ ولا يستطيعُ السجودَ على الأرضِ وصلى جميعَ صلاتِه جالساً على الكرسي فصلاتُه غيرُ صحيحةٍ لأنَّه تَركَ ركنَ القيامِ وهو يستطيعُه.
(8) من يصلى على الكرسي وقامَ في محلِّ القيامِ لكنَّه تَركَ الركوعَ وجلسَ على الكرسي وأومأ به وهو جالسٌ فهذا صلاتُه غيرُ صحيحةٍ لأنه ترك ركن الركوعِ والرفعِ منه وهو قادرٌ عليهما.
(9) من يصلى على الكرسي وهو عاجزٌ عن القيامِ وعنِ الجلوسِ والسجودِ على الأرضِ، فهذا صلاتُه صحيحةٌ لأن ما تركَه من الأركانِ فهو عاجزٌ عنه.
وتفصيلاً لهذه المسألةِ الهامةِ وهي حُكمُ الصلاةِ على الكُرسي، أوضحُ هذهِ الحالاتِ، فأقول:
الأولى: أن يكونَ عاجزاً عن القيام والركوع والسجود: فيجوز له أن يصليَ جالساً، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً" (رواه البخاري)، ويومئُ بركوعِه وسجودِه، ويجعلُ سجودَه أخفضَ من ركوعِه، لما ورد عن جابرٍ -رضي الله عنه- أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لما رأى مريضاً يصلّى على وسادة، أخذَها ورَمى بها ثم قال: "صلِّ على الأرض إن استطعتَ، وإلا فأومِ إيماءً، واجعلْ سجودَك أخفضَ من ركوعِك" (رواه البيهقي وصححه الألباني في الصحيحة).
الثانيةُ: أن يكونَ قادراً على بعضِ القيامِ ولا يلحقُه معه مشقَّةٌ شديدةٌ أو زيادةٌ في المرضِ، ففي هذه الحالةِ يصلي قائماً حسبَ استطاعتِه، فإذا شقّ عليه جلسَ لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16].
الثالثةُ: أن يلحقَه مع القيام مشقَّةٌ شديدةٌ أو زيادةٌ في المرضِ، ففي هذه الحالةِ يصلي جالساً. قال النووي -رحمه الله-: "يجب أن تقعَ تكبيرةُ الإحرامِ بجميعِ حروفِها في حالِ قيامِه، فإن أتى بحرفٍ منها في غيرِ حالِ القيامِ لم تنعقدْ صلاتَهُ فَرضاً بلا خلاف"، ثم يأتي بعد ذلك بالركوعِ قائماً مع القدرةِ، والقيامِ منه على هيئتِه مع القدرةِ، وكذلك السجودِ على الأرضِ مع القدرة.
الرابعةُ: أن يكونَ عاجزاً عن الركوعِ على هيئتِه مع القدرةِ على القيامِ، ففي هذه الحالةِ لا يجوزُ له الجلوسُ ولا يسقطُ عنه القيامُ ولا الرفعُ بعدَ الركوعِ، ويومئ بالركوعِ قائماً.
الخامسةُ: أن يكونَ عاجزاً عن السجودِ على هيئتِه مع القدرةِ على القيامِ، ففي هذه الحالةِ لا يجوزُ له الجلوسُ ولا يسقطُ عنه القيامُ ولا القيامُ من الركوعِ، ويومئُ بالسجودِ جالساً.
قال ابنُ قدامةَ رحمه الله: "ومن قَدِرَ على القيامِ، وعَجِزَ عن الركوعِ أو السجودِ لم يسقطْ عنه القيامُ... ثمَّ يجلسُ فيومئُ بالسجودِ ". ويأتي بالركوعِ قائماً على هيئتِه، وإذا استطاعَ أن يضعَ يديه في السجودِ على الأرضِ فليفعلْ، وإن لم يستطعْ جعلهما على ركبتيِه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين) [البقرة: 286].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضلهِ وإحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه الداعي إلى جنتهِ ورضوانِه، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن سار على نهجِه إلى يومِ الدِّين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ صفةَ موضعِ الكرسي في الصفِّ لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يجلسَ على الكرسي في صلاتِه كلِّها، فعليه أن يجعلَ أرجلَ الكرسي الخلفيةَ بمحاذاةِ أرجلِ المصلين"، مع الأخذِ في الاعتبارِ مراعاةُ موضعِ الجلوسِ، بحيث تكونُ عجيزتُه محاذيةً وموازيةً لأرجلِ المصلين، سواءً تقدَّمتْ أرجلُ الكُرسي أو تأخرتْ، فالعبرةُ في التقدّمِ وعدمِه للقائِم بالعَقِب، وهو مؤخرُ القدِم، وبالأليةِ للقاعدين، وبالجنبِ للمضطجعين.
الثانيةُ: أن يجلسَ على الكرسي في ركوعِه أو سجودِه فقط دونَ القيامِ، ففي هذه الحالةِ العبرةُ بالقيامِ، فيحاذي الصفَّ عند قيامِه. وعلى هذا سيكونُ الكرسي خلفَ الصفِّ، فينبغي أن يكونَ في موضعٍ بحيثُ لا يتأذَّى به مَن خلفهُ من المصلين.
وكلُّ ما سبقَ بيانُه وذكرُه متعلقٌ بصلاةِ الفريضةِ، أما النافلةُ فالأمرُ فيها واسعٌ، فيجوزُ له الجلوسُ ولو بدونِ عُذرٍ لكنَّه خلافِ الأفضلِ وله نصفُ أجرِ القائِم، فعن عمران بن حصين - وكان مبسوراً – قال: سألتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن صلاةِ الرجلِ قاعداً، فقال: "إن صلى قائماً فهو أفضلُ، ومن صلى قاعداً فله نصفُ أجرِ القائِم، ومن صلى نائماً فله نصفُ أجرِ القاعدِ" (رواه البخاري)، وهذا الحديثُ محمولٌ على صلاةِ النفلِ كما أشار إليه ابن بطّال في شرحه..
أما لو كانَ عاجزاً عن القيامِ فصلى جالساً فأجرُه أجرُ القائمِ، قال النووي رحمه الله: "وأما إذا صلى النفلَ قاعداً لعجزِه عن القيامِ فلا ينقصُ ثوابُه، بل يكونُ كثوابهِ قائماً".
أسأل الله -تعالى- أن يتقبلَ منَّا ومنكم صالح الأعمالِ، وأن يشفيَ جميعَ مرضى المسلمين، وأن يرزقنا وإياكم العلمَ النافعَ والعملَ الصالح.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].