الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | محمد راتب النابلسي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - المعاملات |
من مضار التطفيف: ـ التطفيف سبب لسخط الجبار وولوج النار. ـ ويعاقب الله عليه في الدنيا بالقحط والجدب وجور السلطان. ـ والتطفيف دليل على شح النفس، وتعلق القلب بالكسب الخبيث. ـ والأمة التي يفشوا فيها هذا الداء آيلة إلى الذل والهوان. ـ والكيل والوزن أمانة فمن طفف فقد خان.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام: كما تعودنا سابقاً في هذه السلسلة من الدروس أن سيدنا حذيفة -رَضي الله عنه- كان يقول: "كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ أقع فيه" (متفق عليه).
انطلاقاً من هذا الحديث لسيدنا حذيفة آثرنا في حلقات ثلاثين -إن شاء الله- أن نتحدث عن الأخلاق المذمومة مخافة أن نقع فيها.
الخلق المذموم اليوم التطفيف؛ لأن سورة بأكملها في الجزء الثلاثين تحدثت عن هذا الموضوع، وهي "سورة المطففون".
إذا قلنا: المطففون فعلى الحكاية، وإذا قلنا: المطففين، فعلى الإعراب، تقول: "سورة المؤمنون"، وبالإضافة: "سورة المؤمنين"، لكن لأن المؤمنون اسم لهذه السورة فإنها تبقى على لفظها.
أيها الإخوة: التطفيف اصطلاحاً مِن طفّف الكيل إذا قلَّل نصيب المكيل له في إيفائه واستيفائه، ومن ثَمّ يكون التطفيف تقليلَ نصيب المكيل له، وزيادة نصيب المكيل إليه، فإذا اشتريت تأخذ زيادة، وإذا بعت تعطي الأقلّ، هذا هو التطفيف.
لكن دائماً عندنا مفهوم محدود ومفهوم واسع: أنا أرى، ولعلي على صواب أن كل أنواع الغش من التطفيف، فالمعنى المحدود أن تقدم كيلاً أقلّ، أو وزناً أقلّ، أو طولاً أقلّ، الذين يشترون الأقمشة يكيلون القماش المشترى، والقماش خط منحنٍ مع المتر، فإذا باعوا القماش باعوه بخط يكاد الثوب يتمزق، هذا هو التطفيف، في العطاء تقلّل، وفي الأخذ تكثر، إذا كان التطفيف فيما يبدو في الوزن والكيل والمساحة والعدد فالتطفيف بمعناه الواسع يشمل كل أنواع الغش، ويمكن أن تستورد بضاعة من دولة صناعية من الدرجة العاشرة، وتشتري شريطا ذهبيا مكتوبا عليه ( made in france )، تطبعه بالمكواة على الثوب، وتبيعه على أنه بضاعة أوربية، هذا تطفيف، مع أنك لا زدت في المكيال، ولا أنقصت فيه، لكن أوهمت المشتري أن هذه البضاعة من دولة متفوقة جداً في صنع الأقمشة، أنواع التطفيف لا تعد ولا تحصى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ" (أبو داود) "مَنْ غَشَّ" مطلقاً "لَيْسَ مِنَّا" وكلمة: "ليس منا" من أشد أنواع الوعيد، بل إن سور الجزء الثلاثين في القرآن الكريم سور مكية، كلها تتحدث عن الكون، والشمس وضحاها: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) [الفجر: 1 - 3] إلى آخره، وسورة المطففين جاءت في أثناء هذه السور، وكأنها فيما يبدو مقحمة، قال بعض العلماء: "إذا كان التطفيف بحق البشر سبب هلاك الإنسان فكيف بالتطفيف بحق خالق السموات والأرض"، إذا قللت حق إنسان أنت هالك، فكيف إذا قللت حق الخالق.
أيها الإخوة الكرام: التطفيف التقليل، ومنه تطفيف الميزان والمكيال، ولا يستعمل إلا في الإيجاب، لا يقال: فلان ما طفف، لا يستخدم هذا الفعل منفياً، طفف أي زاد إن كان الأمر له، وأنقص إن كان الأمر لغيره.
أيها الإخوة: ويستنبط مما جاء به القرآن الكريم أن التطفيف هو الاستيفاء من الناس عند الكيل والوزن، والإنقاص والإخسار عند الكيل، أو الوزن لهم، ويلحق بالوزن والكيل ما أشبههما من المقاييس والمعايير التي يتعامل بها الناس، كالمساحات.
عدَّ ابن حجر صاحب "كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري" التطفيف من الكبائر، فمن الكبائر: أن يضرب كفة الميزان بقطعة اللحم فترجح وزنها، أو يسلط مروحة على ميزان الذهب، وهناك أساليب قد لا تنتبه إليها، وكل أنواع التطفيف في الزيادة عند الشراء وفي الإنقاص عند البيع كيلاً ومساحة، وعدداً ووزناً، وما يقاس عليها من أنواع التطفيف، بل إن أوسع معنى من أنواع التطفيف الغش "لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ" من غش مطلقاً.
عدّ ابن حجر التطفيف من الكبائر، وجعله شاملاً لبخس، نحو الكيل أو الوزن، أو الزرع، وذلك؛ لأنه مِن أكل أموال الناس بالباطل، والاحتكار أكل أموال الناس بالباطل، الاحتكار أن توهم المشتري أن البضاعة غير موجودة وقليلة، ومفقودة، فترفع السعر، والبضاعة موجودة، وبكميات كبيرة، لكن الاحتكار حبس البيع، وأنت أخذت مبلغاً من المال لا تستحقه، هذا من التطفيف، وأي إيهام للشاري خلاف الواقع من أجل أن تزيد في السعر فهذا من التطفيف، ولهذا اشتد الوعيد عليه كما علمته من الآية الكريمة.
التطفيف في القرآن: الآية الأولى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين] إنما سمي: مطففاً؛ لأنه لا يكاد يأخذ إلا الشيء الطفيف، وذلك ضرب من السرقة والخيانة، مع ما فيه من الإنباء عن عدم الأنفة والمروءة بالكلية، وهو نوع من السرقة، لكن بالمناسبة القليل كالكثير، قضية مبدأ، إنسان يرفض أن يرتشي مبلغ ألف، هو نظيف، أما مليون مليونين فيختلف الأمر، المبدأ لا يتأثر بالكم، قضية مبدأ الذي لا يطفف لا يطفف لا قليلاً، ولا كثيراً، وقد عاقب الله المطفف بالويل الذي هو شدة العذاب، حتى في سيارة الأجرة، هناك فرق مثلاً ثماني ليرات، يقول له : عوّض الله عليك، إذا أعطاك الراكب من طيب نفسه فلا مانع، هذا عن طيب نفس، أما أن تخجله، معه زوجته، أو مع أقربائه، وتأخذ كمية ليس لك بها حق، فهذا من التطفيف.
"الويل" كما قال بعض المفسرين: واد في جهنم، لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره -نعوذ بالله منه-.
أيها الإخوة الكرام: وفي القرآن الكريم: الآية الثانية: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأعراف: 85] أضرب مثلاً: تريد أن تشتري غرفة نوم، الغرفة سريران، طلبت أنت سريرا واحدا، يقول لك: ما من مشكلة، أخصم لك ألف ليرة للسريرين إلى سرير واحد، أردت أن تشتري غرفة نوم هي سرير واحد، طلبت سريرين، يقول لك: ثمانية آلاف، لماذا بالخصم ألف، وبالزيادة ثمانية آلاف، هذا تطفيف، ليس هناك ميزان واضح، ودائماً وأبداً المشتري له حق عند البائع، فإذا طففت أراد أن يلغي سريرا هناك خصم ألف ليرة، أراد أن يزيد سريرا هناك زيادة ثمانية آلاف ليرة، هذا تطفيف، هذا أيضا في المركبات، إن عرضتها للبيع يأتك السعر بأبخس الأثمان، إن أردت أن تشتري يرتفع السعر، هذا أيضاً تطفيف .
أيها الإخوة الكرام: الآية الكريمة الثانية: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) [الشعراء: 181] أوفوا الكيل، وفي الحديث الشريف عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُوا" (ابن ماجة).
الآية الرابعة: (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) [الرحمن: 7 -8].
الآية الخامسة: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود: 85].
أحياناً بأساليب ذكية جداً، تقلّ من قيمة البضاعة، عندك بضائع أنواع منوعة، أنت وكيل بضاعة معينة، طلب الشاري بضاعة أخرى، تعطيه الحاجة، وتلقيها على الأرض، مالها قيمة، القيمة لهذه، وقد تكون التي ألقيتها على الأرض أغلى من هذه، أو أفضل، لكن هناك أساليب معينة، تبخس من قيمة بضاعة، لا ترغب أن تبيعها، وتسدد بضاعة تملكها، أو تتمنى أن تبيعها، هذا أيضاً من التطفيف.
التطفيف في السنة:
الحديث الأول: عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال عليه الصلاة والسلام: "خمس بخمس" قيل : يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال: "ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الموت، وما منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر، ولا طففوا المكيال إلا حبس عنهم النبات" (الجامع الصغير).
حدثني أخ من كبار تجار دمشق كان والده من تجار الأغنام والصوف، بعد أن تقاعد والده عن العمل كلف ابنه أن يحل محله، قال لي: أول رحلة إلى البادية، قالوا لي: إن هؤلاء الأعراب لو غششتهم فلا شيء عليك، فأخذ سيارة، وأخذ ميزاناً يريد أن يشتري من مورد والده الصوف، فالوزن دائماً بالكيلو، هذا أعطاه وزنا بالغرامات، ثلاثة وعشرون كيلوا وثمانمائة غرام، هذا الأعرابي البدوي أعجبه، الوزن دقيق، ما سمع في حياته غرامات، كلها كيلوات، قال: والله هذا الوزن جيد، لكن بعدما انتهت الكمية عنده حاسة سادسة، أن الكمية ثمنها ثلاثون ألفاً، قال له: عشرون ألفاً، شك، وزنها ثلاثون وثمانمائة غرام، يقول له : عشرون وثمانمائة غرام، مع المجموع كان الرقم أقل بكثير، فهذا الأعرابي ما فهم القصة، قال له: إن شاء الله إن كنت غششتني تلقها في صحتك، يقول لي هذا الأخ الذي الله تاب عليه : بعد ذلك احترت، دخلت في صراع مع نفسي، بلغه أنني كنت غلطان، المشكلة أول تعامل معه، قال لي: دخلت في صراع مع نفسي، أقسم بالله من مكان شراء الصوف إلى بلدة الضمير وهو في صراع مع نفسه، أرجع أعطيه الفرق، أعترف بخطئي أم أبقى ساكتاً؟ قال لي: في الضمير أخذت قرارا أنْ ضع في الخرج، ما الذي حصل؟ قال لي: ما أكملت هذا الخاطر حتى وجدت نفسي وسط بركة من الدماء، السيارة تدهورت، والصوف تناثر، معه سمن تكسر، وأخذوه إلى مكان إسعافي، والقصة طويلة، لكن أنا وصلت إلى مغزاها، متى عاقبه الله؟ حينما أخذ قراراً، ذكرني هذا بقوله تعالى: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) [الزخرف: 79].
أيها الإخوة الكرام: صدقوا أن أغبى أغبياء الأرض الذي لا يدخل الله في حساباته، يظن نفسه قويا، وهو يحتال على الناس، ويقنعهم، ويهددهم، ويكذب عليهم، وانتهى الأمر، لكن الله بالمرصاد.
أيها الإخوة الكرام، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لما قدم النبي -صَلى الله عليه وسلم- المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله -عز وجل-: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ).
البيع والشراء جزء من دينك: "يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة" (الترغيب والترهيب عن ابن عباس).
الحديث الثاني: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال عليه الصلاة والسلام: "إِذَا وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُوا" (ابن ماجة).
الحديث الثالث: وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال عليه الصلاة والسلام لأصحاب الكيل والوزن: "إنكم قد وليتم أمراً فيه هلكت الأمم السالفة قبلكم" (الترغيب والترهيب عن ابن عباس) الذي يتولى الكيل والميزان تولى أمراً كان الخطأ فيه سبب هلاك أمم.
الحديث الرابع: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَر الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ" (ابن ماجه)، وكأن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- معنا هذا الذي وقع للمسلمين.
أيها الإخوة الكرام: البيع والشراء جزء من دين الإنسان، إن كنت بائعاً أو شارياً.
مرة حدثني أخ يعمل في مطعم قال لي: والله تعليمات المعلم الأوقية بمائة وخمسين غراماً، ويدفع ثمن مائتي غرام، ليس في الوزن سياسة معينة لتقليل الوزن، هذا أيضاً من التطفيف، لولا أن التطفيف سلوك واسع جداً من سلوك المنحرفين والمقصرين وضعاف الإيمان لما جاءت سورة في القرآن تشير بهذا المعنى.
أقوال الصحابة والعلماء: القول الأول: عن ابن مسعود -رَضي الله عنه- قال: "القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة: "إذا ائتمنت فلم تكن أميناً ائتمنت على الوزن لم تكن أميناً" ثم قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله فيقال له: أدِ أمانتك، فيقول: أي رب، كيف قد ذهبت الدنيا؟ قال: فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا نظر أنه خارج زلت عن منكبيه فهوي يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عدها، وأشد ذلك الودائع، فأتيت البراء بن عازب، فقلت: ألا ترى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا وكذا، قال: صدق، أما سمعت الله يقول: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58].
أيها الإخوة الكرام: الناس شاردون وغافلون عن أداء الحقوق، وحقوق العباد مبنية على المشاححة، بينما حقوق الله مبنية على المسامحة .
القول الثاني: يقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب".
الغلول أن تأخذ قبل توزيع الغنائم، يقاس عليه أن تأخذ من حاجات المتوفى قبل أن توزع على الورثة، هذه السجادة من رائحة والدي، أخذ أحلى سجادة قبل التقسيم، وهذه الساعة من رائحة أمي، كله كلام منمق، أن تأخذ شيئاً لا يحق لك، أن تأخذه هو الغلول، "ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع الله عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم ولا ختر قوم بالعهد (أي نقضوا العهد) إلا سلط الله عليهم العدو".
القول الثالث: وقال رجل لعبد الله بن مسعود -رضيَ الله عنه-: "يا أبا عبد الرحمن إن أهل المدينة ليوفون الكيل؟ قال: وما يمنعهم أن يوفوا الكيل، وقد قال الله –تعالى-: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) حتى بلغ: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
القول الرابع: ومرة قال هلال بن طلق: "بينما أنا أسير مع ابن عمر فقلت: من أحسن الناس هيئة، وأوفاهم كيلاً، أهل مكة وأهل المدينة؟ قال: حق لهم، أما سمعت الله -تعالى- يقول: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ).
القول الخامس: وقال أُبي -رَضي الله عنه-: "لا تلتمس الحوائج ممن رزقه الله رؤوس المكاييل وألسن الموازين" الذي يتوكل بالمكيال والوزن عليه إشكال كبير؛ لأنه إذا قصر دخل في قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ).
القول السادس: أيها الإخوة الكرام: قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) [الرحمن: 9] "يأمر الله -تعالى- بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعد على تركه في قوله تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين: 1].
أيها الإخوة: الله -عز وجل- أهلك قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال، وقول الله -عز وجل-: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) [الرحمن: 9] أي لا تبخسوا الوزن، بل زنوا بالحق والقسط؛ كما قال تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) [الإسراء: 35] أي من غير تطفيف، ولا تبخسوا الناس أشياءهم.
القول السابع: أيها الإخوة الكرام: قال الإمام النيسابوري: "صدر الله -سبحانه وتعالى- صورة المطففين بالنعي على قوم آثروا الحياة الزائلة على الحياة الباقية، وتهالكوا على الحرص على استيفاء أسبابها حتى اتسموا بأخس السمات، وهي التطفيف".
القول الثامن: وقال الإمام النيسابوري أيضاً: "اعلم أن أمر المكيال والميزان عظيم؛ لأنه مدار معاملات الخلق عليهما، ولهذا جرى على قوم شعيب بسببه ما جرى".
القول التاسع: وقال بعض العلماء: "ترك المكافأة من التطفيف"، فإذا قدم لك إنسان هدية، قدم لك عملاً صالحاً، خدمك، وأنت ما شكرته، وما كافأته على عمله، هذا أيضاً من التطفيف. إنّ أي خدمة قدمت لك ينبغي أن تشكر الناس عليها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ" [الترمذي وأبو داود] أية خدمة قدمت لك ينبغي أن تشكر، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله.
بعضهم قال: من مضار التطفيف:
ـ التطفيف سبب لسخط الجبار وولوج النار.
ـ ويعاقب الله عليه في الدنيا بالقحط والجدب وجور السلطان.
ـ والتطفيف دليل على شح النفس، وتعلق القلب بالكسب الخبيث.
ـ والأمة التي يفشوا فيها هذا الداء آيلة إلى الذل والهوان.
ـ والكيل والوزن أمانة فمن طفف فقد خان.
والله إنْ أذكر لكم أساليب الغش في حياتنا تجدوا الشيء الذي لا يكاد لا يصدق.
بعض الإنتاج الغذائي الطحيني تراه ناصع البياض، وسعره مرتفع، تكون الطحينة ناصعة البياض بمادة خطيرة جداً، هي (سبيداج)، تغدو ناصعة اللون، وسعرها مرتفع، وهي مؤذية للآكلين.
لو وسعنا مفهوم فلتطفيف لشمل كل أنواع الغش، أحياناً تأتي بهرمون ترش به النبات تغدو الفاكهة كبيرة الحجم، زاهية اللون هذا تطفيف، لأن هذا الهرمون مسرطن ومؤذٍ، وأي أذى توقعه بالمشتري أراه تطفيفاً، والمعنى واسع جداً.
ـ والكيل والوزن أمانة، فمن طفف فقد خان، ويعد صاحبها في الناس غير أمين، ويكون محتقراً في المجتمع.
ـ والتطفيف يتسبب في إفساد العلاقات بين أفراد المجتمع، ويكون المطفف قدوة سيئة لمن يتبعه في هذا الأمر، وذلك يتحمل الوزر والإثم على ما فعل.
أيها الإخوة الكرام: تديّنُ الإنسان أساسه الاستقامة، الدين في الأسواق في البيع والشراء، في العيادات، في مكتب المحامي، في مكتب المهندس، في الصف، في المدرسة، هذا هو الدين: (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) [الأعراف: 85].
والحمد لله رب العالمين.