الولي
كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...
العربية
المؤلف | محمد بن حسن المريخي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
ما أحوجنا لهذا الخلق الكريم، فكم جلب الاحترام من المودات والمحبة والتوادد والثمرات اليانعات؟ وكم وجد المرء من الرتب والمقامات الحسية والمعنوية بسبب احترامه وتوقيره للآخرين؟ إن الناس ليحبون من يحسن إليهم ولو بكلمة طيبة أو ابتسامة صادقة، ولا يحبون من...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي كرم بني آدم وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، أحمده سبحانه وأشكره وابتهل إليه واستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه وشريعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- واشكروه واعبدوه إليه ترجعون، اتقوا الله -رحمكم الله- ما استطعتم، واستوصوا بدينه وشريعته خيراً، عضوا على الدين بالنواجذ، وتمسكوا به قولاً وعملاً، فإنه سفينة النجاة لمن رام السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
عباد الله: لقد خلق الله -تعالى- الإنسان مكرما محترما؛ كما قال سبحانه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين: 4]، وقال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70]، فالإنسان بطبيعته وفطرته مخلوق محترم فهو يحب الاحترام، ويحب أن يحترم، ولا يرضى أن يهان بأي نوع من الإهانة.
والإسلام دين يحترم الإنسان ويدعو إلى احترامه وتكريمه حتى في دعوته إلى الله -تعالى-، فإنه لا يكره أحداً في الدخول فيه.
وقد أكثر الله -تعالى- في القرآن في بيان ذلك الاحترام، والحث عليه، والترغيب فيه، والأمر به، والتحلي بحلية والتزين بزينته، فجاء الاحترام في الإسلام في المخاطبة؛ كقوله تعالى: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة: 83]، وفيما بين المؤمنين أنفسهم كقوله: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء: 53]، أو في دعوة الناس إلى الإسلام حتى وهم كفار ملحدون أو مارقون، يقول تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125]، وقال عز وجل: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت: 46]، وقال تعالى لموسى وهارون -عليهما السلام-: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طـه: 44]، وفي الخصومة: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34]، وما ذلك إلا لما للاحترام من النتائج الإيجابية والثمرات الطيبة، ولما للإهانة من النتائج السلبية المؤسفة، وإنه إذا أراد الله -تعالى- بعبد خيراً زينه بخلق الاحترام واحترام الناس، فتحلى به حتى اشتهر به، ولبس ثوبه الجميل، وتدثر بدثاره الأنيق.
وإن المرء بأخلاقه ودينه يسع الناس ولا يسعهم بماله وأملاكه، واحترام الناس وتوقيرهم أدب رفيع يتحلى به الموفقون من عباد الله المسددون من الناس، ويتصف به كبار الهمم، وعالي القمم، الذين ارتفعوا بطاعة ربهم حتى زينهم بها، قد هذبهم دينهم، وأدبتهم صلاتهم، وأثرت فيهم خشيتهم من الله -تعالى- وصفت قلوبهم، وطهرت سرائرهم، فتواضعوا لله -تعالى- ولانوا لإخوانهم، وحرصوا على هداية الناس.
باحترامهم للناس أدخلوا الناس في دين الله، وأنقذوهم من النار بتوقير عباد الله وقّرهم الله، وأعلى مكانتهم بين عباده، فكانوا مصابيح للعباد وسرجاً للناس يبصرون بهم بعد الله -تعالى- طريق الهدى ودرب الرشاد، يقول تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلمَ-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر: 88]، ويقول له: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
لقد تزين باحترام الناس سيد الخلق محمد -عليه الصلاة والسلام- فكان مضرب الأمثال في احترامه للناس حتى أعجب به أعداؤه قبل أصحابه يتبول إعرابي في المسجد، فيهم الصحابة بضربه، والاعتداء عليه، فيمنعهم عليه الصلاة والسلام، ويأمرهم بتركه، حتى يتم بوله، ثم يناديه ويعلمه مكانة المسجد ومقامه؛ بأنه لا يصلح إلا للصلاة والذكر وقراءة القرآن، ولا يصلح لمثل هذه القاذورات، فيعجب الأعرابي من خلق هذا النبي الكريم ويتوجه إلى الله داعياً أن يرحمه ومحمداً ولا يرحم معهما أحدا. ويضرب أبو مسعود البدري غلاماً عبداً له فيناديه رسول الله من بعيد مذكراً إياه بقدرة الله عليه وأخذته له على ما يفعل بالعبد، يقول له: "اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام"، يقول ابن مسعود: فسقط السوط من يدي من هيبته صلى الله عليه وسلمَ متأثرا بما ذكره به، ويقول: هو حر يا رسول الله، فيقول رسول الله له: "أما لو لم تفعل للفحتك النار" (رواه مسلم)، وتموت امرأة سوداء كانت تقم المسجد وتنظفه فيدفنها الصحابة بعد الصلاة عليها، ولم يعلموه، فلم يروا أشعار رسول الله بموتها، أو كما رأوا -رَضي الله عنهم-، فيعلم رسول الله بعد ذلك بموتها، فيقول لهم: "أفلا كنتم آذنتموني؟"، فكأنهم صغّروا أمرها، فقال: "دلوني على قبرها"، فدلوه، فصلى عليها، ثم قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله -تعالى- ينورها لهم بصلاتي عليهم" (رواه البخاري)، ويقول أنس -رَضي الله عنه-: "خدمت رسول الله عشر سنين والله ما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلت؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟" (رواه البخاري ومسلم)، ويقول رَضي الله عنه: "ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله ولا مسست قط ديباجاً ولا حريراً ألين مساً من رسول الله".
أيها المسلمون: إن احترام الإنسان للناس وتوقيره لهم يرفع مقامه ويعلي شأنه عند الله -تعالى- وعند عباده، فالله يحب من يتواضع لعباده الذي يسعى في تيسير أمورهم، وتسهيل حوائجهم، يقول صلى الله عليه وسلمَ: "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" (رواه البخاري ومسلم).
ويرتفع المرء عالياً في عيون الناس ويحبونه ويوقرونه لاحترامه لهم، ويدعون الله له بالتوفيق والقبول.
إنه باحترامه لهم قد اشترى قلوبهم كما اشترى مودتهم وحبهم ومودة الله -تعالى- قبل ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم: 96]، عن حذيفة -رَضي الله عنه- قال: "أتي الله -تعالى- بعبد من عباده آتاه الله مالاً، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال: ولا يكتمون الله حديثا، قال: يا رب آتيتني مالك فكنت أبايع الناس وكان من خلقي الجواز (التجاوز عن العباد) فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر، فقال تعالى: "أنا أحق بذا منك تجاوزوا عن عبدي" (رواه مسلم).
أيها الإخوة في الله: إن احترام الناس وتوقيرهم يكون بإلانة الكلام، والتواضع لهم، والاهتمام بهم، وقبول اعتذارهم، وتقدير ظروفهم، والتجاوز عن أخطائهم، وإن الناس في أزمنة متأخرة من عمر الدنيا أزمنة ضعفت فيها العزائم، وخارت الهمم، وتلاشت أكثر الأخلاق، واغتر الناس بالدنيا، مما أضعف التحلي بمثل هذه الأخلاق الكريمة، فما أحوج المجتمعات لمثل هذا الخلق الكريم، وقد ظهر في دنيا المسلمين ما يهدد مثل هذا الخلق وغيره، ولكن ليس بعزيز على الله -تعالى- أن يكرم عبيده، وديار المسلمين ومجتمعاتهم بأخلاق الإسلام الخالدة إذا أحسنوا واتقوا وآمنوا.
أيها المسلمون: ما أحوجنا لهذا الخلق الكريم، فكم جلب الاحترام من المودات والمحبة والتوادد والثمرات اليانعات؟ وكم وجد المرء من الرتب والمقامات الحسية والمعنوية بسبب احترامه وتوقيره للآخرين؟
إن الناس ليحبون من يحسن إليهم ولو بكلمة طيبة أو ابتسامة صادقة، ولا يحبون من يهينهم ويسيء إليهم ولو كان صاحب حق ومعروف.
إننا مدعوون -معشر المسلمين- لاحترام بعضنا بعضاً، واحترام الآخرين حتى ولو كانوا غير مسلمين، فكثيراً ما يدخل هؤلاء في دين الله الإسلام بسبب احترامهم وأخذهم بالتي هي أحسن، فأحسنوا -رحمكم الله- إلى عباد الله باحترامهم وتوقيرهم، وتحلوا بهذا الخلق النبيل وغيره من أخلاق الإسلام، فإن صلاتنا وسائر عباداتنا لربنا -عز وجل- تدعونا إلى مثل هذه الأخلاق، ولنا في رسولنا أسوة حسنة، وفي أصحابه الكرام الذين ضربوا لنا أروع الأمثلة في الأخلاق، وإن المرء ليصغر في عيون الناس وتهبط درجته إذا فقد هذا الخلق بالذات، فإنك ترى الرجل يحمل من المعاني الكثير، ولكنه لا يعرف توقير الناس واحترامهم، والعطف عليهم فتهبط سمعته وتذهب معانيه الكثيرة كأنه لا يساوي شيئاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة: 204].