البحث

عبارات مقترحة:

البارئ

(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...

الجواد

كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

الأذكار الشرعية بين الإعمال والإهمال

العربية

المؤلف سلمان بن يحيى المالكي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - العبادات
عناصر الخطبة
  1. أهمية الأذكار والحث عليها وفضلها .
  2. إهمال الناس للأذكار الشرعية .
  3. بعض فوائد الذكر الدينية والبدنية .
  4. شمولية الأذكار وبعض آدابها .

اقتباس

إن الأذكار ليست نصوصاً تقال وتسمع فقط، إنها ليست أشياءً روتينية، وإنما هي عبارةٌ عن تفاعلِ وإحساسِ المسلم مع الأشياء التي تحدث حوله، فإذا رأى أو سمع أو أحس قال أذكاراً معينة، وهذا...

الخطبة الأولى:

الحمد الله الأول الآخر، الظاهر الباطن، أحمده -سبحانه وتعالى- وأستغفره وأتوب إليه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيٌ دائمٌ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله الهادي إلى أقومِ سبيل، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره إلى يوم الحشر الكبير.

أما بعد:

فإن من عواملِ تقويةِ الإيمانِ ورسوخهِ في القلبِ وتقويةِ الصلةِ بالله -عز وجل-: ذكرُ الله -تعالى-.

وما حصل الضعف والوهنُ في علاقتنا بالله -تعالى- إلا من وراءِ نسيانِ أسبابٍ كثيرة؛ منها: إهمالُ الأذكارِ الشرعيةِ التي شرعها الله لنا في كتابه، وعلمنا إياها نبيهُ محمدٌ -صلى الله عليه وسلمَ-؛ ولأجلِ ذلك صارت الأذكارُ مجهولةٌ منسيةٌ مهملةٌ عند الكثيرين من المسلمين، وإلا فلم تسلط الشياطينِ وانتشارُ العينِ والحسد والسحر والشعوذة وطغيانها في المجتمع بين الرجال والنساء إلا بسبب جهلنا وغفلتنا عن ذكر الله والأورادِ الشرعية المأثورة عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ-؟

وقد أمرنا الله -عز وجل- في كتابه بالإكثار من ذكره، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب: 41 - 42].

وأخبر أن ذكر الله أكبرُ من كل شيء، فقال عز وجل: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت: 45].

وبين سبحانه أنه سببٌ لطمأنينةِ القلب وراحةِ النفس: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].

وامتدح أقواماً من المؤمنين: (يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) [آل عمران: 191].

إن هذا الذكرَ العظيمَ -عباد الله- هو خير أعمالنا عند ربنا وأزكاها عند مليكنا -سبحانه وتعالى-: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأرضاها عند مليككم، وأرفعِها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخيرٍ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: "ذكر الله" (رواه الترمذي)، وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- يشكوا حاله، فقال: يا رسول الله! إن شعائر الإسلام قد كثُرت عليَّ فأخبرني بأمر أتشبث به، قال: "لا يزال لسانك رطْباً من ذكر الله" (رواه ابن حبان).

والذكر من علامات الإخلاص؛ فإن الرجل إذا ذكر الله خالياً ففاضت عيناه كان حقا على الله أن يظله تحت ظله يوم القيامة، ومجالسُ أهلِ الذكر محفوفةٌ بالملائكة، مغشاةٌ بالرحمة، مُنَـَّزلٌ عليها السكينة، مذكورٌ أهلها عند الله، لقد نجا يونس بنُ متى -عليه السلام- بسبب ذكره لربه: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ) [الصافات: 143] (أي قبل أن يبتلعه الحوتُ وبعد ابتلاعه)، (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات: 142].

إن هذا الذكرَ من أعظم ما يطردُ الشيطانَ، وهو سببٌ لفك عقده، ونجاةِ المسلم منه، قال صلى الله عليه وسلمَ: "يَعقدُ الشيطانُ على قافيةِ رأسِ أحدِكم إذا هو نامَ ثلاث عُقدٍ، يَضربُ على مكان كلِّ عُقدةٍ: عليك ليلٌ طويلٌ فارقُدْ، فإِنِ استيَقَظَ فذكرَ اللهَ انحلَّتْ عقدةٌ، فإِن توضَّأَ انحلَّتْ عقدةٌ، فإِن صلَّى انحلَّتْ عقدةٌ، فأصبح نشيطاً طيَّبَ النّفسِ، وإلاّ أصبحَ خبيثَ النفسِ كسلانَ"، وهو حصن حصين إذا دخله العبد نجا من الشياطين إنسهم وجنهم، قال عليه الصلاة والسلام: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت"، وفي رواية لمسلم: "مثل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكر الله فيه مثل الحي والميت"، و "مَا مِنْ سَاعَةٍ تَمُرُّ بابنِ آدمَ لَمْ يَذْكُرِ الله فِيهَا بِخَيْرٍ إِلاَّ حُسِّرَ عِنْدَهَا يَوْمَ القِيَامَةِ" (رواه الطبراني).

إن هذا الذكر هو أرجى عملٍ يُنجي العبدَ من عذاب الله: "مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلاً أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ الله -تعالى- مِنْ ذِكْرِ الله -تعالى-، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجِهَادُ إلاَّ أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ"، وقال عليه الصلاة والسلام لرجل من الصحابة: "ألا أعَلِّمُكَ كَلماتٍ إذا قُلْتَهُنَّ غَفَرَ الله لك وإنْ كنْتَ مَغْفوراً لكَ؟ قلْ: لا إِلَهَ إلاَّ الله العَليُّ العَظِيمُ، لا إلهَ إلاَّ الله الحَكِيمُ الكَرِيمُ، لا إلهَ إلاَّ الله سُبْحانَ الله رَبِّ السَّمَواتِ السَّبْعِ ورَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ، الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ".

عباد الله: الأذكارُ الشرعيةُ مهملةٌ منسيةٌ عند كثير من المسلمين، وإذا تأملنا الأسبابَ الباعثة على إهمال ذكر الله -عز وجل-، وإهمالهم الأذكارَ الشرعية، وجدنا أنها كثيرة، غير أن غفلةَ الناسِ وعدمَ معرفتِهم بفوائدها هو الذي جعلهم ينسونها أو يتناسونها، فإن من الأذكار ما هو ذكر عامٌ لا يتقيد بزمن، ومنها ما هو ذكرٌ خاصٌ بمناسباتٍ خاصة كأذكار النوم والوضوء والسفر والصباح والمساء، وكلا الأمرين صار فيهما غفلة فينبغي للمسلم أن يعرف فوائد الذكر، ولو لم يكن الذكرُ مهماً لما ذكره الله وشدّد عليه في آي الكتاب، بل وأمر به في أصعب المواقف، عند المعركة إذا احتدمت الحرب واصطفّ الجيشان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) [الأنفال: 45].

وإن هذا الصدأ الذي نُحسُّ به في قلوبنا في كثير من الأحيان، وهذه السحابةُ التي تُظلل قلوبنا في كثير من الأوقات؛ لا يقشعها إلا ذكر الله -عز وجل- بأنواعه، بل إن الران الأسود الذي يعلو القلوب لا يمكن أن يُزال إلا بذكر الله -عز وجل-، فالغفلةُ والذنب لا يزيلها إلا ذكر الله، وهناك أناس من الغافلين طبع الله على قلوبهم، قال الله في التحذير منهم: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].

وإذا قلبت نظرك في الناس وجدت الكثير من هؤلاء في المكاتب والمدارس والمستشفيات والقاعات المختلفة والأروقة والدهاليز وكذا في طبقة الأغنياء والرؤساء والوجهاء والكبراء لا يذكرون الله إلا ما رحم ربي.

إن من فوائد الذكر -عباد الله-: أنه يقوي القلب ويجرئه في مواجهة أعتى المواقف، وقد ثبت عن الصحابة -رضوان الله عليهم- في قتالهم للفرس والروم أنهم كانوا أضعف منهم عدة وعتادا إلا أنهم نُصروا بهذا الذكر، كما أنه يزيل الوحشة بين العبد والرب، قال صلى الله عليه وسلمَ: "إِنَّ مِمَّا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلاَلِ اللَّهِ، التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّحْمِيدَ، يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يُذكِّرنَ بصاحبهن، أفلا يحب أحدُكم أن يكون له ما يذكِّرُ به" أي أن هذه الأذكارَ تحمي صاحبها في أوقات الشدة في أهوال يوم القيامة عند الله، فيكونُ التحميد والتكبيرُ والتهليل عوناً لصاحبه في الشدائد يوم القيامة يذكره عند ربه، وكذلك فإن مجالسَ الذكر مجالسٌ للملائكة، ويأمن العبد فيها من الحسرة يوم القيامة، قال عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله، إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان ذلك المجلسِ عليهم حسرة".

ومع أن الذكرَ باللسان حركةٌ خفيفة لا يأخذ جهداً إلا أنه عند الله ثقيل؛ كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، وقد جاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلمَ أنه قال: "لَقِيتُ إبْرَاهيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فقالَ: يا مُحَمدُ أَقْرِئ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلاَمَ وَاخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وَأنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ الله، والْحَمْدُ لله، وَلاَ إلهَ إلاّ الله، وَالله أكْبَرُ" (رواه الترمذي)، وقال عليه الصلاة والسلام: "من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة".

وما استُجلبت نعمٌ للعبد بمثل ما تُستجلب بذكر الله، فإن الأسباب الجالبة للنعم كثيرة، ومن أعظمها: ذكر الله، والله -جل وعلا-: يقول: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7]، ورأسُ الشكرْ هو ذكر الله -عز وجل-، كما أن الذكر يجعل للعبد الذاكرِ صلواتٌ عليه من ربه كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب: 41 - 43].

وكذلك فإن الله يباهي بالذاكرين الملائكة، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: "مَا أَجْلَسَكُمْ؟" قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللّهَ، قَالَ: آللّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلاَّ ذَاكَ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللّهِ أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثاً مِنِّي، وَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى; مَا هَدَانَا لِلإِسْلاَمِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا، قَالَ: آللّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلاَّ ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللّهِ مَا أَجْلسَنَا إِلاَّ ذَاكَ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللّهَ -عز وجل- يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلاَئِكَةَ".

وكذا فإن دوام ذكرِ الله -عز وجل- ينوب عن التطوعات الكثيرةِ التي تأخذ جهداً ووقتاً، وتعوض لمن لا يستطيع أن فعل الطاعات، جاء في الحديث الصحيح: "أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، فقالوا: يا رسول الله، ذَهبَ أَهلُ الدُّثورِ مِنَ الأموالِ بالدَّرجاتِ العُلى; والنَّعيمِ المُقيم؛ يُصلُّونَ كما نُصلِّي، ويصومونَ كما نصومُ، ولهم فَضلٌ من أموالٍ يَحُجُّونَ بها ويَعتَمِرون ويُجاهدونَ ويتصدَّقون، قال: "أَلا أُحدِّثُكم بأَمرٍ إن أخذتُم به أَدركتم من سبَقَكم، ولم يُدرِككم أَحدٌ بعدَكم، وكنتم خيرَ مَن أنتم بينَ ظَهرانَيْه، إِلاّ مَن عَمِلَ مِثلَهُ؛ تُسبِّحونَ وَتحمَدونَ وتكبِّرونَ خلفَ كلِّ صلاةٍ".

وكما أن الذكر يعطي الذاكر قوة في القلب فهو كذلك يعطيه قوة في البدن، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمراً عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناس في جمعة أو أكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب لما حارب التتر أمراً عظيما".

ومن فوائد الذكر أيضا: أن تضاريس الأرض تشهد للذاكر عند الله عندما يذكر الله، فما من عبد يذكر ربه في سهل ولا جبل، ولا طريق ولا بقعة أرض في سفر ولا حضر، في بيت أو خارج البيت، على أريكة أو كرسي أو على الأرض، قائماً أو قاعداً أو نائماً يذكر الله إلا شهدت له هذه البقاع عند الله؛ جاء في الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قرأ هذه الآية: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) [الزلزلة: 4]، قال: "أتدرون ما أخبارُها؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها؛ أن تقول: عملت عَليَّ كذا وكذا يوم كذا وكذا"، وكما قال عليه الصلاة والسلام في حق المؤذن: "لا يَسمعُ مَدَى صَوْتِ المؤذِّنِ جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيء إلا شهد لهُ يومَ القيامةِ".

فكل هذه المرتفعات والمنخفضات تشهد للذاكر عند الله.

أيها المسلمون: وكما أن للأذكار فوائدُ شرعيةٌ دينية، فلها أيضا فوائد بدنية، فقد أوصت الأحاديث النبوية أن المسلم إذا رأى مبتلى له في الإسلام والعقيدة بمرض ما فإن من السنة والأدب أن يحمد الله على العافية ومما ابتلاه به ربه، فإنه إذا قال ذلك الدعاء لم يصبه ذاك البلاء، قال صلى الله عليه وسلمَ: "مَنْ رَأى صَاحِبَ بَلاَءٍ فَقَالَ: الْحَمدُ لله الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاَكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلقَ تَفْضِيلاً، إلاّ عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ البَلاَءِ كَائِناً مَا كَانَ مَا عَاشَ".

كما أن الذكر يقي من شر ما خُلق في الأرض؛ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ؟ قَالَ: "أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ تَضُرُّكَ"، وقال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّهُ حُمَةٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، قَالَ سُهَيْلٌ: فَكَانَ أَهْلُنَا تَعَلَّمُوهَا فَكَانُوا يَقُولُونَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ فَلُدِغَتْ جَارِيَةٌ مِنْهُمْ فَلَمْ تَجِدْ لَهَا وَجَعاً (رواه الترمذي) (والحمة بضم الحاء، هو السمّ، وقيل: لدغة كل ذي سمّ).

عباد الله: إن الأذكار ليست نصوصاً تقال وتسمع فقط، إنها ليست أشياءً روتينية، وإنما هي عبارةٌ عن تفاعلِ وإحساسِ المسلم مع الأشياء التي تحدث حوله، فإذا رأى أو سمع أو أحس قال أذكاراً معينة، وهذا يعني أن الأذكار توقظ في نفس المسلم الحسَّ بذكر الله في الأحداث المختلفة من حوله، فتأمل هذه الأذكار التي تقال في مواضع مختلفة لتبين بجلاء أن الأذكار شُرعت لأجل إيقاظ حسِ المسلم، فعندما يقوم الإنسان من نومه يقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور"، وعند الجماع يقول: "بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا"، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً"، وفي رواية: "إذا سمعتم نباح الكلب ونهيق الحمار بالليل فتعوذوا بالليل فإنهن يرين ما لا ترون"، فإن في مثل هذه الأذكار وغيرها عبارة عن تفاعل حواس المسلم مع ما يحدث يومياً من الأشياء.

ومديح القول -عباد الله-: أنه لو لم يكن في ذكر الله من الفائدة إلا أن يشغل الإنسانَ لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة والقولِ بلا علم، إلى غير ذلك من آفات اللسان لكان كافياً.

اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك منيبين، لك مخبتين يا رب العالمين.

بارك الله لي ولكم الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، واستغفروا ربكم إن كان غفورا رحيما.

الخطبة الثانية:

الحمد الله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أشهد أن لا إله إلا الله الحليم الكريم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وخلفائه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: إن الناس يحافظون على الأدويةِ بمقاديرها وعددِ مرات أخذْها أكثرَ مما يحافظون على الأذكار بكثير، ويتفطنون للدواء الذي يعالج الجسد وقد لا يعالجه، ولا يتفطنون لذكر الله الذي يعالج القلب والجسد.

إن كثيراً من المسلمين قد فرطوا في الأذكار وأهملوها بسبب جهلهم بها، فلا يعرف أحدهم ما هي الأذكارُ ولا يدري ماذا يقول عند النوم والكرب ودخولِ المسجد وعند الأذان والشهادتينِ والانتهاءِ منه وقبل الوضوءِ وبعده وفي الصباح والمساء، وإذا تنبّه في نومه من الليل وعند السفر وإذا دخل بزوجته في ليلة زفافها وبم يهنئ وكيف؟ وإذا رُزق بمولودٍ وعند الانتهاء من الطعام وإذا نسي التسمية ماذا يقول؟ وعند المطر ورؤية القمر وإذا جاء لزيارة مريض وإذا رأى صلاح الثمر قبل أن ينضج ويستوي وإذا عصفت الريح وإذا اشتدت وإذا تضور من الليل وعند الغضب، وإذا جاءه الشيطان في الصلاة وإذا نزل منزلاً في رحلة وعند المصيبة وفي التعزية، وعند وضع الميت في القبر، وعند التعجب من أمر والبشارة بشيء، وإذا تعثرت سيارته، وعند لبس الثوب الجديد، وإذا رأى رؤيا طيبة، وكذا إذا رأى حلماً سيئاً، وإذا قدّم له إنسان صدقة، وإذا خاف أن يصيب نفسه بالعين أو أولاده أو صديقه أو مالاً من الأموال، وإذا أصابه دين، إلى غير ذلك.

إن من الأسباب التي نعالج بها قضيةَ الإهمال في الأذكار: معرفة الأجر؛ فإذا عرف المسلم أجر ما يحصل له عند العمل والدعاء بالذكر حرص عليه، فإذا تذكر أن أبواب الجنة الثمانية تفتح له بعد الوضوء حرص على ذكر الوضوء، وإذا عرف أنه يُحفظ من الشيطان بعد خروجه من المنزل ذكر دعاء الخروج، وإذا قال: آمين، في الصلاة غفر له ما تقدم من ذنبه"، "من وافق قوله: اللهم ربنا لك الحمد، قول الملائكة بعد الرفع من الركوع غفر له ما تقدم من ذنبه"، وإذا "سبح ثلاثاً وثلاثين بعد الصلاة وحمد وكبر، وأكمل المائة: لا إله إلا الله، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"، "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت"، و "من صلى صلاة الصبح في مسجدي جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين تسبيحة الضحى كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة"، "وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي"، وفي الحديث الآخر: "أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة".

إذًا، معرفة الأجر كفيل بالمسلم أن يحرص على مثل هذه الأذكار.

وإن من الأسباب التي تؤدي إلى إهمال الأذكار: الجهلُ بمعاني الأذكار وعدم معرفتها، فمن الناس من يردد أذكارا لا يعرف معناها، وربما ردد ذكرا كان الأولى ذكره في مكان ما ووقت ما، وكذا البيئةُ الفاسدة مما تؤدي إلى إهمال الأذكار، فبعض الناس يعيشون في بيئات لا تذكّر بالله فأصحابها أهل معاصٍ وفجور وفسق واستهزاء بالدين، وكذا التسويفُ في وقت الأذكار فقد يخطر لشخص بعد الصلاة أن يخرج من المسجد بسرعة لملاقاة شخص ويمنّي نفسه بذكرها في الطريق فينساها.

ومما يكون سببا مباشرا لإهمال الأذكار: كثرة الأعباء والأشغال، فالمسلم ينبغي أن يكون له خلوة بربه، ووقت يخلو فيه بالله، فعصرنا عصرٌ طغت فيه المادة على كل شيء، ولم يعُد الفرد يجد وقتاً يذكر الله فيه، فيقوم مسرعاً ويلبس مسرعاً ويخرج مسرعاً ويشتري مسرعا ويذهب للوظيفة مسرعا، ثم يعود فيأكل وينام، ويخرج لمواعده وأشغاله، وصار اليوم مملوءاً بالأشغال وليس للأذكار في يومه وحياته نصيب.

ومما يزيد في الإهمال: كثرةُ الذنوب، وعدم تذكر الموت، والتوسع في المباحات.

عباد الله: اعلموا أن الذكر يكون بالقلب وباللسان، وهو مراتبٌ أعلاها إذا وافق القلب اللسان.

كما أن الذكر ليس منحصراً في التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، فإذا عمل العبد طاعة أصبح ذاكراً لله -عز وجل-، فالمحاضِر والمستمع والتالي والمصلي هم في الحقيقة ذاكرين لله -تعالى-، قال بعض أهل العلم: "إذا واظب المسلم على الأذكار المأثورة صباحاً ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وأفضل الذكر: تلاوة كتاب الله -تعالى-، كما أنه يجوز الذكر بالقلب وباللسان للمحْدث حدثا أكبر كالجنب والحائض والنفساء، غير أنه لا يقرأ القرآن على خلاف في الحائض، وأن يكون المكان الذي يذكر الله فيه نظيفاً خالياً ما أمكن، وأن يكون متسوكاً نظيف الفم، وأن يتدبر ما يقول، وإذا فات عليه ذكر معين تداركه، ولا بأس أن يقطع الذاكر الذكر لحاجة شرعية كأن يسلِّم عليه إنسان فيردَّ السلام وكما لو رأى منكراً وهو يذكر الله فغيره.