البحث

عبارات مقترحة:

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

الأول

(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

الجود والكرم

العربية

المؤلف أحمد عماري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. المقصود بالجود والكرم .
  2. مكانة الجود والكرم .
  3. نماذج رائعة في الجود والكرم .
  4. جود وكرم العرب في الجاهلية .
  5. ترغيب الإسلام في الجود والكرم وبعض مظاهر ذلك .
  6. بعض فوائد الجود والكرم .

اقتباس

مع خُلق آخر من أخلاق الإسلام الفاضلة، وخصلة من خصاله العظيمة، مع خُلُق به تسُود المحبَّة والمودَّة والرحمة في المجتمعات، وبه يكون التآزر والتعاون والتضامن بين الناس، مع خُلقٍ من أخلاق المرسلين، وصفة من صفات الصالحين؛ إنَّه...

الخطبة الأولى:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

إخوتي الكرام: فمع خُلق آخر من أخلاق الإسلام الفاضلة، وخصلة من خصاله العظيمة، مع خُلُق به تسُود المحبَّة والمودَّة والرحمة في المجتمعات، وبه يكون التآزر والتعاون والتضامن بين الناس، مع خُلقٍ من أخلاق المرسلين، وصفة من صفات الصالحين؛ إنَّه الجود والكرم.

وما أحوج النَّاس إلى هذا الخُلق العظيم، في زمنٍ فشَت فيه كلُّ مظاهر الأنانية والبخل والشح.

الجود -يا عباد الله- صفة تحمل صاحبَها على بذل ما يَنبغي من الخير لغير عِوَض ولا غرض.

والكرم إنفاق المال الكثير بسهولة من النَّفس في الأمور الجليلة القدر، الكثيرةِ النَّفع.

والجود والكرم أنواع متعددة، وأشكالٌ مختلفة، وكل أحد يجود بما استطاع؛ من إطعام جائع، وقضاء حاجة، وإعانة محتاج، وتعليم ونصح وإرشاد.

الجود والكرم خلُق عظيم، وعملٌ صالح جليل، أَمر به ربُّ العالمين، وحثَّ عليه سيد المرسلين.

الجود والكرم من صفات الله -عز وجل-؛ فالكريم من أسمائه، والجود والكرم من صفاته، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار: 6 - 8]، وعن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "إنَّ الله جواد يحبُّ الجوادَ، ويحب معاليَ الأخلاق، ويكره سَفْسافها" (أخرجه ابن أبي شيبة، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).

فما من نعمة يمنُّ الله -تعالى- بها على عباده إلاَّ وهي من محض فضله وجوده، وكرَمه وإحسانه؛ قال سبحانه: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53]، وقال عز وجل: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النحل: 18].

هو الكريم الذي يَغفر للمذنبين، ويعفو عن المسيئين، ويقبل توبةَ التائبين: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى: 25 - 26].

وهو الكريم الذي كرَّم الإنسان وفضَّله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70].

وهو الكريم الذي يُعطي السائلين، ويجيب دعوة المضطرين: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62]، روى البخاريُّ ومسلم عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "إنَّ يمين الله مَلأى لا يَغِيضُها نفَقة، سَحَّاءُ الليل والنَّهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السَّموات والأرض؛ فإنَّه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القبض يَرفع ويخفض".

الكرم من صفات الملائكة؛ قال تعالى في وصفهم: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار: 9 - 12].

الجود والكرم من سمات الأنبياء والرسل؛ قال تعالى عن إبراهيم -عليه السلام-: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) [الذاريات: 24 - 27]، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر -رَضي الله عنهما- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- أنه قال: "الكريمُ ابنُ الكريم ابنِ الكريم ابنِ الكريم؛ يوسفُ بنُ يعقوب بنِ إسحاق بنِ إبراهيم -عليهم السلام-".

ونبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلمَ- مَثَلٌ لا يُضاهى، وقدوة لا تُسامى في الجود والكرم، فقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه مرتبةَ الكمال الإنساني في حبِّه للعطاء؛ إذ كان يعطي عطاءَ مَن لا يحسب حسابًا للفقر ولا يخشاه؛ ثِقةً بعظيمِ فضل الله، وإيمانًا بأنَّه هو الرزَّاق ذو الفضل العظيم؛ ففي صحيح مسلم عن أنس -رَضي الله عنه- أنَّ رجلاً سأل النبيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- غنمًا بين جبلين فأعطاه إيَّاه، فأتى قومَه فقال: أيْ قوم، أسلِموا؛ فوالله إنَّ محمدًا ليُعطي عطاءً ما يخاف الفقر، فقال أنس: "إنْ كان الرجل ليُسْلِم ما يُريد إلا الدنيا، فما يُسْلم حتى يكونَ الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها".

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "لو كان لي مثلُ أحُدٍ ذهبًا ما يسرُّني أنْ لا يمرَّ عليَّ ثلاث وعندي منه شيء، إلا شيء أرْصُده لدَيْنٍ".

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عبَّاس -رَضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أجودَ النَّاس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلِّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ- أجوَدُ بالخير من الرِّيح المرسَلة".

الجود والكرم من سمات الصحابة الكرام؛ فعلى هذا الخُلق الكريم ربَّى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ- أصحابَه، فكانوا يتنافسون في الجود والكرَم، ويتسابقون إلى البذل والعطاء، قال -تعالى- في وصفهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].

وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعتُ عمر بن الخطاب -رَضي الله عنه- يقول: "أمرنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ- يومًا أن نتصدَّق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلتُ: اليوم أسبِق أبا بكر إنْ سبقتهُ يومًا، فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "ما أبقيتَ لأهلِك؟" قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر -رَضي الله عنه- بكلِّ ما عنده، فقال له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "ما أبقيتَ لأهلك؟" قال: أبقيتُ لهم اللهَ ورسولَه، قلتُ: "لا أسابقك إلى شيء أبدًا" (أخرجه الترمذي وأبو داود والحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وحسنه الألباني في صحيحَيْ أبي داود والترمذي).

وفي صحيح البخاري عن أبي عبد الرحمن أنَّ عثمان -رَضي الله عنه- حين حوصِر أشرَف عليهم، وقال: "أنشدكم الله، ولا أنشد إلاَّ أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، ألستم تعلمون أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "مَن حفر رومة فله الجنَّة"، فحفرتُها؟ ألستم تعلمون أنَّه قال: "من جهَّز جيشَ العُسرة فله الجنَّة"، فجهَّزتُهم؟ قال: "فصدَّقوه بما قال".

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك -رَضي الله عنه- يقول: "كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نَخل، وكان أحَبُّ أموالِه إليه بَيرُحاءَ، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يَدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّبٍ، قال أنس: فلما أُنزلَت هذه الآية: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فقال: يا رسول الله إنَّ الله -تبارك وتعالى- يقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، وإنَّ أحَبَّ أموالي إليَّ بَيْرُحاء، وإنَّها صدَقة لله، أرجو بِرَّها وذُخرها عند الله، فضَعْها يا رسول الله حيث أراك اللهُ، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "بَخٍ، ذلك مالٌ رابِح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، فقال أبو طلحة: "أفعَلُ يا رسول الله، فقسَمَها أبو طلحة في أقاربه وبني عَمِّه".

وعن حَكيم بن حِزام -رَضي الله عنه- قال: "ما أصبحتُ صباحًا قطُّ فرأيتُ بفنائي طالب حاجة قد ضاق بها ذرعًا فقضيتُها، إلاَّ كانت من النِّعم التي أحمد اللهَ عليها، ولا أصبحتُ صباحًا لم أرَ بفنائي طالب حاجة، إلاَّ كان ذلك من المصائب التي أسأل الله -عز وجل- الأجرَ عليها" (رواه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق).

لقد كان الكرم والجود والسخاء من أبرز الصِّفات التي يتباهى بها الناسُ في العصر الجاهلي، وكان بعضهم مضربًا للمَثل في الجود والكرم؛ كحاتم الطائي الذي يخاطب امرأته "نوار" فيقول:

مهْلاً نَوَارُ أقِلِّي اللَّوم والعَذَلاَ

ولا تقُولي لشيءٍ فاتَ ما فَعَلاَ

ولا تقولي لمالٍ كنتُ مُهْلِكَه

مهلاً وإن كنتُ أُعطي الجِنَّ والخَبَلاَ

يرى البخيلُ سبيلَ المال واحدةً

إنَّ الجَوَادَ يرى في ماله سُبُلاَ

لا تَعْذلينيَ في مالٍ وَصَلْتُ به

رحْمًا وخيرُ سبيل المالِ ما وَصَلاَ

روى البخاريُّ ومسلم عن عائشة -رَضي الله عنها- قالت: "جلس إحدى عشرة امرأة، فتعاهدنَ وتعاقدنَ أن لا يكتمْنَ من أخبار أزواجهنَّ شيئًا..." -والذي يهمنا في الموضوع هو قول التاسعة والعاشرة منهنَّ- "قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من النَّاد، قالت العاشرة: زوجي مالكٌ، وما مالكٌ؟ مالكٌ خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارِح، وإذا سمعنَ صوت المزهر، أيقنَّ أنَّهنَّ هوالك".

إذا كان هذا هو حال العرب في جاهليَّتهم؛ فكيف بمن مَنَّ الله عليه بالإسلام ودعاه إلى أخلاقه؟ ألا يتألَّم قلبه، وتَدمع عينه، حين يرى إخوانًا له في الدِّين جياعًا حفاة عراة، يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء؟ ألا يَرِقُّ قلبه، وتجود يداه؟ ألا يشكرُ خالقَه ورازقَه على فضله وعطائه، بإنفاقه وإحسانه؟

روى مسلم في صحيحه عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: "كنَّا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- في صدر النَّهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النِّمار أو العَباء، متقلِّدي السيوف، عامَّتُهم من مُضَر، بل كلُّهم من مُضَر، فتمَعَّر وجهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-؛ لِما رأى بهم من الفاقَة، فدخل ثمَّ خرج فأمر بلالاً فأذَّن وأقام، فصلَّى ثمَّ خطب، فقال: "(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إلى آخر الآية: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) [الحشر: 18]، تصدَّق رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه؛ من صاع تَمره، حتى قال: ولو بشِقِّ تمرة"، قال فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادَت كفُّه تَعجِز عنها، بل قد عجزَت، قال: ثمَّ تتابَع النَّاس، حتى رأيتُ كومين من طعامٍ وثياب، حتى رأيتُ وجهَ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يتهلَّل كأنَّه مُذْهَبَةٌ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "من سَنَّ في الإسلام سنَّةً حسنة، فله أجرها وأجر من عَمِل بها بعده، من غير أن يَنقص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سنَّةً سيئة، كان عليه وِزرُها ووِزر من عَمل بها من بعده، من غير أن يَنقص من أوزارهم شيء".

إخوتي الكرام: الإسلام دين يدعو إلى البَذل والإنفاق، ويرغِّب في الكرَم والسَّخاء، وينهى على الشحِّ والبخل، ويحذِّر من المنع والإمساك.

الإسلام دينٌ يحبِّب إلى أتباعه أن تكون نفوسهم سخيَّة، وأكفهم ندِيَّة، ويوصيهم بالمسارعة إلى دواعي الإحسان ووجوه البرِّ، وأن يجعلوا تقديمَ الخير إلى النَّاس شُغلَهم الدائم، لا ينفكون عنه في صباح أو مساء، قال سبحانه: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 274].

فمِن الواجب على المسلِم: أن يَقتصد في مطالب نفسه؛ حتى لا تَسْتَنفِدَ مالَه كلَّه، وعليه أن يُشرك غيرَه فيما آتاه الله من فَضله، وأن يجعل في ثرْوته متَّسَعًا يُسعِفُ به المنكوبين ويُريح المتعَبين؛ ولذلك ورد الأمر بالإنفاق على القرابة والمساكين مقرونًا بالنهي عن التبذير، في قوله سبحانه: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26 - 27].

روى مسلم في صحيحه عن أبي أُمامة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "يا بن آدم إنَّك أنْ تبذل الفضلَ خيرٌ لك، وأن تمسكه شرٌّ لك، ولا تلام على كفافٍ، وابدأ بمن تعول، واليد العُليا خير من اليد السُّفلى"، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري -رَضي الله عنه- قال: "بينما نحن في سَفر مع النبي -صلى الله عليه وسلمَ- إذ جاء رجلٌ على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصرَه يمينًا وشمالاً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "من كان معه فَضل ظَهر، فليَعُدْ به على مَن لا ظَهر له، ومن كان له فَضلٌ من زاد، فليَعُد به على مَن لا زاد له"، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنَّه لا حقَّ لأحدٍ منَّا في فضل".

الخطبة الثانية:

مرَّة أخرى مع خُلق الجود والكرم، ذلكم الخُلق العظيم الذي نحتاجه في كلِّ وقت وحين، وحديثنا اليوم عن مَظاهر الكرم وفوائده.

أولاً: صور للجود والكرم: للكرم والجود صور عديدة، ومجالات متنوعة كثيرة، فيها يتنافس المتنافسون، ويجتهد المجتهدون، كلٌّ على حسب طاقته واستطاعته، ومن صور الجود والكرم:

1- بَذْل المسلم وعطاؤه من مال الله الذي آتاه الله إيَّاه وأنعم به عليه من كل ما ينتفع به المرء؛ من مأكلٍ أو مشرب أو ملبس، أو مسكن أو دواء أو غير ذلك من أنواع الخير والبرِّ والإحسان، فعن ابن عمر -رَضي الله عنهما-: أنَّ رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فقال: "يا رسول الله أيُّ النَّاس أحب إلى الله؟ وأيُّ الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أحبُّ النَّاس إلى الله -تعالى- أنفعُهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله -تعالى- سرورٌ تُدخِله على مسلم، أو تكشِف عنه كُربة، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأَن أمشي مع أخٍ في حاجة أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد (يعني مسجد المدينة) شهرًا، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورتَه، ومن كظم غيظَه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبَه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى يتهيَّأ له أثبت الله قدمَه يوم تزول الأقدام" (أخرجه الطبراني في معجمه، وابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).

2- بذل المرء وعطاؤه من علمه ومعرفته؛ فالكريم من لا يَكتم علمًا ولا معرفة، بل يُعَلِّم الناسَ ويدلهم على الخير، والبخيل هو الذي يَحتفظ بمعارفه وعلومه لنَفسه، بُخلاً ورغبة في الاستئثار والانفراد، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "من دعا إلى هدًى، كان له من الأجر مثل أجور من تَبِعه، لا يَنقُص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه، لا يَنقُص ذلك من آثامهم شيئًا".

وروى الترمذيُّ في سننه عن أبي أمامة الباهلي -رَضي الله عنه- قال: "ذُكِر لرسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- رجُلان أحدُهما عابد والآخَر عالم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "فَضل العالِم على العابِد كفضلي على أدناكم"، ثمَّ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "إنَّ الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النَّملة في جحرها وحتى الحوت - ليُصَلُّون على مُعلِّم الناسِ الخيرَ".

3- بَذل النصيحة لمن هو في حاجة إليها؛ فالكريم لا يَبخل على إخوانه بأي نصيحة تفيدهم وتنفعهم في دينهم أو دنياهم، وقد عدَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- من حقوق المسلم على أخيه أن ينصحه إذا طلب منه النَّصيحة: "وإذا استنصَحَك، فانصَحْ له"، روى مسلم في صحيحه عن تميم الدَّاري -رَضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "الدِّينُ النَّصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم".

4- بذل المرء وعطاؤه من أخلاقه وشِيَمه؛ فالكريم يعطي من مكانته وجاهه، ويعطي من عَطفه وحنانه، ويعطي من طلاقة وَجْهه وابتسامة ثغره وحُلو كلامه، ويعطي من وقته وراحتِه، ويعطي من سَمعه وإصغائه، ويعطي من حبِّه ورحمته، ويعطي من دعائه وشفاعته، عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أكمَل المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خلقًا، وخيركم خيركم لنسائهم" (أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والترمذي وقال: "هذا حديث حسن صحيح").

5- بذل العبد وعطاؤه من طاقات جسده وقوَّته؛ فالجواد يعطي من معونته وخدماته وجُهده، يمشي في مصالِح النَّاس، ويَتعب في مساعدتهم، ويَسهر من أجل معونتهم، ويسعى في خدمتهم؛ ففي الصَّحيحين عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "كلُّ سُلامَى من النَّاس عليه صدَقة كلَّ يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدِل بين الاثنين صدَقة، وتعين الرجلَ في دابَّته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعَه صدَقة، والكلمة الطيِّبة صدقة، وكل خطوة تَمشيها إلى الصلاة صدَقة، وتميط الأذى عن الطَّريق صدَقة".

6- إكرام الوالدين ببرِّهما والإحسان إليهما بحسن القول والفعل والخُلق؛ فقد قال تعالى في وصيته لعباده: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23 - 24].

7- إكرام الأهل والأقارب؛ فمِن أحق النَّاس بجودك وكرمك أهلُك وقرابتك، بإكرامهم تكون الصلة ويكون التماسك الأُسري، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينار أنفقتَه في رَقبة، ودينار تصدَّقتَ به على مسكين، ودينار أنفقتَه على أهلك، أعظمُها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلك"؛ لأنَّ النَّفقة على القريب صِلَة وصدَقة.

وعن عائشة -رَضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "خيرُكم خيركم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي" (أخرجه الترمذيُّ وابن حبان والبيهقي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).

8- إكرام الجار والضيف؛ فالكريم مَن يُكرم جارَه، والكريم من يُكرم ضيفَه ويكرم زائرَه، فذاك دليل على إيمان العبد بالله واليوم الآخر، فقد روى مالك في الموطأ وعنه البخاريُّ ومسلم في صحيحَيْهما عن أبي شريح العدوي -رَضي الله عنه- قال: "سمعَتْ أذُناي، وأبصرَتْ عيناي، حين تكلَّم النبيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- فقال: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جارَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفَه جائزته"، قال: وما جائزتُه يا رسول الله؟ قال: "يوم وليلة، والضِّيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدَقة عليه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

إخوتي الكرام: عليكم بالجود والكرم؛ فإنَّ فوائده عظيمة، ونتائجه جليلة، فمن فوائده:

1- مضاعفة الأجر والثواب؛ قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261]، فعلى المسلِم أن يَنظر إلى المحتاجين الذين يقصدونه كما يَنظر إلى أسباب التجارة الرابحة، وليَعلَم أنَّ بذلَ اليوم وإن كان قليلاً فهو عند الله يوم القيامة أضعاف مضاعفة، لا يردُّه لصاحبه مِثلاً أو مِثليْن، بل يردُّه أضعافًا مضاعَفة، قال سبحانه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245]، وقال عز وجل: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39].

2- الأمن من الخوف والحزنِ يوم القيامة؛ قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 274].

عن عقبة بن عامر -رَضي الله عنه- قال: "سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "كلُّ امرئ في ظلِّ صدَقته حتى يُفصَل بين الناس"، أو قال: "يُحكمَ بين الناس"، قال يزيد: وكان أبو الخير (وهو مرثد بن عبد الله) لا يخطئه يومٌ لا يتصدَّق فيه بشيء، ولو كعكة، ولو بصلة" (أخرجه الإمام أحمد وابن حبان وابن خزيمة والحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع).

3- زرع المحبة والمودة بين الناس؛ فبالعطاء والسَّخاء تصفو النفوسُ من أمراض الحقد والكراهية، وتمتلئ بالمودَّة والمحبَّة؛ فإنَّ النفوس مجبولة على محبَّة أهل الكرَم والسَّخاء والإحسان، وعلى بُغض أهل البخل والشحِّ والإساءة.

روى مسلم في صحيحه عن ابن شهاب قال: "غزا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ- غزوةَ الفتح؛ فتح مكَّة، ثمَّ خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بحُنَيْن، فنصر الله دينَه والمسلمين، وأعطى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ- يومئذٍ صفوانَ بن أمية مائة من النَّعَم ثمَّ مائة ثم مائة، قال ابن شهاب: حدَّثني سعيد بن المسيب أنَّ صفوان قال: والله لقد أعطاني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ- ما أعطاني وإنَّه لأبغضُ الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنَّه لأحبُّ الناس إليَّ".

فانظر كيف يتحول حال القلب بالعطاء والسَّخاء من بَغضاء إلى محبَّة، ومن عداوة إلى صداقة.

ويُظهِر عيبَ المرء في الناس بُخلُه

ويَستُره عنهم جميعًا سخاؤه

تغَطَّ بأثواب السخاء فإنَّني

أرى كلَّ عيبٍ والسخاءُ غِطاؤه

4- سبب في بركة المال ونموِّه وزيادته، وَعْدٌ من الله الذي لا يُخلف وعدَه أنَّ مَن شَكر الله -تعالى- على نِعمه فوظفها في طاعته، زاده الله -تعالى- من فضله وجوده وإحسانه، قال سبحانه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].

فمن الخطأ وسوء الظنِّ: أن يظنَّ المرءُ أن الكرم والسَّخاء يَنقُص الثروةَ ويُقرِّب من الفقر، فهذا من وساوس الشيطان التي يلقيها في نفوس البخلاء، قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268].

والحق أنَّ الكرم سبيل السَّعَة والغنى، وأنَّ السخاء سبب النَّماء، وأن الذي يجعل يديه مَمرًّا لعطاء الله يظلُّ مبسوطَ اليد بالنِّعمة، مكفولَ اليوم والغد بالعطاء الدَّائم من رحمة الله وكرمه وإحسانه؛ فعن أبي كبشة الأنماري -رَضي الله عنه- أنَّه سَمِع رسولَ الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "ثلاثة أقسِم عليهنَّ، وأُحَدِّثكم حديثًا فاحفظوه"، قال: "ما نقَص مالُ عبدٍ من صدَقة، ولا ظُلِمَ عبدٌ مَظلِمةً فصبر عليها إلا زاده الله عزًّا، ولا فتحَ عبدٌ بابَ مسألة إلاَّ فتح الله عليه بابَ فَقر" - أو كلمة نحوها - "وأحَدِّثكم حديثًا فاحفظوه"، قال: "إنما الدنيا لأربعة نَفَر: عبدٌ رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتَّقي فيه ربَّه، ويَصِل فيه رَحِمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٌ رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النيَّة يقول: لو أنَّ لي مالاً لعملتُ بعمل فلان، فهو بنيَّته، فأجرهما سواء، وعبدٌ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علمٍ، لا يتَّقي فيه ربَّه، ولا يصل فيه رَحِمَه، ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبدٌ لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً لعملتُ فيه بعمل فلان، فهو بنيَّته، فوِزرُهما سواء" (أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع).

فليَعلمْ كلُّ مُنفِق كريم أنَّ ما أنفقه في سبيل الله باقٍ مدَّخَرٌ له إلى يوم القيامة؛ فعن عائشة -رَضي الله عنها- أنَّهم ذبحوا شاةً، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-: "ما بقي منها؟"، قالت: ما بقي منها إلاَّ كتفُها، قال: "بقي كلُّها غيرَ كتفها" (أخرجه الترمذيُّ وقال: "هذا حديث صحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة)، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "يقول العبد: مالي مالي، إنَّما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى - أي ادَّخره لنفسِه في الآخرة - وما سوى ذلك فهو ذاهبٌ وتارِكُه للناس".

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود -رَضي الله عنه- قال: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-: "أيُّكم مالُ وارثِه أحَبُّ إليه من مالِه؟"، قالوا: يا رسول الله، ما مِنَّا أحد إلا مالُه أحبُّ إليه، قال: "فإنَّ مالَه ما قدَّم، ومالُ وارثه ما أخَّر".

فما المالُ إلا ظلٌّ زائل، وعارِية مسترجَعة، انتقَل إلينا مِن غيرنا، وسينتقل منَّا إلى غيرنا، فلنتزوَّد منه ليومٍ يقف فيه العبادُ بين يدَي الله -تعالى- حفاة عراة، من غير مال ولا جاه، كما خُلقوا أول مرة، لا ينفعهم إلاَّ ما قدَّموه بين أيديهم من صالح الأعمال، قال سبحانه: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام: 94].

نسأل الله -تعالى- أن يوفِّقنا لصالح الأعمال، وأن يَهدينا سبلَ الرَّشاد، وأن يجعلنا من عباده المحسنين.

اللهمَّ اجعلنا لأنعُمك من الشاكرين، ولآلائك من الذَّاكرين، واجعلنا يا رب ممَّن أكرَمتَهم في هذه الدنيا بمحبَّتك وعونك وتوفيقك وهدايتك وحِفظك، وفي الآخرة برضوانك وجنَّاتك، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين.

وصَلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.