البحث

عبارات مقترحة:

العفو

كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

الإيثار خلق كريم

العربية

المؤلف أحمد عماري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. المقصود بالإيثار .
  2. مكانة الإيثار وفضله .
  3. الوسائل المعينة على اكتساب الإيثار .
  4. بعض صور الإيثار .
  5. نماذج رائعة في الإيثار .

اقتباس

الإيثار وما أدراك ما الإيثار! رحمة الله الكريم الغفار، يوم تُخَطُّ في الدواوينِ الحسناتُ، ويوم تُرْفَع به لأصحابه الدرجاتُ، ويوم تغفر للمتخلقين به السيئات، فكَم مِن أيدٍ لهم سَخَتْ آناء الليل وأطراف النهار، فغُفِرَت معها ذنوبُ العُمْر، ومُحِيَت بِها سيئاتٌ وخَطِيئات! فالله...

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

مع خلق آخر من أخلاق الإسلام العظيمة الجليلة، خلق من محاسن الأخلاق الإسلامية، هو مرتبة راقية من مراتب البذل والكرم، ومنزلة عظيمة من منازل العطاء والسخاء، خلق يبعث على المودة والرحمة، ويدل على الصفاء والنقاء، أثنى الله عز وجل على المتصفين به، وبيّن أنهم المفلحون في الدنيا والآخرة؛ فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]؛ إنه الإيثار؛ وما أدراك ما الإيثار؟

الإيثار أن يُقدّم المرءُ غيرَه على نفسه في جَلب النفع له ودفع الضر عنه.

الإيثار كفّ الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصه حتى يبذلها لمن يستحقها.

الإيثار تقديم الغير على النّفس في حظوظها الدّنيويّة رغبة في الحظوظ الدّينيّة، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين وتوكيد المحبّة، والصّبر على المشقّة.

الإيثار وما أدراك ما الإيثار! رحمةٌ من الله الكريم الغفار، رحمةٌ أسكنها الله قلوبَ المؤمنين، فبذلت وضحّت لوجه الله رب العالمين، اقتحم أصحابُها العقبة، ففكوا الرقبة، وأطعموا في كل يومٍ ذي مسغبة، يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة.

قلوبُ أهلها رقيقة لينة حليمة رحيمة، لا تحتمل فواجع المسلمين، بل تهتز لدعاء المصابين والمنكوبين.

الإيثار وما أدراك ما الإيثار! رحمة الله الكريم الغفار، يوم تُخَطُّ في الدواوينِ الحسناتُ، ويوم تُرْفَع به لأصحابه الدرجاتُ، ويوم تغفر للمتخلقين به السيئات، فكَم مِن أيدٍ لهم سَخَتْ آناء الليل وأطراف النهار، فغُفِرَت معها ذنوبُ العُمْر، ومُحِيَت بِها سيئاتٌ وخَطِيئات! فالله أكبر! ما أعظم فوز أهل الإيثار! يوم خلفوا الدنيا وراء ظهورهم، واستقبلوا الآخرة أمام عيونِهم!

الإيثار! وما أدراك ما الإيثار! أن تسعى في بذل الخير والمعروف والإحسان، طمعا في رحمة الله الرحيم الرحمان، بإجابة دعوةٍ مِن أرملة، أو دعوةٍ مِن بائسة، أو دعوةٍ مِن مكروب، أو دعوةٍ مِن مهموم أو مغموم، أو كربة تفرِّجها على مَدين مُعسِر.

إنه الإيثار الذي يحمل صاحبه على البذل والعطاء، والكرم والسخاء، مما تحبه النفس من الكنوز والأموال، قال الله -تعالى-: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 92]، يقول السعدي: يعني "لن تنالوا وتدركوا البر، الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنات، حتى تنفقوا مما تحبون، من أطيب أموالكم وأزكاها، فإن النفقة من الطيّب المحبوب للنفوس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها، ومن أدَلّ الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال، التي جُبِلت النفوس على قوّة التعلق بها".

الإيثار ذلِكُم الخلقُ الذي يدل على صفاء النفس ونقائها من البخل والشح والأنانية، فلصاحب الإيثار نفس تواقة إلى الخير مسرعة إلى الإحسان؛ في الصحيحين عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: "أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ".

روى مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ".

إنه الإيثار الذي به تحصل الكفاية الاقتصادية والمادية في المجتمع، فطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة، والبيت الكبير الذي تستأثر به أسرة واحدة مع سعته يكفي أكثر من أسرة ليست لها بيوت تؤويها، وهكذا..

روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلاَثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلاَثَةِ كَافِي الأَرْبَعَةِ"، وفي صحيح مسلم عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- يَقُولُ: "طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاِثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الاِثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ".

إنه الإيثار الذي يزرع في النفوس المودة والمحبة، والرأفة والرحمة، وينزع من القلوب الكراهية والبغضاء، فإن القلوب مجبولة على تعظيم صاحب الإيثار ومحبته، كما أنها مجبولة على بغض البخيل المستأثر ومقته.

المال للرجل الكريم ذرائعٌ

يبغي بهن جلائل الأخطار

والناس شتى في الخِلال وخيرُهم

من كان ذا فضلٍ وذا إيثار

وللإيثار أسباب ووسائل تعين عليه: أولها وأعلاها وأسماها وأشرفها: الإيمان بالله، والسعي إلى مرضات الله، حينما يسعى العبد إلى الله حثيثاً، مُجِدّاً ومسرعا لا بطيئا ومتريثاً، حين يتعلق قلبه بالدار الآخرة، فلا يفتُر عن حسنة يبذلها، أو قُرْبَة بإذن الله يكسب بها أجرا وثوابا، بأن يكون إيمان العبد قويا، ويقينه في الله عظيما، وحسن ظنه بربه حاضرا حينئذ يهون على النفس الإيثار، ويُحبَّبُ إليها البذل والعطاء.

ومن أعظم الأسباب المعينة على الإيثار أيضا: ذكرُ الموت والبِلَى، وقربِ المصير إلى الله -جلَّ وعلا- أن يذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأنه مغموم بين الْجَنادل والْحَفائر، فما ذُكِر الموت في كثيرٍ إلا قلله، ولا في جليلٍ إلا حقَّره.

فيا من تشكو من مرض الأنانية وحب الذات، تَذكّر الموتَ وسكرتَه! تذكر القبرَ وضجعته! تذكر القبر وضمّته! يومَ يصير الإنسان وحيداً فريداً، قد سار إلى الله ذليلاً حقيراً، يومئذٍ تهون عليه تجارته، وتهون عليه أمواله، ويهون عليه أولاده، وربما صاح بأعلى صوته: "يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه". فما الذي يأخذه الإنسان من تجارته؟! وما الذي يجنيه من سوقه وعمارته؟! وما الذي يأخذه من الدنيا غيرُ زادِه وكفنِه؟! إنا إلى الله صائرون، وإنا إليه راجعون، وبين يديه مختصمون: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر: 30 - 31].

يا جامعَ المالِ في الدنيا لوارثه

هل أنتَ بالمالِ بعد الموتِ منتفعُ؟

قدِّمْ لنفسِكَ قبلَ الموتِ في مَهَل

فإِن حظكَ بعد الموتِ منقطعُ

فما أعظمَ نجاتك وفرحتك إذا خرجتَ من قبرك وقد سترتَ عورات المسلمين، وفرجتَ كربات عباد الله المنكوبين! يوم أن تخرج إلى الله بتلك الصحائف المشرقة، يوم أن تخرج إلى الله بحسناتك للأيتام والأرامل، يوم أن تخرج إلى الله بتلك الحسنات العظيمة والأجور الكريمة!

ومما يعين على التخلق بخلق الإيثار: رغبة العبد فيما عند الله -عز وجل- من خير وعطاء، الطمع في الفوز والفلاح: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88 - 89].

قال تعالى في وصف الأبرار أصحاب النعيم: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) [الإنسان: 8 - 14].

فمن رغب في النجاة فليكن من أهل الإيثار، ومن رغب في الفلاح فليكن من أهل الإيثار؛ قال سبحانه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [التغابن: 16 - 18].

وللإيثار صور عدة منها:

1- الإيثار مع الخالق -سبحانه- أفضل أنواع الإيثار وأعلاها منزلة، وأرفعها قدراً؛ الإيثار مع الله، إيثار رضاه على رضا غيره، وإيثار حُبّه على حبّ غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه.

الإيثار مع الله أن يفعل المرء كلّ ما يحبه الله -تعالى- ويأمر به، وإن كان ما يحبه الله مكروهاً إلى نفسه، ثقيلاً عليه.

الإيثار مع الله أن يترك المرء ما يكرهه الله تعالى وينهى عنه، وإن كان محبوباً إلى النفس، تشتهيه، وترغب فيه.

فتُؤثر رضا الله وتقدمه على رضا نفسك وهواك، وعلى رضا الناس أجمعين، إذ لا رضا يقدم على رضاه، ولا طاعة فوق طاعته، ولا محبة تفوق محبته، فالكلّ عليه أن يسعى إلى مرضات خالقه ومولاه.

فليتك تحلو والحياة مريرة

وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الّذي بيني وبينك عامر  

وبيني وبين العالمين خراب

إذا صحّ منك الودّ فالكلّ هيّن  

وكلّ الّذي فوق التّراب تراب

ولذلك فالإيثار إنما يكون في أمور الحياة والمعاملات، ولا إيثار في القرُبات؛ بل تعاون وتنافس في الخيرات، قال سبحانه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].

لا إيثار في القرُبات، في العبادات والطاعات؛ لأن الكلّ يريد أن يكون قريبا من ربه ومولاه، ويسعى إلى أن يكثر من حسناته، ويخفف من سيئاته، ولذا قال ربنا -سبحانه-: (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148]، وقال عز وجل: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26]، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا".

الإيثار مع الله يقتضي من العبد أن يداوم على طاعة الله، ألا ينشغل بدنياه عن أخراه، إذ كيف لعاقل أن يقدم الدنيا وهي دار الفناء، على الآخرة وهي دار البقاء، قال سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 14 - 17].

فهنيئا لمن ملأ دنياه بطاعة مولاه، ويا خسارة من باع أخراه بدنياه؛ قال ربنا -سبحانه-: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 37 - 39].

2- الإيثار مع الخلق: بحب الخير للآخَرين، وتطهير النفس من كل أنانية وكراهية وشحناء.

حين يستشعر العبد معنى الأخوة التي تربطه بكل مسلم مِن حَوله.

فإن شرّ ما يصيب المجتمع هو التفكك وضعف الروابط بين أبنائه، وذلك بغلبة الأنانية على أنفسهم، عندما يذكر المرء نفسه، وينسى أخاه، عندما يقول كل واحد: نفسي نفسي. عندما يقول كل فرد فيه: لي، ولا يقول: علي. عندما تعظُم الأنانية في نفسه على حساب غيره.

فمَن لليتيم إذا فشت الأنانية وحب الذات في المجتمع؟ ومن للأرملة المسكينة؟ ومن للفقير الجائع؟ ومن للمشرد الضائع؟ من لهؤلاء إذا أصبح الكل يقول: نفسي نفسي، ولا يهمه إلا مصالحه ومآربُه.

فأين الإيثار الذي علمه النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلمَ- لأمته؟ وأين الإيثار الذي تربى عليه الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم-؟

فهلموا جميعا لنقف مع هذه النماذج المشرقة في الإيثار، أعظم نموذج في الإيثار هو رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، فهو سيدُ المؤثرين وقائدُهم وقدوتهم، فلم يكن صلى الله عليه وسلمَ يستأثر بشيء دون أصحابه، بل كان يشاركهم في طعامه وشرابه، وربما منع نفسه وأهله ليعطي السائل والمحروم، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا مَوْلاَهُ، وَأَيُّكُمْ تَرَكَ مَالاً فَإِلَى الْعَصَبَةِ مَنْ كَانَ"، وأخرج الترمذي في سننه عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-: "مَا بَقِيَ مِنْهَا"؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا. قَالَ: "بَقِيَ كُلُّهَا، غَيْرَ كَتِفِهَا"، وروى البخاري في صحيحه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- بِبُرْدَةٍ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: أَتَدْرُونَ مَا البُرْدَةُ؟ فَقَالَ القَوْمُ: هِيَ الشَّمْلَةُ، فَقَالَ سَهْلٌ: هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْسُوكَ هَذِهِ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا، فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحْسَنَ هَذِهِ، فَاكْسُنِيهَا، فَقَالَ: "نَعَمْ" فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- لاَمَهُ أَصْحَابُهُ، قَالُوا: مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- أَخَذَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ، فَقَالَ: رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-، لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا" (والبردة: الشملة، وهي كِساء يُشتمَل به، والاشتمال إدارة الثوب على الجسد كله).

وفي صحيح البخاري عن مُجَاهِدٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو القَاسِمِ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا هِرٍّ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الحَقْ" وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ، فَدَخَلَ، فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ، فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ، فَقَالَ: "مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟" قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ، قَالَ: "أَبَا هِرٍّ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي" قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ، لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ وَلاَ عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَنِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ، كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي، فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلمَ- بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ البَيْتِ، قَالَ: "يَا أَبَا هِرٍّ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "خُذْ فَأَعْطِهِمْ" قَالَ: فَأَخَذْتُ القَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- وَقَدْ رَوِيَ القَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ القَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: "أَبَا هِرٍّ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ" قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "اقْعُدْ فَاشْرَبْ" فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: "اشْرَبْ" فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: "اشْرَبْ" حَتَّى قُلْتُ: لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا، قَالَ: "فَأَرِنِي" فَأَعْطَيْتُهُ القَدَحَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الفَضْلَةَ ". أي ما تبقى عن أهل الصّفّة، فأي إيثار أعظم من هذا؟

وهاهم الصحابة الكرام يضربون أروع الأمثلة في الإيثار وأجملها، ومن يتأمل في قصص إيثارهم ظن ذلك ضربا من خيال، لولا أنه منقول لنا عن طريق الأثبات، وبالأسانيد الصحيحة، وكيف لا يكونون أهل إيثار وهم بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، يعلمهم الإيثار ويحثهم عليه، ويبين لهم فضله ومكانته؛ روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ (وهم قبيلة من اليمن) إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ".

وروى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَقَالَ: "ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ، مِنْ فَعَالِكُمَا" فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].

ومن تأمل حال الأنصار رأى صورة من الإيثار يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن التعبير عنها البيان، كيف لا وقد قال الله -تعالى- في حقهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]، روى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ.

إيثار عائشة، لما طُعِنَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قَالَ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اذْهَبْ إِلَى أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ -عَلَيْكِ السَّلاَمَ-، ثُمَّ سَلْهَا، أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ، قَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، فَلَأُوثِرَنَّهُ اليَوْمَ عَلَى نَفْسِي، فَلَمَّا أَقْبَلَ، قَالَ: لَهُ مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَالَ: "مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ المَضْجَعِ، فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِّمُوا، ثُمَّ قُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي، فَادْفِنُونِي، وَإِلَّا فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ المُسْلِمِين..." (أخرجه البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي).

إيثار أرملة؛ روى مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ".

إيثار أبي طلحة؛ روى مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه عن أَنَس بْن مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ نَخْلًا، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ: (لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92]، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَايِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ" قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ.

إيثار لا نظير له، عن أبي الجهم بن حذيفة العدويّ قال: "انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم. فإذا رجل يقول آه. فأشار ابن عمّي إليّ أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر فقال: آه. فأشار هشام: انطلق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمّي فإذا هو قد مات" (ذكره البيهقي في شعب الإيمان، والغزالي في إحياء علوم الدين: 3/ 258، وابن كثير في تفسيره: 4/ 338).

فانظروا إلى إيثار هؤلاء الأفاضل الكرام، لقد بلغ الإيثار والسخاء بأحدهم أن يقول: لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له.

كانوا أهل إيثار وسخاء، كانوا أحبة في الله متراحمين متواصلين متباذلين، يوم كان القرآن دليلَهم، يوم كان هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- إمامَهم وأمامَهم، يوم كانوا عاملين بكتاب الله، آخذين بسنة رسول الله، متخلقين بأخلاق الإسلام. فكم من عيون منهم بكت لبكاء عيون من المسلمين! وكم من قلوب لهم تألمت لآلام المتألمين.

فأين هذه النماذج الكريمة؟! وأين هذه القلوب العظيمة؟! أين هي مِن نماذجِ اليوم؛ يوم صاح الأيتام، وصاحت الأرامل، وصاح المحتاج المكروب، فلم تجد هذه الحناجر لها مغيثاً غير الله جل جلاله؟! أين هذه القلوب الرحيمة؟! وأين الإيثار؟! يوم قُطِعَتِ الأرحام، فضلاً عن أخُوّة الإسلام، حتى اقتتل الرجلان على شبر من الأرض، وتهاجر الإخَوَان على متاع من الدنيا زائل! يوم سَبَّ المسلمُ أخاه، وانتهك عرضَه، واستباح غَيْبَتَه على متر أو مترين من الأرض، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

فمتى نعود إلى خلق الإيثار؟ متى نتخلق بخلق الإيثار؟ متى نتخلى عن الأنانية وحب الذات؟ ومتى نطهر القلوب من الكراهية والأحقاد والضغائن؟

نسأل الله -تعالى- أن يطهر قلوبنا من كل سوء وداء، وأن ينور قلوبنا بكل خلق كريم ووصف حميد.

وصلى الله وسلم على نبينا وحبيبنا محمد، والحمد لله رب العالمين.