الواسع
كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...
العربية
المؤلف | علي عبد الرحمن الحذيفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ومما على المسلم أن يحذره: الخوف والقلق والفزع من المرض، وفي المثل: توقُّع الشرِّ مثلُ الوقوع فيه، فالتوكل على الله يقوِّي العزائمَ والقلبَ والروحَ والمناعةَ في الجسم، فالخوف والهلع والقلق يضطرب معه كلُّ شيء في البدن، وتَضعُف مقاومةُ البدن للأمراض، والتوحيد طمأنينة وأمان من كل خوف...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله رب الأرض والسماء، الوهاب للنعماء، يكشف البأساء والضراء، ويرفع البلاء، ذو الرحمة الواسعة، والحكمة البالغة، لرب الحمد والشكر على آلائه كلها، ما علمنا منها وما لم نعلم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، سميع الدعاء، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، صاحب الحمد واللواء، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، وعلى آله وصحبه الأتقياء.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- بالعمل بأسباب الخيرات، والمنجيات، واجتنِبوا أسبابَ المهلكات والمحرَّمات، فمن اتقى اللهَ وقاه، ومن عصى الله وصادَم سُنَنَه أَرْدَاه.
أيها الناس: إنكم ترون ما نزَل بأهل الأرض من البلاء، وما أصابهم من الضراء، وتسمعون أخبار فتك هذا البلاء بالبشر، وسرعة انتشاره في الناس، وعظيم خطره، هذا الفيروس الذي يصيب في أي مرحلة من العمر -بإذن الله سبحانه-، يهدِّد الإنسان، وربنا الرحمن الرحيم، لو شاء لجعل النازلة أعظم من "كورونا"، فالبشرية تمرَّدت على الله، وطغَت وبغَت، إلا من رحم الله -عز وجل-، قال سبحانه: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا)[فَاطِرٍ: 45]، وقال سبحانه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشُّورَى: 30].
يا ربَّنا كما عفوتَ عن الكثير، فاعفُ عن القليل، اللهم إنكَ كتبتَ كتابًا عندَكَ فوق العرش: "إن رحمتي سبقَتْ غضبي"، اللهم عامِلْنا بمنِّكَ وكرمِكَ وفضلِكَ وإحسانِكَ وعفوِكَ، ولا تعامِلْنا بعدلِكَ ومحاسبتِكَ، وعامِلْنا بما أنتَ أهلُه، ولا تعامِلْنا بما نحن أهلُه يا ذا الرحمة التامة، والجود والكرم، يا ذا الجلال والإكرام، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر المهاجرين، خمسٌ بخمس: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأمراض التي لم تكن في أسلافهم من قبلُ، وما لم تحكم أئمتُهم بكتاب الله إلا جعَل الله بأسهم بينهم، وما منَعوا زكاة أموالهم إلا حبس عنهم القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا، وما نقصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلَّط الله عليهم عَدُوًّا فأخَذ بعضَ ما في أيديهم"(حديث حسن، رواه ابن ماجه).
أيها الناس: إن الله -تعالى- يستعتبكم فأعتبوه، ويذكِّركم ويعظكم ويخوفكم فأرضوه، ويستتيبكم لتتوبوا إليه، وتتضرعوا إليه وتدعوه؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويجازي على ذلك أعظم الثواب، قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 155-157]، وقد ذمَّ اللهُ الذين لا يتعظون، ولا يتوبون، ولا يتضرعون عند النوازل، وتوعَّدهم بالعقاب فقال سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الْأَنْعَامِ: 42-43]، وقال تعالى: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ)[التَّوْبَةِ: 126]، وقال عز وجل: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 76].
أيها الناس: تفكَّروا في الأمم الماضية، والقرون الخالية كيف عاقبهم الله بالذنوب المتنوعة، ومنهم من هو من أولاد الأنبياء، وفي هذا العصر ما من معصية أهلَك اللهُ بها القرونَ العاتيةَ إلا وهي موجودة في الأرض بكثرة، وإصرار وازدياد، فسُنَّة الله -سبحانه- تجري على المؤمن والكافر، قال تعالى: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ)[الْقَمَرِ: 43]، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ)[السَّجْدَةِ: 26].
أيها الناس: أرأيتُم لو أن محسنًا كريمًا يملك المثوبة والعقوبة بنى دارًا واسعة جمَع فيها كلَّ ما يحتاج إليه السكان من الطعام والشراب والمرافِق والمتاع والغذاء والدواء واللباس وغير ذلك، ثم أَذِنَ للناس في سُكناها مدةً محدودةً، وقال: اسكنوا هذه الدار بشروط وتعليمات، فمن سكنها بالشروط والتعليمات هذه المدةَ نقلته إلى دار خير منها أضعافًا مضاعفةً، ومَنْ سكنَها ولم يلتزم بشروطها وتعليماتها فأفسَد فيها وخرَّب ودمَّر وجمَع فيها الشرور والخبائث في هذه المدة نقلتُه إلى دار جُمِعَ فيها الشرور والآلام، أليس هذا فضلًا وعدلًا من صاحب الدار؟! بلى، ولله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، فالدار هي الدنيا، وبعدها الجنة أو النار، والله -عز وجل- بنى لنا السماء، وفرَش لنا الأرضَ، وسخَّر لنا البحار والأنهار، وسخَّر لنا كلَّ المنافع، وسلَّط بني آدم، قال تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)[الذَّارِيَاتِ: 47-48]، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الْجَاثِيَةِ: 12-13]، وقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ)[إِبْرَاهِيمَ: 32]، وقال سبحانه: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ * فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النَّازِعَاتِ: 27].
والله أتمَّ علينا النعمَ؛ لنعبده وحدَه لا نشرك به شيئًا، ولنعمل بالكتاب والسُّنَّة، فذلك ضمانُ الخيرات في الحياة وبعد الممات، والحصن والحرز من الشرور والمهلِكات، قال تعالى: (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)[النَّحْلِ: 81].
أيها الناس: إنه ما وقَع بلاء إلا بذنب، وما رُفِعَ إلا بتوبة، وقد نزَل بالناس هذا الفيروس فاتقوه بالدعاء والعمل بالأسباب التي شرعها الدين الإسلامي، وتعاونوا مع ولاة الأمر بالأخذ بالحيطة والحرص على الوقاية، والتزام الإرشادات الصحية بعد التوكل على الله -عز وجل-، ويُشكَر لولي الأمر خادم الحرمين الشريفين -يحفظه الله- حرصُه الشديدُ على صحة المواطنين والمقيمين، في كلمته التي وجَّهها، ويُشكَر لحكومته قيامُها بالواجب الذي كلَّفَها به أعزه الله.
والتوكل على الله هو الملجأ والحصن الذي يُلَاذ به في كل نازلة وأمر، والأخذ بالأسباب مأمور به شرعًا وعقلًا، فمن اعتمد على الأسباب وتوكَّل عليها أشرَك بالله -تعالى-، ومن تركها وعطَّلها خالَف الشرع والعقل، وهذه الغمة سيرفعها الله بمشيئته -تعالى-، قال عز وجل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 186]، ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: "واعلم أن الفرج مع الكرب"(رواه الحاكم عن ابن عباس).
عبادَ اللهِ: كونوا من الموقنين بالقضاء والقدر، فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان الستة، وهو أن تعلَم وتعتقد يقينًا بأنه لا يكون في مُلكِ اللهِ إلا ما يريد، وأن الله -عز وجل- خالِقُ كلِّ شيءٍ، قال سبحانه: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[الْقَمَرِ: 49]، فالقدر خيره وشره يجب الإيمان به، وربنا أخبرنا بأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، قال تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[سَبَأٍ: 3]، وقال سبحانه: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا)[الْجِنِّ: 28]، فربنا -سبحانه- يعلم ما كان ويعلم ما يكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)[الْأَنْعَامِ: 27-28].
والقَدَر مبناه على العلم لله والكتابة، وأقدار الله تشتمل على حكم وأسرار لا يظهر منها إلا كما يظهر للناظر في المحيط، والله -تعالى- لا يخلق شرًّا محضًا لا حِكَمَ فيه، ولا أسرار، ولا منافع، ومن الحِكَم في نزول المصائب بفيروس كورونا: أن يتذكر الناس ما كانوا فيه قبل من الطمأنينة والسَّكِينة، ويُسْر التنقل للعبادة والمصالح ليلَ نهارَ؛ ليحمدوا الله على العافية والأمن والاستقرار، ويُحدِثوا توبةً من المعاصي، ومن الحِكَم في هذه المصائب ظهور عزة الله وعظيم قدرته وجبروته للخلق ليوقن المرتابون، ففيروس لا يُرى بالعين المجردة يُرعِب البشريةَ فكيف لو سلَّط عليهم بذنوبهم أقوى من هذا؟! قال تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)[الْمُدَّثِّرِ: 31]، ومن الحكم في هذه النازلة معرفة ضعف الإنسان وعجزه أمام الواحد القهار؛ فالإنسان لا يمتنع من أصغر مخلوق، يسلطه الله عليه بما كسب، قال تعالى: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)[الرَّعْدِ: 11]، ألا تعلم -أيها الإنسان- أنك أضعفُ من النملة؛ فالنملة إذا قُطِعَ نصفُها بقيت تتمتَّع بالحياة، وأقل شيء يُوهِن الإنسانَ وقد يقتله، ومن الحِكَم في هذه النازلة أن الله يذكِّر البشرَ بعقوبة أدنى؛ لئلا تصيبهم عقوبة أكبر ليتوبوا، قال الله -تعالى-: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[السَّجْدَةِ: 21]، فالله رحيم بخلقه.
ومن الحِكَم في هذه النازلة ظهور الدلائل للمرتابين أن رب العالمين هو المتفرد بتصريف الكون وتدبيره وحدَه لا شريكَ له، من الذَّرَّة وما هو أصغر منها وما هو أكبر، قال الله -تعالى-: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)[الْبُرُوجِ: 16]، فهذا الفيروس لو كان ينتقل من شخص إلى شخص طليقًا من مشيئة الله وقدرته وتدبيره لأصاب الناس جميعًا، أو أصاب الأكثر، ولكنه محكوم ومقهور ومأمور بمشيئة الله -تعالى-، (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ)[النُّورِ: 43]، وهذا فضلًا من الله وعدلًا، وهذا ما قرره النبي -صلى الله عليه وسلم- في عقيدة التوحيد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر"(رواه البخاري ومسلم)، من حديث أبي هريرة، قال المحققون في نفي العدوى هنا: "لا ينتقل المرض من شخص إلى غيره إلا إذا نقله الله بمشيئته إلى غير الأول، ولا ينتقل المرض بطبعه طليقًا عن مشيئة الله، ولو شاء الله -تعالى- عدم انتقال المرض لم ينتقل، ولو وقعت المخالَطة مع المريض؛ فالمنفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية من انتقال المرض بطبعه من غير مشيئة الله -تعالى-؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أعدَى الأولَ؟!"، والمسلم مأمور بالأخذ بالأسباب الشرعية، والتجارب المباحة، بعد التوكل على الله، قال صلى الله عليه وسلم: "فِرَّ من المجذوم فرارَكَ من الأسد"(رواه البخاري من حديث أبي هريرة).
وقد وقع الطاعون في عهد الصحابة -رضي الله عنهم-، ولم يُقدِم عمرُ -رضي الله عنه- بالناس عليه بالشام، ومات فيه أبو عبيدة وغيره، -رضي الله عنهم- راضينَ به أتمَّ الرضا، ورَفَع عمرُو بنُ العاص الناسَ بالشام إلى الجبال حتى رفعه الله -تعالى-، وهذا البلاء سيرفعه الله -سبحانه- إن شاء الله، ومما على المسلم أن يحذره: الخوف والقلق والفزع من المرض، وفي المثل: توقُّع الشرِّ مثلُ الوقوع فيه، فالتوكل على الله يقوِّي العزائمَ والقلبَ والروحَ والمناعةَ في الجسم، فالخوف والهلع والقلق يضطرب معه كلُّ شيء في البدن، وتَضعُف مقاومةُ البدن للأمراض، والتوحيد طمأنينة وأمان من كل خوف.
أيها الناس: استقبِلوا هذا البلاءَ بالدعاء والتوبة من المعاصي والتوبة من المجاهرة بها؛ فإنها سبب كل شر وعقوبة في العالَم، وأَدُّوا إلى الناس الذي تحبون أن يؤدوا إليكم، ولا يظلم الإنسان أخاه الإنسان في شيء، فقد تجاوَز ظلمُ الإنسان أخاه الإنسان في هذا العصر حدًّا لا تطيقه الجبالُ، والظلم قد تكون عقوباته عامة، وكثيرًا ما تكون خاصة، وأكثِرُوا من الصدقات، فإنها تدفع البلاءَ، وأكثِرُوا من ذكر الله -سبحانه-، فإن الذِّكْر غذاء ودواء، وحِصْن من الأدواء، والتزِموا أذكارَ الصباح والمساء، واقتَنُوا كتبَ الأذكار، ومنها تحفة الذاكرين واعتنوا بها، قال تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)[الزُّمَرِ: 54].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفِروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: فاتقوا الله، اتقوا الله تفلحوا وتفوزوا بخير العواقب، وتنجوا من المهالك والمعاطب، فما فاز إلا المتقون، وما خَسِرَ إلا الكافرون، قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[الْحَدِيدِ: 22-23]، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "واعلم أن ما أخطأكَ لم يكن ليصيبكَ، وما أصابكَ لم يكن ليخطئكَ" (رواه الحاكم)، ومعناه: ما لم يقدره الله عليك لم يصبك منه شيء، وما قدَّرَه اللهُ عليكَ أصابَكَ، وفي الحديث: "لا يُنجي حذرٌ من قَدَر، والدعاء ينفع مما نزَل ومما لم ينزل".
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"، وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كبيرًا.
اللهم وارض عن الصحابة أجمعين، اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه يعدلون، اللهم ارضَ عنهم وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافرين، اللهم أذِلَّ الكفرَ والكافرين والمبتدِعِين، الذين ابتدَعُوا بدعًا تضادُّ دِينَكَ يا رب العالمين، اللهم أذِلَّ البدعَ إلى يوم الدين يا رب العالمين، يا عزيز يا قهار، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم ارفع هذا البلاء عن بلاد المسلمين، اللهم ارفع هذا البلاء عن بلاد المسلمين، يا رب العالمين، اللهم ارفع هذا البلاء عن بلاد المسلمين، اللهم ارفع هذا البلاء عن الأرض، اللهم ارفع هذا البلاء عن الأرض، اللهم ارفع هذا البلاء عن الأرض، يا رب العالمين، وارحم عبادك ومخلوقاتك يا أرحم الراحمين، إنك على كل شيء قدير، (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 286]، يا رب العالمين.
اللهم احفظ بلادنا من كل شر ومكروه يا رب العالمين، اللهم أدم الأمن والإيمان على بلاد المسلمين إنك على كل شيء قدير، اللهم إنا نعوذ بوجهك الكريم العظيم، وبكلماتك التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر وبأسمائك الحسنى ما عَلِمْنا منها وما لم نعلم، ومن صفاتك العلا من شر ما خلق ربي وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج من الأرض، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما يلج في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن شر ما خلق ربي وبرأ.
يا ذا الجلال والإكرام، يا أرحم الراحمين، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، يا رب العالمين، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم أعذنا وأعذ ذرياتنا من إبليس وذريته والشياطين يا رب العالمين، وأوليائه إنكَ على كل شيء قدير، اللهم أعذ المسلمين كلهم من الشيطان الرجيم، ومن غوايته ومن شياطينه يا رب العالمين إنك على كل شيء قدير، اللهم كن لموتانا وموتى المسلمين، اللهم كن لموتانا وموتى المسلمين، اللهم نوِّر عليهم قبورَهم يا أرحم الراحمين، اللهم زِدْ في حسناتهم وتجاوَزْ عن سيئاتهم يا ربَّ العالمين، اللهم إنَّا نسألُكَ أن تُعِيذَنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، يا رب العالمين، اللهم إن هذا البلاء من قضائك وقدرك وأنتَ على كل شيء قدير، اللهم ارفعه عن الأرض يا رب العالمين، وأعد يا ربنا الطمأنينة والسكينة إلى القلوب إنكَ على كل شيء قدير.
اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم وَفِّقْ خادمَ الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، اللهم أعنه على كل خير يا رب العالمين، اللهم سدِّد آراءه، ووفِّقه في قراراته، اللهم وفق ولي عهده لما تحب وترضى، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم أعنه على كل خير، اللهم وفقه يا رب العالمين لما فيه الخير إنكَ على كل شيء قدير، ولما فيه عز الإسلام والمسلمين، يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك يا أرحمَ الراحمينَ أن تُعِيذَنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم استعملنا في طاعاتك وجنبنا معاصيك يا رب العالمين، نعوذ بك من سوء القضاء، وشماتة الأعداء، ودَرَك الشقاء، وجهد البلاء.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].