العالم
كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام - |
كان السلف يعتبرون دخول شعبان بمثابة الفترة التدريبية التي تسبق دخول مضمار السباق، والبوابةَ الممهِّدة للدخول في السباق الأخروي، وأيقنوا أن الخيل التي لا تُضمَّر ولا تَتَدرب؛ لا تستطيع مواصلة السباق وقت المنافسة كما ينبغي، بل قد تتفاجأ بتوقّفها أثناء الطريق.. وهذا ما يفسّر لنا حماسَ بعضِ الناس في أول أيام شهر رمضان، ثم فتورهم في وسط الشهر وفي آخره.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...، أما بعد:
فإن قلوب المؤمنين تترقب بلهفةٍ ذاك الشهرَ العظيم، والضيفَ الكريم، الذي يرونه نعمة كبرى، وهبةً عظمى من الرب الكريم، لهذا كان السلفُ -رضي الله عنهم- يجعلون دخول شهر شعبان للاستعداد المبكّر لاستقبال رمضان، حتى لا يدخل عليهم الشهرُ الفضيل إلا وقد روّضوا أنفسَهم على ألوانٍ من الطاعات والقُربات.
ولقد كان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- سابِقهم إلى ذلك؛ فكان كثير الصيام في شعبان، حتى قالت أمنا عائشة -رضي الله عنها-: "وما رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان"(متفق عليه: البخاري ح(1969)، مسلم ح(1156) واللفظ له).
وقد جاء في سنن النسائي - بسند قواه بعض أهل العلم - وغيره بيانُ سبب كثرة هذا الصوم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ذاك شهر يغفل عنه الناس"(مسند أحمد ح(21753)، سنن النسائي ح(2357)، قال الحافظ في فتح الباري لابن حجر (4/ 215): "أخرجه النسائي وأبو داود وصححه بن خزيمة").
قال ابن رجب -رحمه الله-: "وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوبٌ لله عز وجل...، ولذلك فُضّلَ القيامُ في وسط الليل لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذِّكر"(لطائف المعارف لابن رجب، ص: 131).
أيها المسلمون: ولأجل هذا كان السلف يعتبرون دخول شعبان بمثابة الفترة التدريبية التي تسبق دخول مضمار السباق، والبوابةَ الممهِّدة للدخول في السباق الأخروي، وأيقنوا أن الخيل التي لا تُضمَّر ولا تَتَدرب؛ لا تستطيع مواصلة السباق وقت المنافسة كما ينبغي، بل قد تتفاجأ بتوقّفها أثناء الطريق.. وهذا ما يفسّر لنا حماسَ بعضِ الناس في أول أيام شهر رمضان، ثم فتورهم في وسط الشهر وفي آخره.
وأيضاً: فمن الناس من يبقى عدة أيام وليالٍ في رمضان وهو يدرّب نفسَه ويجاهدها، فلا يشعر إلا وربعُ الشهر أو ثلثُه قد فاته وهو ما يزال يُجري التمارين البدنية والقلبية، فيفوته خيرٌ كثير!
ولهذا – أيها الأحبة - لما كانت الصلاة أعظم الأعمال؛ جعل الله بين يديها من الأعمال ما يعين على تلقيها بما ينبغي لها:
- فشُرع لها الأذان.
- ومشروعية تقدم الرجال للمسجد.
- ومشروعية السنن الرواتب لها، إما قبلها أو بعدها؛ حتى يتهيأ العبدُ لهذه الفريضة التي هي من أعظم ما فرض الله على العباد، ويرقع ما وقع فيها من نقص.
والعاقلُ من عرف شرف زمانه، وقيمة حياته، وعظّم مواسمَ الآخرة، واستعد لهذا الزمان العظيم من الآن، وهيأ قلبَه ليتلقى هبات الله له بقلب سليمٍ، متخفِّف مما ينغّص عليه التلذذ بالطاعات.
ومما يعين على ذلك:
1) أن يجتهد الإنسان في إنهاء ما قد يشغله في رمضان من الآن، ومن أكثر ما يشغل الناس رجالاً ونساء -على وجه الخصوص-: اشتغالهم بالاستعداد للعيد بملابسه وتَبِعاته، فبعضهم لا يفطن لذلك إلا وسط شهر رمضان! وكأن يوم العيد يومٌ مفاجئ!
2) أن يتدرب الإنسان على بعض أعمال رمضان من الآن:
- كصيام ما تيسر من أيام شعبان.
- وأن يزيد قليلاً على نصيبه المعتاد من صلاة الليل.
- وأن يزيد قليلاً على حزبه الذي اعتاده من القرآن.
والصوم سيعينك على ذلك كله، من القيام قبل الفجر لتصلي ما تيسر، فإن ذلك له أثرٌ معلوم على صلاح القلب وانكساره، والبعد عن اللغو، وكذلك يعينك على قراءة ما تيسر من القرآن، وهكذا تكون هذه العبادات الثلاث دالةً على بعضها، ومن لم ينشط للصوم فلا تفوتنّه ما بقي.
3) تهيئة أهل البيت معك:
- بتذكيرهم بقرب الشهر الكريم.
- وتدريب من أطاق منهم على بعض ما سبق ذِكره وما سيأتي.
- والتنويه على هذا في الجلسات الأسرية، ولسان حالهم: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ) [مريم: 12]، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه: 132].
4) وإذا وضعتَ مجموعةً من الأعمال في هذا الشهر فحاسب نفسك عليها يومياً؛ لتدرك أوجه الخلل، ومن أين أُتيت؟ فإذا دخل رمضان إذا بك قد تهيأت جيداً، وعرفت أوجه القصور، قبل أن ينفرط عليك الشهر دون قوةٍ في العمل.
5) وهو من أهم الخطوات: لنتساءل - أيها الإخوة- عن طريقة قراءتنا للقرآن: أهي قراءة لمجرد القراءة؟ ونيل ثواب الأحرف المتلوة فقط؟ أم هي قراءة نريد منها صلاح قلوبنا؟
الواقع الذي يُرى في عموم المسلمين: أن أكثر الناس يفتش عن الكمّ لا الكيف، لهذا قلّ أثر القرآن على قلوبنا وحياتنا! إلا من رحم لله.
القرآن يَعظم أثرُه على القلب إذا قُرئ بقلب.. فإن قُرئ بلسان لم يَكد يتجاوز أثرُه اللسان!
هذه حقيقة دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة.
فلنجعل من جملة ما نستعد به لرمضان: أن نتدرب على قراءة القرآن في شعبان قراءةَ قلبٍ يتلقى رسالات الله، ويعتبر كلَّ آية رسالة من الله، يفتحها بقلبه قبل أن يفتحها من المصحف، لينظر ماذا يريد الله منه؟ فمن قرأ بهذا المبدأ فإني أقسم بالله غير حانث: لتتغيرنَّ حياتُه ولا بد، يقول الله عز وجل: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)[الحشر: 21]، ويقول جل وعلا: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى)[الرعد: 31] والجواب: لكان هذا القرآن.
وتأمل هذه الكلمة المسدَّدة من الإمام الحسن بن علي -رضي الله عنهما- الذي عاش مع القرآن؛ لتدرك الفرق بين مَن يقرأ بقلبٍ ومن يقرأ بلسان، قال -رحمه الله-: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار"( التبيان في آداب حملة القرآن، ص: 54).
وهذه الكلمة تشير إلى معنى آخر، وهو تفقد القلب بعد قراءة القرآن؛ فتِّش يا أخي وانظر ماذا صنع القرآنُ بقلبك، فإن وجدت نفسَك لا تزداد إيمانًا، ولا تترك ما أنت عليه من غفلة أو معصية ظاهرة أو باطنة؛ فتأكد أن قراءتك مدخولة وفيها خلل.
ولو لم يكن من الاستعداد لرمضان إلا هذا لكفى.
6) ومن جملة ما يستعد به الإنسان لرمضان في هذا الشهر - شهر شعبان -: أن يكون للعبد خلوات خاصة، يتفرد فيها ليذكر الله تعالى خالياً، يرقِّق قلبَه، ويستلين له بذكر الله، وتذكُّر الوقوف بين يديه، والقدوم عليه، ويحاسب نفسه؛ ماذا قدّم فيما سلف؟ وهل الحال التي هو عليها الآن مرْضية؟ وهذه من أفضل الطرق لتليين القلوب وتنقيتها، وتهذيب النفوس، لعل الله أن يهيئ له قلبًا يتلقى ذاك الشهر العظيم، ولعل الله أن يفتح عليه بدمعة فيكون من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله "ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه" (متفق عليه: البخاري ح(660)، مسلم ح(1031).
وحين نقول: خلوات، فلا يصح أبدًا، بل لا تكون خلوة أن تجلس في هذه الخلوة والجوال عن يمينك أو شمالك! أو تتشوف أنت للرد على غيرك، بل انقطع تمامًا.. إنما هي سويعة في اليوم تخلو بها؛ لا في رمضان فقط، بل في كل أيام حياتك، وستجد لها أثراً عظيماً في حياتك وعمرك كله.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة خير أنبيائه ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله ومصطفاه، أما بعد:
7) فمن جملة الأعمال التي تُعين على الاستعداد وتلقي هذا الشهر العظيم على أحسن حال:
تقليل الخلطة بالناس إلا لحاجة: كوظيفة، وقضاء حوائج الأهل في الأسواق، وتخفيف الارتباط الذي لا مقصد منه إلا التسلية فحسب، وربما تضييع الوقت في غير فائدة! فإن الخلطة عموماً – بالتجربة والبرهان - إذا خرجت عن حد الحاجة أفسدت القلبَ وقسّتْه ـ كما هو معلوم في كل وقت ـ فكيف بمثل هذه الأزمان الفاضلة!
ومن حُسْن صنيع بعض الناس أنه من الآن استأذن من أصحابه بلطف، فخرج من كثير من مجموعات "الواتس اب" وواعدهم عيد الفطر المبارك، فإن هذه المواقع - واتس، توتير، فيسبوك - مشتتة للقلب بلا شك، ومن لم يترجح بقاؤه فيها - لنفع وتوجيه ونحو ذلك من المصالح المعتبرة - فليعتزلها، أو ليقلل منها ما استطاع من الآن، حتى إذا جاء الشهر الكريم، وإذا نفسه قد ارتاضت على ذلك.
8) ومن أعظم ما يعين على تهيئة النفس لرمضان: كثرةُ الدعاء، والإلحاحُ على الله تعالى في أن يبارك له في وقته وعمره، وأن يبارك له في شعبان ورمضان، وأن يجعله في رمضان من أسبق الناس إلى الخير؛ فإن العبد مهما حاول فلا توفيق ولا تسديد إلا بعون الله وتوفيقه، والعبدُ مأمورٌ بفعل الأسباب، واللهُ تعالى كريم، لا يخيّب مَن وقف على بابه، وفعل ما بوسعه من الأسباب.
ختاماً.. ما أحسن قول ابن رجب -رحمه الله-: "يا من فرَّط في الأوقات الشريفة وضيعها، وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها:
مضى رجبٌ وما أحسنتَ فيه | وهذا شهرُ شعبانَ المبارك |
فيا مَن ضيّع الأوقاتَ جهلاً | بحُرمتها، أفِقْ واحذرْ بَوارَك |
فسوف تُفارق اللذاتِ قَسْرًا | ويُخلي الموتُ كرهاً منكَ دارَك |
تداركْ ما استطعتَ مِن الخطايا | بتوبةِ مخلصٍ واجعل مدارَك |
على طلبِ السلامة مِن جحيمٍ | فخيرُ ذوي الجرائمِ مَن تَدارك |
(لطائف المعارف لابن رجب، ص: 135)
اللهم بلغنا رمضان، ووفقنا للاستعداد له وتدارك ما انفرط من الأعمار، اللهم أصلح أحوال المسلمين، وبصّرهم بمواطن الضعف فيهم، اللهم بصّرهم بمكائد أعدائهم، اللهم واخذل أعداء الملة، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المجاهدين في كل مكان.