المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | محمد ابراهيم السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
رمضان سوق قام ثم انفض ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر، فمن كان محسناً فليحمد لله وليسأل الله القبول فإن الله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن كان مسيئاً فليتب إلى الله فالعذر قبل الموت مقبول والله يحب التوابين نسأل الله أن يغفر لنا ولكم ما سلف من الزلل وأن يوفقنا وإياكم للتوبة النصوح قبل حلول الأجل ..
(الحمدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) وأشهد أنْ لاَّ إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ جعلَ لكلِ أجلٍ كتاباً، ولكلِ عملٍ حساباً، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، أرسله الله (شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آلِهِ وصحبهِ وسلمَ تسليماً كثيراً.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا فهي النجاة غداً والمنجاة أبداً، (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر:61].
معاشرَ المؤمنينَ والمؤمناتِ: كعادته يأتي سريعاً ويمضي سريعاً، وها نحن نودع شهر رمضان المبارك بنهاره الجميل ولياليه العطرة.. ها نحن نودع شهر القرآن والصبر والتقوى، شهرَ العزة والكرامة والجهاد، شهرَ الصدقة والرحمة، شهرَ المغفرة والعتق من النار...
دَعِ البكاءَ على الأَطـلالِ والدَارِ* واذكرْ لِمنْ بَانَ مِنْ خِلٍ ومن جَارِ
واذرِ الدموعَ نحيباً وابكِ منْ أسفٍ* على فراقِ ليالٍ ذاتِ أنوارِ
على ليالٍ لشهرِ الصوم ما جُعِلَتْ * إلا لتمحيصِ آثامٍ وأوزارِ
يا لائمي في البكاءِ زدنيْ بِهِ كَلَفَاً* واسمَعْ غريبَ أحاديثٍ وأخبارِ
ما كانَ أحسنَنَا والشملُ مجتمعٌ* مِنا المُصليْ ومنا القانِتُ القَارِي
إن شهر رمضان قد قوض خيامه وفك أطنابه وقد أودعناه ما شاء الله أن نودع من الأعمال والأفعال والأقوال حسنِها وسيئِها صالِحها وطالِحها والأيامُ خزائنُ حافظةٌ لأعمالكم، تُدعَون بها يوم القيامة (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا) [آل عمران:30]، ينادي ربكم: "يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه" رواه مسلم.
رمضان سوق قام ثم انفض ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر، فمن كان محسناً فليحمد لله وليسأل الله القبول فإن الله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن كان مسيئاً فليتب إلى الله فالعذر قبل الموت مقبول والله يحب التوابين نسأل الله أن يغفر لنا ولكم ما سلف من الزلل وأن يوفقنا وإياكم للتوبة النصوح قبل حلول الأجل.
أخوتي في الله: ولى شهر رمضان ولا ندري أندرك الشهر الآخر أم لا: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) [طـه:52] كم من مستقبلٍ يوماً لا يستكملُه ومؤملٍ غداً لا يدركُه..
أيها الأحبةُ: إنَّ لنا في انقضاءِ رمضانَ عبرةٌ وعظةٌ، فقدْ كُنا نعيشُ أيامَهُ فرحينَ متنعمينَ بها ثُمَّ انقضتْ تِلكُمُ الأيامُ وكأَنها طيفُ خيالٍ.. مضتْ تلكَ الأيامُ لِنقطَعَ بها مرحلةً مِنْ حياتِنَا لَنْ تعودَ إلينا أبداً وإنما يبقى لنا ما أودعنَاهُ فيها مِنْ خيرٍ أو شرٍ، وهكذا الأيامُ التي تمرُ علينا تُنقصُ منْ أعمارِنا، وتقربنا مِنْ آجالِنا قال الحسن البصريُ رحمه الله: ابن آدم إنما أنت أيام إذا ذهبَ يومكَ ذهبَ بعضكَ.
تمرُ بنا الأيامُ تترى وإنما * نُساقُ إلى الآجالِ والعينُ تنظرُ
فلا عائدٌ ذاكَ الشبابُ الذي مضى* ولا زائلٌ هذا المشيبُ المكدرُ
أيها الأحبة في الله: إذا تولى ربيع الطبيعة خلف وراءَه في الأرض الخِصْب والنماء والخضرة والنضارة والأنداء والأنسام اللطيفة فيرتع في خيره الإنسان والحيوان سائر العام كُلِهِ، لقد كان رمضان بحق ربيعاً وواحة خضراء وحديقة غناء يتمتع فيها الصائم بملذات الحس ومسرات النفس وكان ذخيرةً للنفوس المؤمنة تتزود فيها بوقود الطاعة وتتغذى بزاد التقوى زاداً يقويها ويبلغها بقية العام حتى يعود إليها...
لقد كان الشهرُ الراحلُ ميداناً لتنافس الصالحين بأعمالهم, ومجالاً لتسابق المحسنين بإحسانهم، وعاملاً لتزكية النفوس وتهذيبها وتربيتها.. لكن بعض الناس ما إن خرجوا من رمضان إلى شوال حتى خرجوا من الواحة إلى الصحراء ومن الهداية إلى التيه ومن السعادة إلى الشقاوة لذا كان الناس بعد رمضان على أقسام أبرزها صنفان هما جدُ مختلفين:
صنف تراه في رمضان مجتهداً في الطاعة فلا تقع عيناك عليه إلا ساجداً أو قائماً أو تالياً للقرآن أو باكياً حتى ليكادْ يذكرك ببعض عباد السلف وحتى إنك لتشفق عليه من شدة اجتهاده وعبادته ونشاطه.
وما إن ينقضي الشهرُ حتى يعودَ إلى التفريط والمعاصي فبعد أن عاش شهراً كاملاً مع الإيمان والقرآن وسائر القربات يعود إلى الوراء منتكساً أو مرتداً والعياذ بالله وهؤلاء هم عباد المواسم لا يعرفون الله إلا عند المواسم أوعند نزول النقم بساحتهم فإذا ذهبت المواسم أو زالت النقم وحُلت الضوائق ذهبت الطاعة موليةً ألا فبئس قومٌ هذا ديدنهم
صلى المصلي لأمرٍ كان يطلبه | لما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما |
الخلعاءُ والمجانُ والذين في قلوبهم مرض وفي إيمانهم ضعف, هؤلاء يودعون في رمضان قيداً ثقيلاً غلهم عن شهواتهم الخسيسة، فهم يفرحون لذهابه فرحَ السجينِ إذا أطلق والمحرومِ إذا نال، ومن هؤلاء أكثر الشعراء، وتمردُهم على رمضان معروف وابتهاجهم بشوالَ مأثور فمنه قول الفرزذق:
فإن شال شوالٌ نُشُل في أكفنا | كؤوساً تعادي العقل حين تسالمه |
رمضان ولى هاتها يا ساقي | مشتاقةً تسعى إلى مشتاق |
ولا أحب أن أخوض في حماقات هؤلاء المجّان فإنهم ليسوا من رمضان ولا من أهله، فمن يعود إلى الغزل والهيام ومعاقرة الحرام ليس من رمضان ولا من أهله, من يعود إلى شيشته ونرجيلته وسيجارته وقناته وصفحات الانترنت غير اللائقة وغرفها الماجنة ليس من رمضان ولا من أهله, من يعود إلى لهوه وضلاله ليس من رمضان ولا من أهله.
وهناك صنف نقي نقاءَ رمضان صفي صفاءَ الصيام زكي زكاة رمضان قوم يتألمون على فراق رمضان، لأنهم ذاقوا حلاوة العافية فهانت عليهم مرارة الصبر، لأنهم عرفوا حقيقة ذواتِهم وضعفِها وفقرِها إلى مولاها وطاعته وعلموا أنهم محتاجون إلى ربهم لأنهم صاموا حقاُ، وقاموا شوقاً، فلوداع رمضان دموعهم تدفق، وقلوبهم تشقق، فأسير الأوزار منهم يرجو أن يطلق ومن النار يُعتق، وبركب المقبولين يلحق ولسان حالهم يقول:
سلام من الرحمن كل أوان | على خير شهر قد مضى وزمان |
سلام على شهر الصيام فإنه | أمان من الرحمن كُلُ أمان |
لئن فنيت أيامك الغر بغتةً | فما الحزن من قلبي عليك بفان |
فأخبرني بربك من أي الصنفين أنت؟ وبالله هل يستويان!! الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [صّ:28] أرجو أن نكون أنا وإياك ممن زادهم الصيام إيماناُ وتقىً وهدىً وصلاحاً وانتفعوا بالصيام والقيام.
عباد الله: نحنُ الآنَ بحمدِ اللهِ ختمنا شهرَ الصيامِ والقيامِ والدعاءِ، والسؤالُ الذي يستأهلُ التوقفَ والتأملَ، هلْ قُبلَ مِنا ذلك؟ إنَّ التاجرَ إذا دخلَ موسِماً أو صفقةً تجاريةً فإنهُ بعدَ انتهاء الموسمِ والصفقةِ يُصفى حساباتِهِ ومعاملاتِهِ ويقلبُ كَفيهِ وينظرُ مبلغَ ربحِهِ وخسارتِهِ ينظرُ هلْ ربحَ أمْ خَسرَ هلْ غَنِمَ أم غَرِمَ!!هذا الاهتمامُ البالغُ نراهُ في تجارةِ الدنيا وعَرَضِهَا الزائلِ...
ونحنُ قَدْ مرَّ بِنا قريباً موسمٌ مِنْ مواسمِ التجارةِ الأخرويةِ، تجارةِ الآخرةِ الباقيةِ تجارةٍ لَنْ تبورَ، تجارةٍ تنجيكمْ مِنْ عذابٍ أليمٍ، مر بنا آنفاً شهرُ الخيراتِ والبركاتِ فهلا حاسبنا أنفسنا؟ ووقفنا معهَا ما ذا ربحنَا فيهِ، ماذا استفدنَا منهُ، ما أثرُهُ على نفوسِنا، ما تأثيرُهُ على سلوكياتِنِا، هلْ تُقبلَ منا أمْ هلْ ردَّ علينا؟
كانَ السلفُ الصالحُ -رحمهمُ اللهُ- حينما ينتهى رمضانُ يصيبهم الهمُ ولسانُ حالِهِم لسانُ الوجِلِ الخائفِ أَنْ يُرَدَّ: هلْ تقبلَ مِنا؟. فهمْ كما وصفهُمْ اللهُ بقولِهِ: (والذينَ يؤتونَ ما آتواْ وقلوبُهُم وَجِلةٌ أَنهم إلى ربِهِم راجعونَ * أولئكَ يُسارِعونَ في الخيراتِ وهُم لَها سابِقونَ) يعملونَ الأعمالَ ويخافونَ أنْ تردَ عليهم، قالتْ عائشةُ -رضي اللهُ عنها- يا رسولَ اللهِ "الذينَ يؤتونَ ما آتوا وقلوبُهًم وجِلةٌ "هو الذي يسرِقُ ويَزنِيْ ويَشربُ الخمرَ وهوَ يَخافُ اللهَ عزَ وجلَ؟ قالَ: "لا يا ابنةَ الصديقِ! ولكنهمْ الذينَ يصلونَ ويصومونَ ويتصدقونَ وهمْ يخافونَ أَلاَّ يتقبلَ منهم". (رواه أحمدُ والترمذيُ).
أيها الناس: انتهى رمضانُ فرأينا أناساً على العبادةِ استقاموا، وعلى عملِ الخيرِ والبرِ استمروا، وعلى جليلِ الطاعةِ داوموا. وهذا ديدنُ المؤمنينَ وهُجِيرَاهُم، إذ المؤمنُ لا يعرفُ العبادةَ في زمنٍ ثم ينفكُ عنها، أو ينشطُ عليها في أوانٍ ثم يَهجرُهَا، إذ المرادُ من العبدِ ما قصدَه اللهُ من عبادةٍ فيما خَلقَهم لَهُ أن يَعبدوهُ وحدهُ لا شريكَ لَهُ، وأنْ تدومَ عبادتُهم لَهُ، قال اللهُ تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162], وقال تعالى: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 71].
وقال تعالى: ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) [الحجر:99]. قال الحسنُ البصريُ -رحمهُ اللهُ-: "إنَّ الله لمْ يجعلْ لعملِ المؤمنِ أَجلاً دونَ الموتِ ثُمَ قرأ: ( واعبد ربك حتى يأتيكَ اليقينُ ) " ويقول عليه الصلاة والسلام: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله...الحديث" فليس للعبادةِ والاستقامةِ تاريخُ صلاحيةٍ أو أوانُ انقطاعٍ أو زمنُ نهايةٍ، قبلَ أَنْ تضعَ الروحُ عصى الترحالِ، أو تُسلِمَ الحالَ إلى باريها. يقولُ اللهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30].
هكذا يكونُ المسلمُ مستمراً مداوماً متابعاً لا يروغُ روغانَ الثعالب.
أولئكَ الذينَ يعبدونَ اللهَ شهراً ويهجرونَ العبادةَ أشهراً، أو يعبدونَ اللهَ في مكانٍ ثُمْ يَقلِبونَ العبادَةَ إلى معصيةٍ في مكانٍ آخر، أو يعبدونَ اللهَ مع قومٍ وإذا رَحلواْ معَ قومٍ آخرينَ أو خَالطوا أقواماً آخرينَ تركوا العبادةَ، بلِ المسلمُ يعبدُ ربَهُ في رمضانَ وفي سائرِ الشهورِ، وفي مكةَ وفي بلادِ الإسلامِ وغيرِها، ومعَ المسلمينَ ومعَ غيرِهِم، فربُّ الأزمنةِ واحدٌ وربُّ الأمكنةِ واحدٌ وربُّ الأقوامِ واحدٌ.
فالمقصودُ مِنَ المسلمِ المؤمنِ المداومةُ على العملِ والاستمرارُ على الطاعةِ حتى يلقى اللهَ ثابتاً عليها، وليقلْ المؤمنُ المستقيمُ:
اليومَ ميلاديْ الجديدُ وما مضـى * موتٌ بليـتُ بـهِ بليـلٍ داجِ
أَنا قدْ سريتُ إلى الهدايةِ عَارِجاً * يا حُسنَ ذا الإسراءِ والمعراجِ
لا بدَ من المضي على الخيرِ والصلاحِ الذي عَمِلنَاهُ في رمضانَ. قالَ اللهُ تعالى: (فاستقمْ كما أمرتَ ومنْ تابَ معكَ ولا تطغوا) وقال تعالى: (فاستقيموا إِليهِ واستغفرُوْه) وقالَ النبيُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ لرجلٍ جاءَهُ يطلبُه النصيحة ويستهديهَا ويستمحِضُهَا: "قلْ آمنتُ بالله ثم استقم" ليسَ في الدينِ راحةٌ أو إجازةٌ أو انقطاعٌ، قيلَ للإمامِ أحمدَ -رَحِمهُ اللهُ- يا إمامُ: متى الراحةُ؟ قالَ: عندَ أولِ قدمٍ نضعُهَا في الجنةِ.
أيهَا المسلمُ المباركُ: تخيلْ تاجراً جمعَ أموالاً وعقاراً ودُنياً وهوَ في جَمعِهَا مجدٌ ومجتهدٌ ناصبٌ؟ ثم لما بلغَ قمةَ الهرمِ واستوفى العزةَ والجاهَ والنوالَ فتحَ الخزائنَ للسُراقِ وتركَهَا للقوارض والعوادي دونمَا حِفظٍ أو حِراسةٍ أو مُلازمةٍ، إذنْ تضيعُ أموالُه وأملاكُه التي ربحَهَا لأنهُ مَا حَافظَ عليهَا.
فكذلكَ مَنْ اكتسبَ أعمالاً وطاعاتٍ وحسناتٍ في رمضانَ إذا لم يحرُسَها بالاستقامةِ ويلازمها بقفلِ المداومَةِ ويَجْعَلْها في حرزِ الاستمرارِ ضاعتْ وأصبحتْ هباءً منثوراً عياذاً بالله.
وهلْ عَلمتَ تاجراً يشقُ كيسَ دراهِمِه فكذلكَ الصائمُ عِند ما يشقُ كِيسَ حسناتِهِ بالتفريطِ والتضييعِ، ولقدْ أَضاعَ رمضانَ أقوامٌ بمجردِ زوالِ آخِرِ لحظةٍ منهُ، بعضُهُم استقبلَ العيدَ مودعاً لكلِ خيرٍ ألفهُ ولكلِ عملٍ صالحٍ عَمِلَهُ وبعضُهم ودعَ رمضانَ بالمعصيَةِ، أولئك الذينَ خسروا وخَابوا وربِّ البيت.
فما بالُ الكثيرين أخذوا ينصرمونَ وينصرفونَ عن صالحِ الأعمالِ بعد انصراف رمضان، كثيرٌ من الناسِ الآنَ ضَعُفَ وغابَ عَنْ صيامِهِ وقراءتِهِ وجدِه واجتهادِه.
فمَا بالُ أقوامٍ يقبلونَ في رمضانَ على الطاعةِ والبرِ فإذا انسلخَ رمضانُ انسلخوا مِنْ كُلِ شيءٍ، وبئسَ القومُ الذينَ لا يعرفونَ اللهَ إلا في رمضانَ.
أينَ الذين عمروا المساجدَ في رمضانَ، وازدحموا في ليلةِ سبعٍ وعشرينَ وختمِ القرآن، أين الأصواتُ المدويةُ بتلاوةِ التالينَ، أينَ الذينَ تكاثروا على المساجدِ والمراكزِ الخيريةِ آداءً للزكاةِ ودفعاً لصدقة الفطرِ هل زاغتْ عنهم الأبصارُ أو تخطفهم طيورٌ مِنَ السَماءِ أم حلتْ بِهم قارعةٌ في الديار أم أصابتهم نازلةٌ أقعدتهُم على الفُرُشِ أم أصابتهُمْ سِهامُ المنايا فجعلتهم جثثاً هامدةً.
نعوذُ باللهِ منَ العمى بعدَ البصيرةِ ومن الضلالِ بعد الهدى، وإن تلْكُمْ لمأساةٌ كُبرى وخسارةٌ عظمى أنْ يبنيَ الإنسانُ ثم يهدم وأَنْ يستبدلَ الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ.
فيا أيها الصائمونَ القائمونَ الداعونَ المتصدقونَ في رمضانَ لا ترجِعُوا بعدَ الجماعةِ في المسجدِ إلى الصلاةِ في البيوتِ فُرادى، ولا بعدَ القيامِ مع الإمامِ في الصلاةِ إلى القيامِ على الشاشةِ والسهرِ الحرامِ.
فحذارِ حذارِ مِنَ النكوصِ على الأعقابِ، حذارِ -يا عبد الله- بعدَ أَنْ كنتَ في عدادِ الطائعينَ وحزبِ الرحمنِ المفلحينَ، فأُسبِلَ عليكَ لباسُ العفوِ والغفرانِ أَنْ تخلَعهُ بالمعصيةِ فتكونَ من حزبِ الشيطانِ.
إننا نقولُ لِمنْ صاموا وقاموا وتصدَقُوا وصلوا العيدَ كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم). لا تبطلوا صيامَكُم وقيامَكُم ودعاءَكُم وإنفاقَكُم في رمضانَ بتركِ الطاعةِ فيما بعدَه؟! فكما أَنَّ الحسناتِ يذهبنَ السيئاتِ فكذلكَ السيئاتُ تقضي على الحسناتِ.
قال تعالى: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً) قال السُديُ رحمه الله: "هذه امرأةٌ خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه", وقال مجاهدٌ وقتادةٌ عليهما رحمة الله: "هذا مَثَلٌ لمن نقض عهده بعد توكيده", وهذا القول أرجح وأظهر سواءٌ كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا، وهذا مَثَل العمل الذي لا يكون له ثمرة ولا نتيجة إلا التعب والنصب.
فإياكم عباد الله: أن تكونوا من القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان ولا يرتادون المساجد إلا في بعض الأحيان
قيل لبشر الحافي: "إن قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان، فقال بئس القوم قومٌ لا يعرفون لله حقاً إلا في رمضان إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كُلَّها"، وسئل الشبليُ رحمه الله: "أيُما أفضل رجب أو شعبان؟ فقال كن ربانياً ولا تكن شعبانياً".
أبعد عمل الصالحات وكسب الحسنات في شهر رمضان شهر البركات ينقلب البعض على عقبيه فيعود إلى شهواته مرةً أخرى فيعب منها عباً وينغمس فيها انغماساً فلا يمضي عليه قليل من الوقت حتى تتضاعف سيئاته وتكثر أخطاؤه وخطاياه، فمن الناس من يترك الصلاة ويهجر المساجد ومنهم من يطلق لشهواته العنان ويفسح لها الميدان ومنهم من يمسك عن فعل البر والإحسان وقراءة القرآن كأن رمضان وحده هو شهر الطاعة والعبادة وسجن المعصية والرذيلة حتى إذا ما انتهى رمضان تحكمت في بعض الناس الرذائل وتولى قيادتهم الشيطان وما أولئك بالمؤمنين (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم).
أيها التائب الآيب في رمضان استمر على توبتك وابك على ذنبك؟!! هذا السكيرُ الذي استطاع أن يهجر الخمر ثلاثين يوماً وثلاثين ليلة فزكا قلبه وامتلأ جيبه وصح بدنه لماذا لا يواصل العيش بعد رمضان على هذا المنوال والمنهاج وقد علم بالتجربة والاختبار أن هذا الهجر قد نفعه ولم يضره وتيسر له ولم يتعسر عليه؟
وهذا المدخن الذي ترك التدخين ثلاثين يوماً فأراح صدره وسكّنت أعصابه وقويت شهيته لماذا لا يستمر صائماً عنه ليله ونهاره وقد رأى أن في طاقته الاستغناءَ عنه والحياةَ بدونه!!
وأعلم أيها التائب المقلع عن الذنب النادم على التفريط أن من ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لئن انتهى موسمُ رمضانَ وانقضى موسمُ الدعاءِ والقيامِ فبين أيدِينا مواسمُ متعددةٌ وفرصٌ متواليةٌ..
بين أيدِينا موسمٌ يتكررٌ في اليومِ والليلةِ خمسَ مراتٍ الصلواتُ الخمسُ، فهلْ حافظنا عليها، يقول جل ذكره: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238], و عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نورٌ ولا برهانٌ ولانجاةٌ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف " رواه أحمد والطبراني وابن حبان، وقال الفاروق عمر رضي الله عنه: "لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة".
ولئن انتهى قيام رمضان فإن القيام بحمد لله لا ينتهي فهناك الوتر والتهجد وقيام الليل قال تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) [الإسراء:79], ويقول عليه الصلاة والسلام: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" رواه مسلم.
بين أيدِينا لحظاتُ الأسحارِ حينَ يقومُ الإنسانُ الليلَ.. بين أيدِينا ساعةُ الإجابةِ في ثلثِ الليلِ الأخيرِ، بين أيدينا موسمٌ أسبوعيٌ وهو صلاةُ الجمعةِ "وفيهِ ساعةٌ لا يوافِقُهَا عبدٌ مسلمٌ يسألُ اللهَ شيئاً إلا أعطاهُ إياه"..
ولئن انتهى صيام رمضان فإن الصيام بحمد الله لا ينتهي فبين أيدِينا صيامُ البيضِ والاثنينِ والخميسِ قال صلى الله عليه وسلم: "إن الأعمال تعرض فيها على الله، وأحبُّ أن يُعرض عملي وأنا صائم" رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه الألباني في الإرواء، وأوصى صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله عنه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقال: "صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله" متفق عليه..
فرصٌ ومواسمٌ. لكن أينَ المغتنمونَ، أينَ المستثمرونَ.
عباد الله: وإنَّ مِنْ متابعةِ الإحسانِ بعد رمضان صيامُ الستِ من شوالَ ندبنا إليها رسولُنا صلى الله عليه وسلم كما في صحيحِ مسلمٍ عَنْ أبي أيوبَ الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صامَ رمضانَ وأتبعهُ ستاً مِنْ شوالَ كانَ كصيامِ الدهرِ كُلهِ"، ووجه ذلك أَنّ الله يجزي على الحسنةِ بعشرِ أمثالِهَا فصيامُ رمضانَ مضاعفاً بعشرةِ شهورٍ وصيامُ الستِ بستينَ يوماً فحصلَ منْ ذلِكُمْ أجرُ صيامِ سنةٍ كاملةٍ.
ووقتها في شوالَ، وهي مستحبةٌ وغيرُ واجبةٍ، ويصحُ صَومُهَا متفرقةً في أول الشهر ووسطه وآخره، والأَولى المبادرةُ بالقضاءِ قبلَ صيام الستِ، قال تعالى: (وعجلت إليك رب لترضى)
أيها المسلمون: هاهي الأمة تودّع رمضان، لكنها لم تودِّع مآسيها الدامية وآلامها المبرحة، وهي تمر اليوم بمحن عظيمة، وجراح عميقة، ترى جراحها في فلسطين وفي العراق وفي الصومال وفي مواقع أخرى ملتهبة، حربٌ صليبية شرسة لتنحية الإسلام، وتجفيف منابعه من أعداء الإسلام، متجاوزين كل الحدود والأعراف حيث دماء المسلمين أزهقت ونساؤهم رملن واغتصبن وأطفالهم يتموا.. كل ذلك لأنهم يقولون لا إله إلا الله: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج:8].
لقد امتُحنت الأمة بصنوف المكر وأثقال المصائب، وكان بعض ذلك كافياً للقضاء على غيرها من الأمم إلا أن قوة العقيدة والإيمان ينابيع عذبة تتجدد رغم المصاعب، وأن الغد المأمول لهذه الرسالة، والواجب على المسلمين نصرة قضايا أمتهم، والتحلي بالصبر وضبط النفس، والإخلاص في الدعاء، والاستعانة بالله أمام العواصف العاتية حتى تنقشع الغمة وينكشف الكرب، (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر:17].
اللهم انصر الإسلام والمسلمين واحم حوزة الدين وانصر عبادك المجاهدين.. اللهم ثبتنا بالقول الثابث في الحياة الدنيا وفي الآخرة, ربنا لا تزغْ قلوبنا بعدَ إذْ هديتنا وهبْ لنا مِنْ لدنكَ رحمةً إنكَ أنتَ الوهابُ, اللهم يا مقلبَ القلوب ثبتْ قلوبنا على دينكَ، اللهم يا مصرفَ القلوب والأبصارِ صرفْ قلوبنا على طاعتكَ،اللهم اجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله. اللهم إنا نسألك الثباتَ والاستقامةَ في رمضانَ وبعدَ رمضانَ، اللهم أعدْ علينا شهرَ رمضانَ أعواماً عديدةً وأزمنةً مديدةً يا ربَّ العالمينَ.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...