الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | عبد الملك بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التوحيد |
والقلب إذا كان ممتلئًا من الله مغمورًا بذكره، وله من الدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به، يطابق فيه قلبه لسانه - كان سالمًا بإذن الله من إصابته بالسحر والعين والمس والأمراض والبلايا، والمسلم إذا استعاذ بالله يستعيذ بمن هو المولى ونعم النصير
الحمد لله الذي رفع راية التوحيد، ونصر عباده الموحدين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أرسله الله كافة إلى الناس أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا -عباد الله-: اتقوا ربكم، فإن تقواه خير عاصم من القواسم، وخير مانع من المصارع والقوامع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المسلمون: خلق الله العباد على الحنيفية السمحة، وجبلهم على الفطرة النقية والشيطان عدو الإِنسان يقعد لهم الصراط المستقيم، ويأتيهم من كل جهة وسبيل، حتى اجتال من شاء الله منهم، فكبت عقولهم وأصابتها لوثات وعلل.
آمن بعضهم بالخرافة، ورضي آخرون بالكهانة، فباتوا سادرين على باطلهم، لاهين بالسجع والتخمين، يقذفون بالغيب في كل حين، أخبارهم أساطير وأوهام، وخليط كلام، والإسلام دين يزيل الخرافة من الفكر، والرذيلة من القلب، وقد ضل بعض الناس فلم يقفوا عند حدود ما أخبرتهم به الرسل من غيوب ماضية وحوادث قادمة.
ولما هُجر التوحيد -من البعض- علمًا وتعلمًا وإرشادًا وتذكيرًا، ضعف الإيمان وكثرت الشركيات، ومع التوسع في أمور الحياة إعلامًا وسفرًا واستقدامًا، غشي كثير من الناس جوانب مخلة بالتوحيد، استشرت وانتشرت حتى عمَّت وطمَّت، ومن أبرزها وأوضحها إتيان السحرة والكهان، وزيارة المشعوذين والدجالين.
وقد ابتُلي بعض الناس بكثير من الأخطاء الفادحة، ومن ذلك: ضعف التوكل على الله -عز وجل- حين نزول البلاء والغفلة عن الدعاء، وترك الحبل على الغارب لمراجعة الأطباء الشعبيين، وأكثرهم من أهل الدجل والشعوذة.
أيها المسلمون: إن السحر والكهانة من كبائر الذنوب المحرمات، ومن الآثام الموبقات، وإن الساحر والكاهن يفتن قلوب البسطاء، ويخدع السذج والرعاع، عمله شر وبلاء، يتجافى عنه أولو الألباب، وينأى عنه أصحاب الفطر السليمة، والقلوب المستنيرة، يقول عز وجل: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات: 52] فجميع الأمم واجهت رسلها بهذه المقالة الظالمة.
والسحر: عزائم ورقى وكلام يُتكلم به، وأدوية وتدخينات وغير ذلك؛ وهو شرك أكبر مناف للتوحيد مُحرم في جميع الأديان، لا يُتوصل إليه إلا بعبادة الشياطين والتقرب إليها، وشره عظيم على المجتمع، فكم قتل السحر من أناس، وأمرض آخرين وذهب بعقولهم، وفرق بين زوج وزوجته، وسبب العداوة والبغضاء بين أفراد الأسرة الواحدة، وهذا كله فساد وظلم وعدوان، قال تعالى: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) [طه: 69]
وصدق الله، فأحوال السحرة دنيئة، وأفعالهم رديئة، والساحر لو كان له من الأمر شيء لنفع نفسه، ورفع ما ينزل به من بلاء أو أمراض، ولاستكثر من الخيرات، ونال رفيع الدرجات، ولكن كل ذلك بتقدير العزيز العليم.
ومن الأدلة على تحريم السحر: قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ) أي: قد علم اليهود أن من رضي بالسحر عوضًا عن شرع الله ما له في الآخرة من حظ ولا نصيب؛ لأنه باع دينه بدنياه، وهذا من أبلغ الوعيد، إذ الآية الكريمة دالة على تحريمه.
وفي قوله تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) قال عمر -رضي الله عنه-: "الجبت: السحر؛ والطاغوت: الشيطان، وقد ذم الله -سبحانه- في الآية اليهود الذين يصدِّقون بالجبت الذي منه السحر".
وقال جابر -رضي الله عنه-: "الطواغيت: كُهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد". فبين -رضي الله عنه-: أن الكهان تتنزل عليهم الشياطين، ويخبرونهم بما يسترقون السمع من السماء، فَيَصْدقُون مرة ويكْذبُون مائة كذبة، ويزيدون وينقصون، وقد كان لكل قبيلة من قبائل العرب كاهن يتحاكمون إليه قبل بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فأبطل الله ذلك بالإِسلام، وحُرست السماء بكثرة الشهب.
وفي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: وما هن يا سول الله؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" رواه البخاري ومسلم.
هذه -يا عباد الله-: سبع مهلكات موبقات لفاعلها، يترتب عليها عقوبات في الدنيا وعذاب في الآخرة؛ ولهذا حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوقوع فيها وأمر بالابتعاد عنها:
الأولى: الشرك بالله؛ بدأ -صلى الله عليه وسلم- بالشرك؛ لأنه أعظم ذنب عُصي الله به، وهو: تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، كمن يستغيث بأصحاب القبور ويذبح لها وينذر لها، وفاعله مُخلد في النار إن مات ولم يتب، كما قال تعالى: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا للظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة: 72] وقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]
ولما سُئل -عليه الصلاة والسلام-: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك" متفق عليه.
الثانية: السحر؛ وقد ذكره -صلى الله عليه وسلم- بعد الشرك؛ لكونه يُكَفِّرُ متعاطيه، فلا يتوصل إليه إلا بعبادة الشياطين والتقرب إليها بالذبح والدعاء والاستغاثة، والسحر يجمع الموبقات الخمس التي بعده، والموبقات التي بعد السحر في كل نوع منها نوع من الاعتداء، إما على النفس، أو المال، أو العرض، أما السحر فإن فيه اعتداء على كل هذه الأشياء فضلاً عن اعتدائه على حق الله بإشراك غيره معه.
الثالثة: من الموبقات: قتل النفس المسلمة المعصومة التي حرم الله قتلها إلا أن تفعل ما يوجب قتلها، ويدخل في ذلك تحريم قتل الكافر المعاهد لحديث -صلى الله عليه وسلم-: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة" رواه البخاري.
الرابعة: أكل الربا؛ أي: تناوله بأي وجه كان، وقد "لعن -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا، وموكله وشاهده وكاتبه"، قال ابن دقيق العيد: "وهو مجرب لسوء الخاتمة" نعوذ بالله من ذلك.
الخامسة: أكل مال اليتيم؛ والتعدي فيه، وعُبر بالأكل، لأنه أعم وجوه الإِنتفاع، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء: 10]
السادسة: التولي يوم الزحف؛ وهو الفرار والإِدبار من وجوه الكفار يوم الزحف والقتال، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة المسلمين، أو غير متحرف لقتال، كما قال تعالى: (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ) [الأنفال: 16]
السابعة: قذف المحصنات الغافلات، أي: رمي المؤمنات الحرائر والعفيفات البريئات بفاحشة الزنا ولا تختص بالمتزوجات، بل حكم البكر كذلك، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 23]
هذه -عباد الله- الموبقات السبع التي يجب الحذر من فعلها؛ لأنها من كبائر الذنوب، وتوجب غضب الرب -جل وعلا-، ومن وقع في شيء منها؛ فالبدار البدار للتوبة قبل خروج الروح إلى بارئها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 102]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله دل على الحق ورفعه، ونهى عن الباطل ووضعه، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، لا مانع لما أعطاه ولا معطي لما منعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حاز من الفضل والشرف أكمله وأجمعه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتبعه.
أما بعد:
عباد الله: إن خطر السحر عظيم؛ لذا كان حد الساحر القتل، لعظم كبيرة السحر وشرها على المجتمع، عن جندب مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حد الساحر ضربه بالسيف" رواه الترمذي.
وفي صحيح البخاري، عن بجالة بن عبدة، قال: "كتب عمر بن الخطاب
-رضي الله عنه- أن اقتلوا كل ساحر وساحرة"، قال: فقتلنا ثلاث سواحر".
وصح عن حفصة -رضي الله عنها-: "أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقُتلت". وأنفع علاجات السحر، الأدوية الإِلهية، فهي أدويته النافعة، والسحر من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية، ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات، التي تبطل فعلها وتأثيرها.
والقلب إذا كان ممتلئًا من الله مغمورًا بذكره، وله من الدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به، يطابق فيه قلبه لسانه - كان سالمًا بإذن الله من إصابته بالسحر والعين والمس والأمراض والبلايا، والمسلم إذا استعاذ بالله يستعيذ بمن هو المولى ونعم النصير.
وقد علمنا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- التحصُّن بالأوراد الشرعية والأدعية النبوية، ومنها:
قراءة المعوذات ثلاث مرات في الصباح والمساء وعند النوم، وكذلك قراءة آية الكرسي في الصباح والمساء، وقراءة الآيتين من آخر سورة البقرة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" أي: كفتاه من كل شر، رواه البخاري.
وقول: "باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم" ثلاث مرات في الصباح والمساء. رواه أبو داود.
وقول: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" ثلاث مرات في الصباح والمساء رواه أبو داود.
الثاني من سبل الوقاية من السحر: أكل سبع تمرات من تمر العجوة على الريق صباحًا، لقوله -صلى الله عليه وسلم: "من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" رواه البخاري ومسلم.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- تعليقًا على هذا الحديث: "وفي رواية: "مما بين لابتيها" يعني من جميع تمر المدينة، العجوة وغير العجوة كما رواه مسلم في الصحيح، ويرجى أن ينفع الله بذلك التمر كله، لكن نص على المدينة لفضل ثمرها والخصوصية فيه، ويرجى أن الله ينفع ببقية التمر إذا تصبح بسبع تمرات".
أسأل الله -عز وجل- لي ولكم العافية والسلامة في الدنيا والآخرة.
هذا، وصلوا وسلموا.