الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إنه عندما نحسن الظن بالله، ونحسن العمل، فإن الله سبحانه وتعالى سيجري الأسباب، ويقدر الأقدار؛ ليحفظ العبد، ويدفع عنه كل بلاء، ويبارك في رزقه وأهله ومجتمعه...
الحمدُ لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضَّالون، لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون، أحمدهُ سبحانه على نعمه الغزار، وأشكره وفضله على من شكر مدرار، لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته.
يا ربي حمداً ليس غيرُك يُحمد | يا من له كل الخلائق تصمدُ |
أبواب كلُ الملوكِ قد أوصدت | ورأيت بابك واسعاً لا يوصدُ |
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار، المبعوث بالتبشير والإنذار، صلى الله عليه وسلم صلاة تتجدد بركاتها بالعشي والإبكار، وعلى آله وأصحابه الأبرار.
أما بعد:
عباد الله: يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى : 28].
يقرأ المسلم هذه الآية، فيشاهد في مخيلته حال الناس، وجزعهم على أنفسهم، وذراريهم وأنعامهم وحرثهم، وقد جف الضرع، وماتت الأرض، وسط رمضاء محرقة، وقيظ قاتل، وجفاف شديد.
وقد رغبوا إلى الله، وضجوا بالدعاء حتى تقطعت بهم الآمال، وأيقنوا بالبوار والهلاك، وإذا بالغيث يفجؤهم من السماء مدرارا، ناشرا آثار رحمة الله في فجاج الأرض وشعابها ؛ لتحيى الأرض والنفوس والأرواح، بعد يأسها وموتها، وكم هو جميل أن تختم الآية باسمي الله: "الولي الحميد"، فهو سبحانه ولي العباد وحده, الذي تكفل بهم وتولى أمرهم في كل آن.
ولذلك كان وحده المستحق للحمد في كل حال، والمسلم مهما واجه في هذه الحياة من مصائب وفتن وابتلاءات، وكثرت مشاكله، وتوالت عليه الهموم والأحزان، وتكدر صفو حياته، وتطرق اليأس إلى قلبه، لابد أن يلجأ إلى الله، ويحسن الظن به، ويثق بقوته وقدرته، ورحمته وحكمته، ويعتقد المسلم أن كل شيء في هذا الكون لا يقع إلا بأمر الله لحكمة هو يعلمها، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة:155-157].
وهو القادر وحده سبحانه وتعالى على تبديل الظروف، وتغيير الأحوال.
دع المقادير تجري في أعنتها | ولا تنامن إلا خالي البال |
ما بين غمضة عين وانتباهتها | يغير الله من حال إلى حال |
فأحسن ظنك بالله، وعلِّق رجاءك به، وإياك وسوء الظن بالله، فإنه من الموبقات المهلكات، قال تعالى: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً)[الفتح:6].
وفي الحديث القدسي الذي يرويه البخاري ومسلم: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".
فتأمل ما أرحمه وما أعدله سبحانه.
هذا هود عليه السلام يواجه أعتى جبابرة الأرض، الذين وصفهم الله تبارك وتعالى بالقوة، ويقف في وجههم، يقول بثقة المطمئن إلى نصر الله وتوفيقه، الذي يحسن الظن بربه، وأنه لن يخذله مهما كان جبروتهم وطغيانهم: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [هود: 55 – 56].
عباد الله: إن حسن الظن بالله؛ دفع الفتية أصحاب الكهف الذين خالفوا القريب والبعيد في سبيل مرضاته سبحانه، ففارقوا أقرب الناس فرارا إلى الله، وطلباً لرضاه، وخوفاً على دينهم، من الشرك والفسوق والعصيان.
واستبدلوا لأجل مرضاته ضيق الكهف بسعة العيش الرغيد، فما كان إلا أن وسعه الله عليهم بما نشر لهم فيه من رحمته: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً)[الكهف: 16].
وتأملوا قوله تعالى: (يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته) فيعلم العبد أن رحمة الله واسعة، إذ بعضها، أو قدر معلوم عند الله منها؛ يكفي ليجعل ذلك الكهف، أو ذلك السجن، أو تلكم الزنزانة جنة، أو روضة من رياض الجنة.
فلنحسن العمل، ولنحسن الظن بالله، قال بن القيم رحمه الله : "الدرجة الخامسة -أي من درجات التوكل- حسن الظن بالله عز وجل، فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه" [تهذيب مدارج السالكين، ص 240 ].
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- يقول: "والذي لا إله غيره ما أُعطي عبد مؤمن شيئاً خير من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله عز وجل الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه؛ ذلك بأن الخير في يده".
وكان سعيد بن جبير يدعوا ربه، فيقول: " اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك".
وانظروا إلى حسن الظن بالله والثقة به والتوكل عليه، فقد أمر الله أم موسى عليه السلام أن تلقي ولدها الرضيع، وفلذة كبدها، إذا خافت عليه من فرعون وجنوده أن يقتلوه في النهر، تتلاطمه الأمواج، وتعصف به الرياح، لا تدري كيف حاله، وفي أي أرض يستقر، وأي خطر قد يصيبه، لكن حسن الظن بالله جعلها تثق به سبحانه وتعالى، أي أمرٍ عجيب هذا!!.
قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)[القصص:7].
وجرفته المياه والأمواج إلى قصر فرعون، وتربى في قصره، واتخذوه ولدا، وبحثوا له عن مرضعة، فعاد إلى أمه، قال تعالى: (فرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[القصص: 13].
قال ابن القيم رحمه الله: "فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله -تعالى-، إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء، تتلاعب به أمواجه، وجريانه إلى حيث ينتهي أو يقف"[مدارج السالكين(2/142)].
أيها المؤمنون -عباد الله-: ومع حسن الظن بالله، وأنه قادر ورحيم، وأنه لا يرضى لعباده إلا كل خير، وأنه بقوته وقدرته سيدفع عنهم كل شر ومكروه؛ لابد أن نحسن العمل، فنحافظ على الفرائض الشريعة كالصلاة وغيرها، ونؤدي الحقوق والواجبات، ونتحرى في ذلك الإتقان في الأعمال والإخلاص لله فيها، قال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)[الأنعام: 162-163].
ويجب علينا كذلك أن نزكي أنفسنا بالأخلاق الفاضلة، والسلوك الحسن، فنتجنب الخوض في الباطل، والفساد في الأرض، والظلم بجميع صوره، والاعتداء على الأموال والأعراض والحرمات، الأمر الذي يؤدي إلى سفك الدماء، وإزهاق الأرواح، ونشر الفوضى، وإشاعة الخوف، وإقلاق السكينة العامة، وتعطيل مصالح الناس.
وما قيمة أحدنا إذا كان معول هدم في المجتمع، ومفتاحا للشرور؛ إنه عند ذلك سيخسر الدنيا والآخرة، ويسقط من رحمة الله، ولن ينفعه بعد ذلك مال ولا جاه، ولا منصب ولا أتباع؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : "إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ" [سنن ابن ماجه (237)، والسُّنة لابن أبي عاصم (297)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1332)].
فكونوا مفاتيح للخير؛ بأعمالكم حتى ينتفع مجتمعكم وأمتكم والناس من حولكم، بقيامكم بالإصلاح بين الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الأمن والأمان والسكينة، وإرساء قواعد الحب والتآلف والتراحم فيما بينكم.
كونوا مفاتيح للخير؛ ببذل المعروف، وكف الأذى، ونشر الخير.
إنه عندما نحسن الظن بالله، ونحسن العمل، فإن الله سبحانه وتعالى سيجري الأسباب، ويقدر الأقدار؛ ليحفظ العبد، ويدفع عنه كل بلاء، ويبارك في رزقه وأهله ومجتمعه.
نسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يهدينا سبيل الرشاد.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: ومن حسن الظن المأمور به شرعا، حسن الظن بإخوانك المسلمين؛ فهو خلق تربى عليه الأولون، و سار عليه من بعدهم الصالحون، صلحت نياتهم فصلحت أفعالهم وظنونهم، علموا أن الشيطان لا يفتأ يحرش بينهم، يزعزع أمنهم واستقرارهم، ويقض مضاجعهم؛ فدفعوا وسوسته بقوة إيمانهم بالله، وحسن اتباعهم لمنهج رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن حسن الظن يؤدي إلى سلامة الصدر، وتدعيم روابط الألفة والمحبة بين أبناء المجتمع، فلا تحمل الصدور غلاًّ ولا حقدًا امتثالاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا".
وعليه فلا يجوز لإنسان أن يسيء الظن بالآخرين لمجرد التهمة أو التحليل لموقف، ومهما كان الاختلافات في وجهات النظر، فإن هذا عين الكذب: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" [رواه البخاري].
وقد نهى الرب جلا وعلا عباده المؤمنين من إساءة الظن بإخوانهم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12].
وما ذاك إلا لأن سوء الظن سيئة كبيرة، موقعة لكثير من المنكرات العظيمة؛ إذ هو ذريعة للتجسس، كما أنه دافع إلى الوقوع في الغيبية المحرمة: (وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا)[الحجرات: 12].
فلنتعلم جميعاً حسن الظن مع بعضنا البعض، وننشر ثقافة الحب والتسامح، ولنتخلص من الأنانية والأحقاد، ولنتجه جميعاً إلى العمل الصالح الذي ينفع صاحبه، ويعود خيره وبره وبركته على المجتمع والأمة.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
هذا، وقد أمركم ربكم، فقال قولاً كريماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.