المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | محمد بن حسن المريخي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
الاستغناء عن الناس بالكسب الحلال شرف عالٍ، وعز منيف. إن في طلب المكاسب وصلاح الأموال سلامة الدين، وصون العرض، وجمال الوجه، ومقام العز...
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً يحبه ربنا ويرضاه، وأحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمه وعطاياه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخليله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم نلقاه.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله ربكم بامتثال الشرع، والعمل بالدين، والبعد عما حرم وزجر عليه، واتقوا الله فإن التقوى خير معين للعبد في دنياه، وخير زاد ليوم المعاد، إنها أمان للنفوس، وراحة للقلوب، ورحمة للعباد.
أيها المسلمون: كسب الأرزاق وطلب العيش أمر حث عليه الشرع، فالله جعل النهار معاشاً، وجعل للناس فيه سبحاً طويلاً، أمرهم بالسعي والمشي في مناكب الأرض ليأكلوا من رزقه.
وقرن سبحانه بين المجاهدين في سبيله، وبين الساعين في أرضه يبتغون من فضله، فقال: (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [المزمل: 20].
وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه "ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده" (رواه البخاري)، وقال بعض السلف: "إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة".
ومما يروى عن عيسى -عليه السلام-: أنه رأى رجلاً فقال: "ما تصنع؟ قال: أتعبد، قال: ومن يعولك؟ قال: أخي، قال: وأين أخوك؟ قال: في مزرعة، قال: أخوك أعبد لله منك".
وعندنا في الإسلام ليست العبادة أن تصف قدميك وغيرك يسعى في قوتك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبّد.
والاستغناء عن الناس -أيها الإخوة- بالكسب الحلال شرف عالٍ، وعز منيف، حتى قال الخليفة المحدث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إليّ من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري".
ومن مأثور حكم لقمان: "يا بنيّ استعن بالكسب الحلال عن الفقر فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته".
إن في طلب المكاسب وصلاح الأموال سلامة الدين، وصون العرض، وجمال الوجه، ومقام العز.
ومن المعلوم -أيها الأحبة- إن المقصود من كل ذلك الكسب الطيب؛ فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين، فقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51]، وقال عز شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172].
ومن أعظم ثمار الإيمان: طيب القلب، ونزاهة اليد، وسلامة اللسان، والطيبون للطيبات والطيبات للطيبين.
ومن أسمى غايات رسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلمَ-: أنه يحل الطيبات، ويحرم الخبائث، وفي القيامة يكون حسن العاقبة للطيبين: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 28]، وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "من أكل طيباً وعمل في سنّة وأمن الناس بوائقه" (يعني شره) دخل الجنة" (رواه الترمذي)، وأخرج أحمد وغيره بأسانيد حسنة عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أنه قال: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة".
أيها المسلمون: إن طلب الحلال وتحريه أمر واجب، وحتم لازم، ف "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟".
إن حقاً على المسلم أن يتحرى الطيب من الكسب والنزيه من العمل ليأكل حلالاً، وينفق في حلال.
انظروا -رحمكم الله- إلى خليفة رسول الله أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- يأتيه خادمه بشيء من الأكل، ثم يقول له: أتدري من أين هذا الأكل؟ اشتريته من مال حصلت عليه في الجاهلية كذبت على رجل وخدعته بأن فسرت له حادثة أو قضية كذباً وخديعة، فأعطاني هذا المال، فاشتريت منه هذا الذي أكلت، فأدخل أبو بكر أصبعه في فمه وقاء واسترجع كل شيء في بطنه، وقال: "لو لم تخرج هذه اللقمة إلا مع نفسي لأخرجتها"، وقال مخاطباً ربه: "اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء" (رواه البخاري).
وهذا عمر -رضي الله عنه-: "يشرب لبناً فيعجب به فيسأل عنه فيخبره الذي سقاه أنه مرّ بإبل الصدقة، وهم على ماء فحلبها وجاء به إليه فأدخل عمر يده واستقاء؛ لأنه شرب من إبل الصدقة المعدة للصدقة من قبل أهل الزكاة".
وتقول زوجة صالحة توصي زوجها: "يا هذا اتق الله في رزقنا فإننا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار".
أولئك هم الصالحون يخرجون الحرام، والمشتبه من أجوافهم، وقد دخل عليهم من غير علمهم، وخلفت من بعدهم خلوف يعمدون إلى الحرام ليملئوا به بطونهم وبطون أهليهم.
أيها المسلمون: أرأيتم الرجل الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له؟" (رواه مسلم)، هذا الرجل استجمع من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة ما يدعو إلى رثاء حاله، ويؤكد شدة افتقاره؛ تقطعت به السبل، وطال عليه السير، وتغربت به الديار، وتربت يداه، أشعث رأسه، واغبرت قدماه، وكان قاب قوسين أو أدنى لاستجابة دعواه، ولكنه قطع صلته بربه، وحرم نفسه من مدد مولاه، فحيل بين دعائه والقبول، أكل الحرام، واكتسى من حرام، ونبت لحمه في حرام، فردت يداه خائبتين.
بربكم ماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحجب دعاؤه، وحيل بينه وبين الرحمة؟ لمثل هذا قال بعض السلف: "لو قمت في العبادة قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك".
وإن العجب كل العجب -أيها الإخوة- ممن يحتمي من الحلال مخافة المرض، ولا يحتمي من الحرام مخافة النار.
إن أكل الحرام -يا عباد الله- يعمي البصيرة، ويوهن الدين ويضعفهن ويقسي القلب، ويظلم الفكر، ويقعد الجوارح عن الطاعات، ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويحجب الدعاء، ولا يتقبل الله إلا من المتقين.
إن للمكاسب المحرمة آثاراً سيئة على الفرد والجماعة؛ تنزع البركات، وتفشو العاهات، وتحل الكوارث، أزمات مالية مستحكمة، وبطالة متفشية، وتظالم وشحناء.
أيها المسلمون: ويل للذين يتغذون بالحرام، ويربون أولادهم وأهليهم على الحرام؛ إنهم كشارب ماء البحر كلما ازدادوا شراباً ازدادوا عطشاً، شاربون شرب الهيم، لا يقنعون بقليل، ولا يغنيهم كثير، يستمرؤون الحرام، ويسلكون المسالك المعوجة، رباً وقماراً، وغصباً وسرقةً، تطفيفاً في الكيل والوزن، كتماً للعيوب، سحراً وتنجيماً وشعوذةً، أكلاً لأموال اليتامى والقاصرين، أيماناً فاجرةً، لهواً ولعبا، مكراً وخديعةً، زوراً وخيانةً، مسالك معوجةً، وطرقاً مظلمةً، يقول عليه الصلاة والسلام: "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم الحرام" (رواه البخاري والنسائي), وفي رواية: "فإن ذلك لا يستجاب لهم دعوة".
أيها المسلمون: حق عليكم تحري الحلال، والبعد عن المشتبه، احفظوا حقوق الله والعباد، انجزوا أعمالكم، وأدوا أماناتكم، أوفوا بالعقود والعهود، اجتنبوا الغش والتدليس والمماطلة والتأخير، واتقوا الله جميعاً، فالحلال هنيء مريء، ينير القلوب، وتنشط به الجوارح، وتصلح به الأحوال، وتصح به الأجسام، ويستجاب معه الدعاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].