الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | فيصل بن جميل غزاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
من الأمور المهمة التي جاء بها الشرع القويم تصحيح التصورات والمفاهيم، وتخليصها من رواسب الاعتقادات الجاهلية البائدة، والأباطيل السائدة وتصويبها لتصبح متوافقةً مع الدين المبين، وملائِمةً لهدي المؤمنين...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى، وتمسَّكُوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وراقِبوه في السر والنجوى.
أيها المسلمون: من الأمور المهمة التي جاء بها الشرع القويم تصحيح التصورات والمفاهيم، وتخليصها من رواسب الاعتقادات الجاهلية البائدة، والأباطيل السائدة وتصويبها لتصبح متوافقةً مع الدين المبين، وملائِمةً لهدي المؤمنين، وعند النظر والتأمل في نصوص الوحيين نجدهما حافلينِ بتناوُل هذه القضية في مجالات شتى، وصور مختلفة، فتعالَوْا -عبادَ الله- نقف مع جملة من الأمثلة الشاهدة لذلك، والدالَّة على تميُّز منهج دين الإسلام في بيان حقائق الأشياء:
ففي قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الْحُجُرَاتِ: 13]، بيان لِمَا كان عليه الناس في الجاهلية من التفاخر بالأنساب ومآثر الآباء والأجداد، فجاء الشرع بالمفهوم الصحيح للكرامة؛ فالتفاضل إنما يحصل بالتقوى، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، فلكما كان الإنسان محقِّقًا للتقوى كان ذلك كمالا في حقه، وهو الكريم حقا.
وفي بيان نبوي صريح يقرر -صلى الله عليه وسلم- هذه الحقيقة بقوله: "الحسب المال، والكرم التقوى"؛ أي: الشرف بين الناس المال، والكرم عند الله هو التقوى، فانظروا الفرقَ بين المفهوم عند أهل الدنيا وحقيقته عند الله، وأهل التقوى والإيمان والصلاح هم أولياء النبي -صلى الله عليه وسلم-، سواء كانوا من ذي رحمه أم لا، قال صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بي المتقون، مَنْ كانوا وحيث كانوا"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وَلِيِّيَ الله وصالح المؤمنين" والمعنى: إنما وليي من كان صالحا وَإِنْ بَعُدَ نسبه مني، وليس وليي مَنْ كان غير صالح، وإن كان نَسَبُه قريبا مني.
عباد الله: ويُبنى على المفهوم الحقيقي للكرامة مفهوم آخر؛ إذ يقول عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" وفي لفظ آخر: "ولا إلى أجسامكم"، فليس بينَ الله وبينَ خَلْقِه صلة إلا بالتقوى، فمَنْ كان لله أتقى كان من الله أقرب، وكان عند الله أكرم؛ وعليه: فلا يصح أن يفتخر المرءُ بماله، ولا بمكانته ولا بجماله، ولا بشيء من أعراض الدنيا أبدا؛ فمحلُّ الاعتبارِ القلبُ والعملُ.
ومما يشهد لهذا المعنى كذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرأوا: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)[الْكَهْفِ: 105]"، فالأساس الذي يُعَوَّلُ عليه هو تقوى الله والاستقامة على شرعه، وقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على ترسيخ مفهوم التفاضل بين الناس، وأنه ليس بِصُوَرِهم ولا أجسامهم، وأكَّد هذه الحقيقةَ الإيمانيةَ من خلال مشاهِدَ حية، ماثلة أمام أصحابه الكرام، فمن ذلك ما جاء عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان يحتزُّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سِوَاكًا مِنْ أراك فكانت الريح تكفؤه، وكان في ساقيه دقة، فضحك القوم من دقة ساقيه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما يُضحككم؟ قالوا: من دقة ساقيه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان مِنْ أُحُدٍ".
ومنها ما رواه سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أنه قال: "مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لرجل عندَه جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا -واللهِ- حَرِيٌّ إن خَطَبَ أن يُنكح، وإن شَفَعَ أن يُشَفَّعَ، قال: فسكتَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم مرَّ رجلٌ فقال له رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حَرِيٌّ إن خطب ألا يُنكح، وإن شفع ألا يُشَفَّعَ، وإن قال ألَّا يُسمعَ لقوله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا".
ويلحق بهذا المعنى -عباد الله- أن بسط الرزق وتضييقه لا علاقة له بمحبة الله ولا ببغضه، وليس دليلا على استحقاق العبد لذلك، قال تعالى: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[سَبَأٍ: 35-36]، فأهل الاستكبار على الله يقولون: نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن في الآخرة بمعذبين؛ لأن الله لو لم يكن راضيا ما نحن عليه من الملة والعمل لم يعطنا الأموال والأولاد، ولم يبسط لنا في الرزق، ولم يُؤْثِرْنَا بما آثرنا على غيرنا إلا لفضلنا، وغابت عنهم الحقيقة؛ أن الله يبسط الرزق في الدنيا لمن يشاء من خلقه، ويُضَيِّق على مَنْ يشاء، لا لمحبة فيما يبسط له ذلك ولا زلفة له استحق بها منه، ولا لبغض منه لمن ضيق عليه ذلك، ولا لمقت، ولكنه يفعل ذلك محنة لعباده وابتلاء، وأكثر الناس لا يعلمون أن الله يفعل ذلك اختبارا لعباده، فلو كان البسط دليل الإكرام والرضا لاختص به المطيع، وكذا لو كان التضييق دليل الإهانة والسخط لاختص به العاصين، بل قد يعطي الله العبد من الدنيا استدراجًا له وإملاءً، فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[الْأَنْعَامِ: 44]".
أيها المسلمون: ومن أساليب النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعليم أصحابه وتربيتهم على الفضائل، وتصحيح المفاهيم لديهم -السؤالُ، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلتُ: نعم يا رسول الله، قال: فترى قلة المال هو الفقر؟ قلتُ: نعم يا رسول الله، قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكنَّ الغنى غنى النفس" العرض هو متاع الدنيا وحقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا أَلَحَّ في الطلب فكأنه غني.
ومما يتصل بهذا المعنى أن الإفلاس الحقيقي المهلِك هو أن يلقى العبدُ ربَّه يوم القيامة مُفلِسًا من الحسنات، ليس عنده منها شيء، يبين لنا هذه الحقيقةَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول لأصحابه: "أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
معاشر المسلمين: لقد أرشدت جملة من الآيات والأحاديث إلى حقيقة جوهرية، تتعلق بالمال، من حيث البقاء والفناء، قال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)[النَّحْلِ: 96]، الذي يقدمه المرء ويُنفقه في سبيل الله -تعالى- وابتغاء مرضاته، هو الذي يبقى، أمَّا ما عداه من مطعم أو مشرب أو ملبس ونحو ذلك من شئون الدنيا فإنه يفنى، فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أيكم مال وراثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه، قال صلى الله عليه وسلم: فإن ماله ما قَدَّمَ، ومالُ وارثِه ما أَخَّرَ"، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أيضا أنه قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟" أي: ليس لك إلا لقمة تؤكل، أو ثياب تبلى، أو صدقة تبقى.
إن اعتقاد المسلم بهذه الحقيقة ويقينه بأن ما يخرجه من ماله في أوجه البِرِّ، وسدِّ حاجة الفقير ابتغاء مرضاة الله هو المال الباقي على وجه الحقيقة، فهذا سيدفعه -بلا شك- إلى البذل والعطاء والإنفاق والبعد عن البخل والشح والإمساك.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أنهم ذبحوا شاة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها"، فقال صلى الله عليه وسلم مُصَحِّحًا ومُوَجِّهًا: "بقي كلها غير كتفها"؛ والمعنى: أن ما تصدق به فهو الباقي، وما أكل فهو الفاني، فهنا يأتي التصحيح النبوي للمفهوم الخاطئ السائد؛ الذي يعتقد أن ما بقي من المال هو الذي لم يتم إنفاقه وبقي في حوزة صاحبه، في الوقت يظن فيه أن المال الذي تصدق به واستقر في يد المحتاج هو مال ذاهب وفانٍ ومفقود، وهذا الحديث جاء مُوَافِقًا لمدلول الآية السابقة: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)[النَّحْلِ: 96]، ويُعَدُّ أنموذجا عمليا وتطبيقا واقعيا لمعناه، بل قد جعل الله -تعالى- عدم الإنفاق في سبيه من التهلكة، فقال عز وجل: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)[الْبَقَرَةِ: 195]، قال القرطبي -رحمه الله-: "المعنى: لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله، وتخافوا العَيْلَةَ، فيقول الرجل: ليس عندي ما أنفقه"، ومن المعاني التي ذكرها بعض العلماء في معنى الآية: "لا تُمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم".
ومما يتبع هذا المعنى كذلك تعقيبه -صلى الله عليه وسلم- عندما سأل أصحابه: "ما تعدون الرقوب فيكم؟ قالوا: الذي لا يولد له، قال: ليس ذاك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يُقَدِّم مِنْ وَلَدِه شَيْئًا".
فالمفهوم الذي تناوله النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتصحيح ها هنا هو معنى الرقوب؛ إذ كان السائد بين الناس عموما أن الرقوب فيهم من ابتلي بموت الذرية، فلا يكاد يعيش له ولد، أو هي المرأة التي لا يبقى لها ولد، فعمد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تغيير ذلك التصور، وأوقف أصحابه على حقيقة الرقوب، مؤكِّدا أنه ذلك الذي لم يكن له نصيب من الأجر الكبير والثواب العظيم الذي يحظى به الصابر المحتسب الأجر في موت أحد أولاده وفقدان فلذة كبده.
إخوة الإسلام: ومن المفاهيم التي جاء الشارع بتصحيحها، مفهوم الشدة والقوة، قال صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" يعني ليس الإنسان الشديد هو الذي يصرع الناس، وإنما الشديد حقيقة والمفهوم الصحيح للقوة هو من يملك نفسه عند الغضب، فقد يكون الإنسان قوي البدن يغلب الرجال، لكنه إذا غضب خرج عن طوره وفَقَدَ سيطرتَه على نفسه وظلم ووقع في الأفعال المحرمة.
عباد الله: ومن الخصال التي شابَ مفهومَها الخللُ عند بعض الناس الحياءُ؛ فهو شُعْبة من شُعَب الإيمان، ومحمود على كل حال، كما قال صلى الله عليه وسلم: "الحياء خير كله" بل زجر -صلى الله عليه وسلم- من دعا غيره إلى التخفُّف منه؛ إذ مر على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحيي؛ حتى كأنه يقول: إنه قد أضرَّ به، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعه، فإن الحياء من الإيمان" أي: اتركه على هذا الخلق السني.
وبَيَّنَ عليه الصلاة والسلام كيف يحقق العبادُ هذا الخُلُقَ وكيف يكتسبونه عن طريق التزكية والترقي في مراتب الإيمان والإحسان، فقال: "استحيوا من الله حق الحياء، قال: قلنا: يا رسول لله، إنا لنستحيي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء". ويدخل في حفظ الرأس وما وعى حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات، ويتضمن حفظ البطن وما حوى حفظ القلب عن الإصرار على ما حرم الله، وحفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب.
وننبه هنا -عباد الله- إلى مسألة مهمة؛ وهي أن كل ما أدى إلى ترك الحقوق والتساهل فيها فهو عجز ومهانة؛ فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك السؤال عن مسائل العلم والسكوت عن بيان الحق هو من الضَّعْف والخَوَر، وليس من الحياء، وإنِ ادَّعاه الناسُ، ولذلك قالت عائشة -رضي الله عنها-: "نِعْمَ النساءُ نساءُ الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين".
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، شرع الشرائع وأحكم الأحكام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام، ما تعاقبت الشهور والأيام، وسلَّم تسليما كثيرا.
أما بعد: فتزداد أهمية الدعوة إلى تصحيح المفاهيم والتصورات الخاطئة في هذا العصر؛ حيث طغت فيه المفاهيمُ المادية على المعنوية، وقُدِّمت فيه الاعتبارات الدنيوية على الأخروية، واقتضت الحاجةُ تضافرَ الجهود في سبيل علاج ما رَسَخَ في أذهان كثير من الناس وتشبعَّت به نفوسهم من عوائد باطلة، وموروثات بالية، وتوعيتهم بما يجب أن يكونوا عليه من اعتقادات صحيحة، وأفكار سديدة ومسالك رشيدة، فتصبح منطلقاتهم ومعاييرهم وأحكامهم وفقَ ميزان الشرع، متجردة عن الأهواء والنزعات الجاهلية.
عباد الله: ومن دلائل نبوءته -صلى الله عليه وسلم- إخباره عما سيكون في آخر الزمان من تغيُّر المفاهيم واختلال المبادئ، قال صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يُصَدَّق فيها الكاذبُ، ويُكَذَّب فيها الصادقُ، ويُخَوَّنُ فيها الأمينُ، ويُؤْتَمَنُ فيها الخائنُ، ويَنطِقُ فيها الرويبضةُ، قالوا: وما الرويبضةُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: التافِهُ يتكلم في أمر العامة".
ومن الأمثلة التي تدل على أن الشارع الحكيم ينقل الناس من معنى معهود متعارَف عليه إلى معنى آخر ينبغي أن يكون محل الاهتمام ويؤخذ بعين الاعتبار ما يرشد إليه قوله -تعالى-: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الْحَجِّ: 46]؛ أي: ليس العمى الذي يعتد به عمى العين والبصر، وإنما العمى حقّ العمى عمى القلب والبصيرة، وإن كانت القوى البصرية سليمة فإنها لا تنفذ إلى العِبَر ولا تدري ما الخبر، ومن أمثلة المفاهيم المصحَّحة ما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا عدوى ولا طِيَرَةَ، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة" قوله: "لا عدوى" أي: على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله -تعالى-، وأن هذه الأمور تُعْدِي بطبعها وتنتقل بذاتها، فجاء الشرع بإبطال هذا المعتَقَد، وبيَّنَ أن العدوى إذا انتقلت كان ذلك بقَدَر الله، لا بتأثير المرض ذاته، والتطيُّر هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم، وهو مذموم كله، لا يخرج من ذلك شيء، والمؤمن شأنه أن يتفاءل لا أن يتشاءم تأسِّيًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والتفاؤل حُسْن ظن بالله -عز وجل-.
ومن الأمثلة أيضا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أسوأُ الناسِ سرقةً الذي يسرق من صلاته، لا يُتم ركوعَها ولا سجودَها ولا خشوعَها"، فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه حقيقة السرقة؛ بأن يصلي العبد ولكنه لا يطمئن في صلاته فيُخِلُّ بالركوع والسجود، ويفقد الخشوع الذي هو روح الصلاة.
ومن الأمثلة كذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أعجزُ الناسِ مَنْ عَجَزَ عن الدعاء" فإنه لا يترك دعاء الله ومسألته إلا أعجز الناس؛ إذ لا مشقة فيه ولا كلفة، وهو عبادة محبوبة لله -تعالى-.
إن هذا التقرير النبوي الجامع هو عكس ما يعتقده بعض الجهال المستكبرين أن الدعاء هو سلاح الضعفاء، أو حيلة العاجز والمهزوم، أو أنه سلبية وضَعْف، يلجأ إليه الكسالى الذين لا يبذلون وسعهم لبلوغ أمانيهم، إن شأن الدعاء عظيم، فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" وصح عنه أيضا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من لم يسأل الله يغضب عليه" قال الطيبي -رحمه الله-: "وذلك لأن الله يحب أن يسأل من فضله، فمن لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه لا محالة".
أيها الإخوة: وللبخل معان أخرى حَرِيٌّ أن يلتفت إليها؛ منها ما تضمنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وأبخل الناس من بخل بالسلام"؛ لأنه بخل بأسهل الأقوال وما لا ضرر عليه فيه أصلا، ومن أعظم معاني البخل ما أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يُصَلِّ عليَّ" فالبخيل الكامل في بخله من إذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكان هو فيه فلم يبادر فيصلي عليه -صلى الله عليه وسلم-، فهذا هو البخيل على الحقيقة، وهل تجد أحدا أبخل من هذا؟ فلا تبخلوا -عبادَ الله- على أنفسكم، وبادِروا بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- كلما ذُكِرَ صلى الله عليه وسلم، بل أكثِروا من الصلاة عليه، فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاةً" وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أكثِروا الصلاةَ عليَّ يومَ الجمعة، وليلة الجمعة؛ فمَنْ صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الكفر والكافرين، وانصر عبادك الموحدين، ودمر أعداءك أعداء الدين واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين الله انصر من نصر الدين واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم أمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، وعمل برضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم كُنْ لإخواننا المستضعفين والمجاهدين في سبيلك والمرابطين في الثغور، اللهم كن لهم معينا ونصيرا ومؤيدا وظهيرا اللهم اكشف كربتهم واجعل لهم من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ومن كل بلاء عافية، اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم، وأنزل السكينة عليهم، اللهم أكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أرنا الحق حقا ارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأعنا ولا تعن علينا واهدنا ويسر الهدى لنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.