العربية
المؤلف | عادل العضيب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
أولئك الذين ما كفاهم ما خرّبوا وأفسدوا طوال العام حتى جاءوا ينشرون شرهم وفسادهم في أعظم الشهور، وكأنهم يخاطبون الشياطين: أنتم تُصفَّدون وتُحبَسُون ونحن سنقوم بدوركم، سنفسد الشهر على المسلمين. لقد استعدت قنوات الشر لرمضان من أشهر، لكن ليس بالبرامج الدينية من قرآن وحديث وإفتاء وتعليم وتوجيه، بل بالأفلام والمسلسلات والأغاني، وما الذي يعرض في هذه المسلسلات؟ إنهم يشوّهون تاريخ المسلمين ويتلاعبون به، ويعرضون جميلات النساء مع أصوات الغناء في شهر رمضان..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71]
أما بعد: فيا عباد الله، أيها المسلمون: من مشهور القول (الحياة فُرَص)، والذين يستغلون الفرص يكسبون الكثير في زمن يسير، والذين يضيعون الفرص يفوت عليهم خير كثير، ربما لا يستطيعون تعويضه.
لذا ترى التجار على اختلاف أنشطتهم التجارية يستعدون للمواسم قبل وصولها بزمن.
وانظروا إلى استغلال المكتبات لبداية العام الدراسي.
وانظروا إلى استغلال قصور الأفراح ومكاتب السفر والسياحة لموسم العطلة الصيفية.
وانظروا إلى استغلال محلات المواد الغذائية والأواني لدخول شهر رمضان.
وانظروا إلى جميع التجار كيف يستغلون وقت نزول الرواتب كل شهر، حتى إنهم يزيدون في الأسعار ويربحون ربحًا فاحشًا بعيدًا عن السماحة، وإذا عاتبتهم قالوا: هذا موسمنا، ونحن نعمل طوال العام لوقت الموسم، فما نحصله في هذه الأيام يساوي كسب سنة كاملة.
هكذا يحرصون على استغلال الفرص بالتخطيط والاستعداد للموسم الذي يفترض أن يخرجوا منه بمبالغ ضخمة في وقت يسير؛ لتربح تجارتهم التي بذلوا وقتهم وأموالهم وعقولهم لنجاحها.
ولا تثريب عليهم في ذلك، فأنا لا أريد الكلام عن تجار الدنيا واستغلال المواسم التجارية، لكني أريد أن أقارن بين استغلال الناس للمواسم الدنيوية وتفريط البعض في مواسم العبادة والطاعة.
فنحن مقبلون على أيام عظيمة وأوقات شريفة، على شهر رمضان المبارك، ولم يبق بيننا وبينه إلا جمعة.
فهل فكرنا في استغلاله؟ هل وضعنا الخطط والبرامج لاستغلال لياليه وأيامه؟ وما هي المشاريع التي سننفذها في شهرنا المبارك؟ كم رصدنا من الأموال لننفقها في هذا الشهر؟ كم سنقضي من وقت نحتسبه عند الله في ميزان الحسنات يوم القيامة في هذا الشهر العظيم؟
عباد الله: إن أول خطوات الاستعداد والتخطيط لشهرنا المبارك أن ندعو الله أن يبلّغنا أيامه وأن يعيننا على صيامه وقيامه؛ فكم من شخص هو اليوم فوق الأرض ضاحكًا مسرورًا لن يدخل رمضان إلا وهو بين أطباق الثرى.
كم من إنسان لن يدرك أيامه الغرّ العذاب، فاسألوا الله بلوغه وإتمامه في صحة وعافية وسلامة؛ فقد كان سلفكم الصالح –رحمهم الله- يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان.
ثاني خطوات الاستعداد: أن تنوي فعل الخير وترك الشر، والبعد عن المحرمات في هذا الشهر المبارك؛ فإنك إن نويت الخير وقدر الله عليك أن ترحل قبل رمضان أُجِرْت على نيتك.
قال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"؛ فانوِ فعل الخيرات وترك المنكرات؛ لعلك توفق للباقيات الصالحات.
ومن الاستعداد لرمضان أن نستقبله بالتوبة والاستغفار؛ فإن الذنوب تظلم القلب، وإذا أظلم القلب ضعف الإنسان عن العمل الصالح، وشقَّ عليه فعل الطاعات.
لذا قال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ مِائَةَ مَرَّةٍ"؛ هذا رسولنا –صلى الله عليه وسلم- والذي عصمه الله وحفظه، فكيف بنا؟! إننا جميعًا بحاجة للتوبة، لذا قال الله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]،
وقال ربنا –جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) [التحريم: 8].
قال رجل للحسن البصري –رحمه الله-: يا أبا سعيد، إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ قال: ذنوبك قيدتك.
رأيتُ الذنوبُ تُميتُ القلوبَ | وقد يُورثُ الذلُ إدمَانُها |
وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ | وخيرٌ لنفسكَ عِصْيانُها |
ومن الاستعداد لرمضان أن يكون لك عمل صالح تحرص على فعله، والإكثار منه في رمضان؛ إما كثرة قراءة للقرآن، وإما كثرة صلاة للنافلة، وإما كثرة ذكر لله، وإما كثرة صدقة، وإما حرص على تفطير الصائمين أو القيام عليهم.
وهنا أقول: ريال تفطير تضعه في البطون الجائعة خير من مائة أو ألف ريال في بطون ملأى.
وتذكروا أن لكم إخوانًا في دول مجاورة لا يجدون ما يفطرون عليه، هم صيام ليلهم ونهارهم، يتسحرون على الماء ويفطرون على الماء، بل ربما لم يجدوا حتى الماء، فاحرصوا على إيصال الطعام والشراب لهم، واسلكوا الطرق المأمونة والموثوقة.
عباد الله: إن من الناس من يوفَّق في شهر رمضان لفعل كثير من الطاعات، تراه محافظًا على الصلاة، تاليًا لكتاب الله، ذاكرًا لله، ينفق بالليل والنهار، أولئك الذين عرفوا كيف يتاجرون مع الله، أولئك الذين ربحت تجارتهم والله؛ إنها التجارة مع الله. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الصف: 10]، إنها تجارة الآخرة، (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16، 17].
إنها تجارة من يريد جنةً عرضها السموات والأرض، غرسها الله بيده، وجعلها مستقرًا لأوليائه، (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111]، إنها التجارة التي لا خسارة فيها، فما أربح تجارتهم!
لما أراد صهيب الرومي –رضي الله عنه- الهجرة منعه كفار قريش، وقالوا: أتيتنا صعلوكًا، فكثر مالك عندنا، ثم تريد أن تخرج بنفسك ومالك، والله لا يكون ذلك، فقال: "أرأيتم إن تركت لكم مالي، هل تخلون سبيلي؟" قالوا: نعم، فدلَّهم على الموضع الذي خبَّأ فيه ماله فتركوه، فلما بلغ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صنيعه قال: "ربحَ البيعُ أبا يحيى".
عباد الله: إن رمضان فرصة للمتاجرة مع الكريم الذي يعطي بلا حساب، فتاجروا مع الله؛ فما عند الله خير وأبقى؛ (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [الجمعة: 11].
أحبتي في الله: كلنا في رمضان نطلب عفو الله، ونردد: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"؛ فإذا كنا نريد العفو من الله فلنعفُ عن عباد الله، اعفوا عن الخاطئين وتجاوزا عن المسيئين؛ فالعفو من شِيَم الرجال ولا يقدر عليه إلا كريم الخصال.
استقبلوا رمضان بقلوب سليمة من كل محرم؛ فأصحاب القلوب السليمة هم الناجون يوم القيامة.
قال الله عن إبراهيم –عليه السلام-: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 87 - 89].
إن الرجل اليوم من تقدم إلى من أساء إليه ووضع كفّه في كفّه، وقال: لا أريد أن يدخل عليّ رمضان وبيني وبين أحد من الناس قطيعة، ثم رفع كفيه إلى السماء وقال: اللهم إني عفوت عن فلان لتعفو عني يوم ألقاك.
وتذكروا أن هجر المسلم لأخيه كبيرة من كبائر الذنوب، تمنع من مغفرة الذنوب؛ قال عليه الصلاة والسلام: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" (رواه مسلم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) [الرعد: 21]، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا معاشر المسلمين: وبين تجار الدنيا الذين يستغلون المواسم الدنيوية لتحقيق أعلى نسبة أرباح، وتجار الآخرة الذين يستغلون المواسم الدينية للفوز برضا الله وجنته تجار يتاجرون بالحرام في أشرف الليالي والأيام، إنهم ملاك قنوات الشر والفساد، أولئك الذين ما كفتهم ذنوبهم حتى حملوا ذنوب الملايين.
(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت: 13]..
أولئك الذين ما كفاهم ما خرّبوا وأفسدوا طوال العام حتى جاءوا ينشرون شرهم وفسادهم في أعظم الشهور، وكأنهم يخاطبون الشياطين: أنتم تُصفَّدون وتُحبَسُون ونحن سنقوم بدوركم، سنفسد الشهر على المسلمين.
لقد استعدت قنوات الشر لرمضان من أشهر، لكن ليس بالبرامج الدينية من قرآن وحديث وإفتاء وتعليم وتوجيه، بل بالأفلام والمسلسلات والأغاني، وما الذي يعرض في هذه المسلسلات؟ إنهم يشوّهون تاريخ المسلمين ويتلاعبون به، ويعرضون جميلات النساء مع أصوات الغناء في شهر رمضان، في شهر رمضان برامج تهدم العقيدة، تهدم الإيمان، تفسد الأخلاق، تدعو للفاحشة، تدعو لفساد عظيم.
ولست أعجب من هذه القنوات، فقد بان شرها من سنوات، لكني أتعجب من أولئك الذين لا يزالون يتركون هذه القنوات في بيوتهم، تعبث بدينهم وتفسد أولادهم ونساءهم.
أخي في الله: رمضان فرصة لأن ترمي بهذه القنوات في سلة المهملات، أخرجها من بيتك، أخرجها من حياتك طاعةً، وتذكر أن مَن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك المجاهدين، واجعل هذا البلد آمنًا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احفظ حدودنا وانصر جنودنا، اللهم احفظ حدودنا وانصر جنودنا، وأعدهم سالمين غانمين منصورين.
اللهم فك أسر المأسورين، اللهم فرِّج همّ المهمومين، اللهم نفِّس كرب المكروبين، اللهم اقضِ الدين عن المدينين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين.
اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك وأنت راض عنا غير غضبان.
اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا أيامه في صحة وعافية وسلامة، وأعنا اللهم على صيامه وقيامه، واجعلنا اللهم فيه من المقبولين المرحومين، يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74]، (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان: 65، 66].
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، سبحانك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.