التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | عبد الله اليابس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
فَتِّش اليومَ عن قلبك.. فتِّش عنه.. فقد ضاع في زحمة الحياة.. وغَطَّت عليه آثار المعاصي.. هو يناديك اليوم.. وينتظرك أن تَنْتَشِلَهُ مِن الظُلمةِ إلى النور.. ومِنَ الصَخَبِ إلى السكينة.. فَتِّش عنه وابذُل كل الأسباب لتحقيق التقوى.. واسْأَلِ اللهَ صلاحَ قلبِك. ألا تعلمُ أنَّك اليومَ أقربُ لِقَبرِكَ منك...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان غُرَّة وجه العام، وأجزل فيه الفضائل والإنعام، وشرَّف أوقاته على سائر الأوقاتِ، وفضل أيامه على سائر الأيام، وعَمَرَ نهارَهُ بالصيام، ونوَّر لَيلَهُ بالقيام؛ أحمده وأشكره على إحسانه العام, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المُتفردُ بالكمالِ والتَّمَام، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، أفضلُ مَن صلى وصام، وأتقى من تَهجد وقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، هداة الأنام, ومصابيح الظلام, وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ: فأوصِيكُمْ ونَفْسي بِتَقْوى اللهِ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[المائدة: 100].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- .. أيها الصائمون.. بين يدي اليوم لكم باقةٌ من الرسائل الرمضانية.. هي رسائل خالصة مخلصة بإذن الله.. رسائل لك أنت.. نعم لك أنت.. فأَرْعِ لها سمعَك.. وافتح لها قلبَك .. لعل الله أن ينفعنا بها أجمعين.
الرسالة الأولى: أتَذْكُرُ قبل رمضانَ بأيام؟ أتذكُرُ حالَك؟ وكيفَ كُنتَ تُمَنِّي نفسك إذا دخل رمضان أن تجتهدَ في العبادةِ وألا يسبِقَكَ إلى الله تعالى أحد؟ أَتذكُرُ هِمَّتَكَ وعزيمتَك على أن تَعْمُرَ وقتك بقراءة القرآن وبالذكر والطاعة؟ أتذكر ذلك؟
كيف حالك اليوم؟ هل أصبحتَ بطلاً وحقَّقتَ أحلامَك؟ أم غَلَبَك شيطانُك ونفسُك الأمارةُ بالسوء, فقَصَّرتَ وتَقَاصرتَ عن بلوغ أُمنياتِك؟
إنْ كنتَ تقاصرت وسقطت في أول الطريق: فانهض.. أرجوك انهض .. فلم يمضِ من الشهر إلا الثلث الأول منه.. وبقي لديك الثلثان.. سارع.. وسابق.. ونافس.. فالفرسان قد بدأوا السباق.. ولا أظنك إلا فارساً مغواراً في ميادين الخير والمسابقة في الخيرات.. فانهض.. وانفُض عنك غُبارَ التكاسُل والتواني .. وتذكر أن الرابح من يُتعِبُ خيلَه ليريحها.
الرسالة الثانية: رمضان شهر القرآن.. اختصهُ اللهُ –تعالى- بنزول كتابِه, (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)[البقرة: 185].. يا الله! تأمل الربط الدائم بين رمضان وبين القرآن.. في رمضان أُنزل القرآن.. وفي رمضان كانت المدارسة السنوية بين أشرفِ الملائكة: جبريلَ -عليه السلام-, وأشرفِ المرسلين؛ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.. يتدارسون أشرف كلام.
لقد كان هذا حال الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام-.. وكان هذا حال أتباعِه مِن بَعدِه.
فهذا سفيان الثوري -رحمه الله-.. كان إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.
وكان الأسود بن يزيد -رحمه الله-: يختم في كل ليلتين في رمضان.
وكان إبراهيم النخعي -رحمه الله-: يفعل ذلك في العشرِ الأواخرِ منه خاصةً, وفي بقيةِ الشهر في ثلاث.
وكان للشافعيِّ -رحمه الله- في رمضان ستون ختمة, يقرؤها في غير الصلاة. وعن أبي حنيفة -رحمه الله- نحوه.
وهذا حمزةُ بنُ حبيبٍ الزياتُ يقول: "نظرتُ في المصحفِ حتى خشيتُ أن يَذهبَ بَصَري".
نعم.. لقد كان هذا حال أولئك الصالحين .. الذين عَرَفوا ما أمر الله به فلَزِمُوهُ.. فما حالي وحالك اليوم مع كتاب الله؟
أخبرني كم قرأتَ منذ دخل الشهر؟ هل انتهيت من ختمة أو اثنتين أو أكثر؟ أم ما زلتَ في الأجزاء الأولى؟
اسأل نفسكَ: ما الذي يُشغلكَ عن كتاب ربك؟ كم تمكُثُ على هاتفك يوميًا؟ لو صرفتَ ربع هذا الوقت في قراءة القرآن كم تكون قد أنجزت اليوم؟
والله إن الوقت متوفر.. لكن أين المُشَمِّرُون؟
سنُدفن غدًا في حفرة لوحدنا.. ولن يكون لنا أنيس إلا عملنا الصالح.. ونعم الأنيس كتاب الله.. ووالله سنتحسر على كل ثانية لم نَقْضِهَا في طاعة الله.. فضلاً أن تكون في معصيته.. (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 195].
الرسالة الثالثة: في كل مناسبة أو عمل .. هناك أوقات ذَرْوَة .. وأخرى تسمى بالأوقاتِ الميتة ..
الأوقاتُ الميتة هي الأوقاتُ التي يَقِلُّ فيها العملُ مقارَنةً بغيرها..
ومن بركةِ هذا الدين أنه حَثَّ على الطاعة في الأوقات التي يَغفَلُ الناس عن العبادةِ فيها.
روى النسائي وغيره وحسنه الألبانيُ عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ".
إن في رمضان كثيرًا من الأوقاتِ التي يَغفَلُ عنها الناس .. كبعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس.. وفترةِ الضحى وفترةِ الظهيرة.. وآخِرِ العصر.. وبين العشائين.. وفي جوف الليل ..
اخلُ بربك.. وليَكُنْ رفيقُك مُصحَفك.. وافتَرِش سَجَادتك.. وناجِ خالقك -جل وعلا-..
في تلك اللحظات لا حرجَ عليك أن تَسكُبَ العَبَرات.. وتَذَكَر أنَّ مِنَ السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "رَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".
الرسالة الرابعة: يقول الله –تعالى- في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183]؛ نعم.. الغاية من الصيام: (لعلكم تتقون).
أخي.. أنت تصوم منذ تسعةِ أيام.. فهل تَحَقَّقَتِ التقوى في قلبك؟ أم أنك ممن قال عنهم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كما عند بنِ خزيمة في صحيحه: "رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ"؟!
فَتِّش اليومَ عن قلبك.. فتِّش عنه.. فقد ضاع في زحمة الحياة.. وغَطَّت عليه آثار المعاصي.. هو يناديك اليوم.. وينتظرك أن تَنْتَشِلَهُ مِن الظُلمةِ إلى النور.. ومِنَ الصَخَبِ إلى السكينة.. فَتِّش عنه وابذُل كل الأسباب لتحقيق التقوى.. واسْأَلِ اللهَ صلاحَ قلبِك.
فاللهم أصلح قلوبنا يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ.. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].
فيا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. فما زلنا مع الرسائل الرمضانية .. والرسالةُ الخامسةُ منها تقول: كما أن رمضان فرصة للتزودِ بالطاعاتِ فإنَّهُ فُرصةٌ للإقلاعِ عنِ المعاصي..
هل أنت مبتلى بمعصيةٍ تمنيتَ كثيرًا الإقلاع عنها ولم يتيسر لك؟
هل أنت مبتلى بالتدخين مثلاً؟ أو تعاطي شيء من المحرمات؟ أو إدمان النظر المحرم وتَتَبُّعِ الشَهَوات؟ أو حَلْقِ اللِّحيةِ؟ أو غيرها؟
ماذا تنتظر؟ الشياطينُ اليومَ مُصَفَّدَة.. وأبوابُ الجنةِ مفتوحة.. وأبوابُ النارِ مُغلَقَة.. وكلَّ ليلة يناديكَ منادٍ: "يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ في كل ليلةٍ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ".. أفلا تريدُ أن تكونَ منهم؟
فعلاً.. ما الذي يحول بينك وبين التوبة من ذنبك؟ أتعلمُ أنَّك اليومَ أقربُ لِقَبرِكَ منك بالأمس؟ أفلا يكفي ما مضى؟ ألم يحِنِ الوقتُ بعدُ لأن تُطَهِّرَ نَفسَك من رِجسها .. وتُطَهِّرَ صحيفتك من سوادها؟
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)[الحديد: 16]، إن أعجزَ الناسِ اليومَ من عَجَزَ عن تَركِ مَعصيةٍ تُودِي بِهِ لِلهَلَكَة.. وأضعفُ الناسِ مَنْ يضعُفُ أمام شهوةٍ عابرةٍ.. وأجهلُ الناسِ من جَعَلَ عَدُوَّهُ يقودُهُ لِحَتْفِه..
أيها الصائمون.. رمضانُ فرصةٌ لتغيير الحياة إلى الأفضل.. فأَسأَلُ اللهَ أن يرزُقَكُم أفضلَ ما تتمنون .. ويُنيلكُم خيَر ما تأملون.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.. اعلموا أن الله –تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزيةً على غيره من الأيام, فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله.. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.