الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
فحديثنا -معاشر الإخوة- عن موضوع ليس من فضول المواضيع، نعم، ليس بالجديد، وليس من نوازل الساعة، فهو قديم، وإنما الجديد تطوره، وتحوله إلى وسيلة لغيره، وبوابة تلج منها الشرور، وتتفاقم على من استهان به الأمور.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، حبب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وجعلنا من الراشدين. وأشهد ألا إله إلا الله حذرنا سبل الغاوين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير الناصحين، وبالمؤمنين رؤوف رحيم. صلى الله عليه...
أما بعد: فحديثنا -معاشر الإخوة- عن موضوع ليس من فضول المواضيع، نعم، ليس بالجديد، وليس من نوازل الساعة، فهو قديم، وإنما الجديد تطوره، وتحوله إلى وسيلة لغيره، وبوابة تلج منها الشرور، وتتفاقم على من استهان به الأمور.
الحديث -معاشر الإخوة- عن أمر منع صاحبه من خير كثير، وجره إلى شر مستطير. الحديث -معاشر الإخوة- عن أمر منع قومًا التقدم إلى الصلاة، والتلذذ فيها، وحرمهم الانتظار في المسجد، وحال بينهم وبين الترنم بآي الذكر الحكيم. الحديث -معاشر الإخوة- عن أمر جعل شهر الصيام كابوسا على ظهره، فهلال شهر الصوم جبل على قلبه، وانسلاخه فرج وبهجة نفسه؛ إذن، الصيام في غير رمضان مع هذا الأمر أبعد ما يفكر فيه صاحبنا! كيف، وهذا الأمر أبعدك عن مجالس الصالحين، وفرض عليك طريقة معينة لمقابلة الناس، وزيارة أقاربك، والجلوس مع والديك. إن دعيت إلى اجتماع فقبل الموافقة أو ردّها تنظر: هل هذا الاجتماع يناسبك، وأنت على علاقتك مع هذا الشيء؟ حتى في مناسبة أفراحك وزواج بنياتك وأولادك، وأيام أعيادك لست على وتيرة واحدة فأنت القلق بين المطمئنين، لا تستطيع أن تواصل غيبتك عن هذا الأمر، فحدك مع المدافعة دقائق ثم تسرق نفسك مختفياً عن مريديك، مبتعدا عن ناظريك.
هذا الأمر الذي أتكلم عنه وأعنيه صرتَ طوع أمره، وتحت تأثيره، فلا أنس لك إن ابتعدت عنه، ومزاجيتك محكومة بمدى قربك منه، فإن طالت غيبتك عنه فأنت الرجل الغضوب، ذو النفسية المتوترة، ربما ساءت ألفاظك، وتجرأت على ظلم غيرك. كيف يكون كذلك؟ فأقول: هو كذلك، أنت تبذل من أجله بعض مالك! فيا سبحان الله! ما هذا الذي قلب حياتك؟.
إنها من تموت بتأثيرها، وترتكب عظائم أمور من أجلها، إنها من قربت إليك البُعداء، وأدنت منك الأشقياء، إنها السيجارة التي صادقتها لفترة طالت أو قصرت! ما الذي جرك إليها وقد علمت من أثرها وتأثيرها ما لا يسع معه سكوت ولا تغاضٍ؟ فأنت أخبر الناس بما حصلت منها وما حصلت هي منك.
أنت معها تنقص ولا تزيد، وترجع ولا تتقدم. لقد تجاوزت أن تخادع نفسك فتغطي خبثها بأطياب وروائح... يغلب ريحها، وتمضغ علكاً عله يقشع نتنها، فإن أفلحت في ذلك؛ فكيف تواري صفرة أسنانك، واسوداد شفتيك، وتجاعيد وجهك، وفتور عينيك؟ وتخفي سعالا متواصلا، وإعياء بلا عمل، وتعبًا مقرونًا بملل. هل تقوى على أن تخفي هذا كله؟.
ولكني أقول لك -أيها المدخن- إن انشغالك بمثل هذه المدافعات هو اعتراف منك بنقص تورطت فيه، وشهادة منك أن المدخن ليس سويا في المجتمع، فهو لا يستطيع أن يرافق كل أحد، بل لن يقبله كل أحد، إنما رفيقه من هو على شاكلته.
ولا أدل على ذلك من إجماع العالم كله، مسلمه وكافره، على مكافحة التدخين، وعياداتُ معالجة المدخنين هي في بلاد الكفر قبل بلاد المسلمين. فتبصر -أيها المدخن- إلى أي مضيق تقود نفسك؟.
معاشر الإخوة: إن صحة بدايات الشيء قرينة على صحته، وفساد البدايات قرينة على فساده.
أخي المدخن: هل تذكر أول مرة وضعت السيجارة بين شفتيك؟ أتذكر بداياتك الأولى؟ لقد كانت البداية طيشًا ركبته، وعبثًا اخترته، وقد يصاحب هذا رفيق سوء سهّل الصعب، وجلسات في الاستراحة ذللت العقبة، فجليسك يعد بالترك، والمسألة لا تعدو أن تكون تجربة حياة مثل الناس! أو هو جريء ويقول: لا شيء في ذلك، وكمل رجولتك بسيجارة الرجال! فتبِعَتْ الأولى ثانية، والثانيَة ثالثة، ومضى على المرة الأولى مرات ومرات، حتى وجدت نفسك رقما إضافيا في أعداد المدخنين، وصرت من مدخني البلد.
وإذا جاء ذكرك قيل: إنه يدخن، وفلان وقع في التدخين، فيأسف لك الصديق، ويحرج بك القريب، ويضيق صدر الوالدين، وتحزن من أجلك الزوجة والولد، وصرت محل تردد من خطّاب بناتك، كما تردد أناس في تزويج أبنائك، أيقدمون وهذا المدخن سيكون جدًا لأولادنا؟ تردد في محله، وتحسّب لا يلامون عليه.
أيها الآباء والمربون: لقد لعبت وسائل الإعلام دورًا مشينا غشت فيها أبناءنا، واستجرت فيه مراهقينا، وحسنت السيئ في تصورهم .
لقد بلغ المكر في بعض وسائل الإعلام، ومواقع الدعاية، أن ربطت التدخين في أذهان الشباب بالنكهة والمتعة والرومانسية، وقوة العضلات، والبطولة، والتمرد على القوانين، وصورت السيجارة أنها الملاذ من تقلبات النفس، والتنفيس في المضايق وأيام العطل والإجازات، وهي عونك في مذاكرة دروسك، وتعديل للمزاجية قبل الامتحانات والمقابلات المهمة.
وأظهرت التدخين أنه قمة الأنس مع الرفاق والأصحاب.
وتحلو الضحكة والدخان ينبعث من أفواههم ومناخرهم! فظن المراهق الغر أنهم بذلك كملوا رجولتهم وأضافوا شيئًا إلى تميزهم.
ولا تزال صور ومقاطع المسنين ومن يبثون يومياتهم المباشرة عبر برامج التواصل، لا تزال السجائر في أفواههم، وعلب الدخان ظاهرة في جلساتهم. فما أعظم المخادعة! وما أشد الخديعة!.
ولو رجع الواحد من هؤلاء إلى بعض تفكيره لأدرك حقيقة الحال، وعظم الكذبة؛ ولكن عقل الشاب مغطى بالنظرة القريبة، ونزوة الهوى قد لا تدع فرصة للهدى.
أيها الشاب، أيها المعجب ولو في الظاهر ببعض تلك المشاهدات: أدعوك أن تضيف إلى مشاهداتك مشاهدات أخرى، وهي أيضا مشاهدات لمدخنين، ولكنها من نوع آخر رأيناها في مواقع التواصل، وفي مقاطع الفيديو المسجلة بإذن أصحابها، بل برغبة منهم، ماذا فيها؟ فيها النهايات وليست البدايات! والعبرة بالنهاية ولو خدعتك البداية.
نعم، إنها نهايات مدخنين باعترافاتهم وكلامهم الذي ملؤه الحسرة والندامة: فهذا يذكر كيف أن الدخان أفسد عليه رئته، فهو يتعالج من السرطان الرئوي، ولم يعط أملا بالتعافي منه، وقد مضى في جسمه من أثره ما مضى.
وآخر يذكر كيف أن الدخان أخذ جزءاً من صحة وعافية كل عضو في بدنه، فمِمّ يتعالج والشق في صحته أكبر من رقعة الطبيب؟ وثالث الاعترافات وأشدها عظة لمن أراد الله له النجاة، أولئك الذين يتكلمون ولا يكادون يبينون، فقد عبث المرض الخبيث في حنجرته وأفسد عليه حبال صوته فهو يتكلم ولا يتكلم! وقد يحاول أن يتكلم مستعينا بجهاز لعله يبين صوته ويميز حروفه!.
والمشهد أبلغ من أي كلام، والرسالة واضحة: هذه نهايتي مع السجاير، والسعيد من اتعظ بغيره.
وهي رسائل صادقة وبعض أصحابها أصبحوا بعدها في عداد الآخرة فنسأل الله أن يغفر لهم، وأن يجعل في رسائلهم عملا صالحاً لهم يتعظ بها من بعدهم !
إن من خدع تهوين الدخان على بعض النفوس الذي يمارسه تجار التبع والسجاير ما يسمى بالدخان المصفى، يقابل الدخان غير المصفى، وظن بعض الناس أنهم بهذا الفلتر الموهوم أنهم يدخنون بلا ضرر! والحقيقة العلمية الصارخة أنه ليس هناك ما يمنع دخول ضرر الدخان وهو يجذبه بنفسه، ويردده داخل جوفه، وإن منع بعض الضرر، فكيف له بالسموم المتزايدة؟ فعاد إلى خداع نفس، ووهم لا يقوم على حقيقة إطلاقًا.
ومثل هذا الكلام يقال فيما يسمى بالتدخين الالكتروني. ما أظلم الإنسان! إنه كان ظلوما جهولا! أظنك سمعت به. وخلاصة كلام من تكلم فيه أنهم اختلفوا في نسبة الضرر فيه مقارنة بالتدخين التقليدي، ولم تجرؤ جهة موثوقة أن تقول إنه عديم الضرر البتة، وإنك تبقى على صحتك مع السيجارة الالكترونية.
معاشر الأفاضل: لقد بلغ من تلاعب شركات التبغ في عقول فلذات أكبادنا، وعذرا، من البنين والبنات، بلغ من تلاعبهم أن روجوا لدخان بنكهات مختلفة، فهذا بنكهة الفاكهة، فمنها ذو نكهة الفراولة، وللعلم، منظمات الصحة العالمية تؤكد أن الدخان ذا النكهات أشد ضررًا وفتكًا من الدخان العادي، والسمية فيها مركزة، وصدق الله العظيم: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) [المائدة:100].
فماذا بقي بعد هذا؟ إن أبلغ تحذير يجب أن يمتثله المؤمن هو تحذير الله -تعالى-: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:105], وقال -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29].
وإن من أعظم صفات نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) [الأعراف:157]. فهل أنت في شك من كونه خبيثًا؟ الدليل أنه خبيث أنك لا تدخن في بيوت الله، وإنما تقصد للتدخين بيوت الشياطين وأماكن قضاء الحاجة، وإذا أردت الدخان وأنت بين من لا يريده خرجت لأجله تاركًا مجلسك، مغلقًا مكتبك، متواريا عمن قد يقع نظره عليك، وإن صادفك أحد على هذه الحال ارتبكت في تصرفك، فواريتها خلف ظهرك، وصددت عنه بوجهك! والشيء الذي لا يسعفك الوقت لتخفيه خبث ريحها، ونتن دخانها. فيا سبحان الله! أي ذل هذا جررت على نفسك؟!...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وفق الراغبين في الخير، الحذرين من الشر... وأشهد ألا إله إلا الله...
أما بعد: أيها المدخن، بعد سماعك تلك الكلمات حول هذه السيجارة اللعينة لا أظن أنها أوقعت في قلبك كره الدخان، فأنت -ولله الحمد- كاره له منذ أن مسّك بعض أذاه، وعاينت شيئا من أضراره، وتيقنت حرمته، وعقلت إجماع علماء الشريعة وعلماء الطب وعلماء الاقتصاد وغيرهم على تحريمه، وأن المدخن مجرم في حق نفسه، وحق مجتمعه، وأخص الناس به من أولاده ومن له بهم اتصال. حقائق لا تنكرها. ولكن، هل ستترك الدخان؟ ستقول: إن شاء الله، عسى الله أن يهدينا. فأقول: هنيئا لك هذه الرغبة! فهلا رفعتها إلى همة وجهاد لتنال موعود الله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69].
وإياك أن تقول: جربت وعدت! فأقول: جرب ولن تعود بإذن الله، وقد جرب غيرك ولم يعودوا، وقد شربوا الدخان لسنين فتداركوا أعمارهم وصدقوا مع ربهم فهاهم الآن يولدون من جديد! حياة ملؤها الطهر والنظافة وطيب الرائحة. فخذ بالخطوات الجادة، بعد الهمة الصادقة، وسؤال الله العون.
فابتدئ مشروعك من الآن، ورمضان خير فرصة معينة لك على الخروج من هذه الورطة، ولا أملك أن أقول: ابدأ في رمضان؛ لأني لا أضمن لك ولا لي بقاء لحظة واحدة، ولكن المؤمن يأخذ نفسه بالحزم، ويستغل الأوقات المباركة والمواسم الربانية، ويسأل حسن العاقبة.
أيها الأخ المبارك، أيها الغيور على أبناء مجتمعه: بقي أن تعرف أنه قد ثبت أن خلف كل سيجارة عادية سيجارة حشيش أو حبة مخدر! فحسبنا الله على الظالمين، ووقانا شرور المفسدين.
ولذا أدرك الغيورون في جمعية مكافحة التدخين (أمان) فأضافوا إلى مكافحة التدخين مكافحة المخدرات؛ لأن الخبيث لا يأتي إلا بخبيث مثله أو أشد.
أيها الإخوة: تابع الناس ضبطيات وزارة الداخلية في البيان المعلن يوم الثلاثاء لستة أشهر مضت، وقد وفقها الله فحالت بين ملايين الأقراص المخدرة، وأطنان الحشيش، كانت سوف تأخذ طريقها إلى أبناء هذا البلد. فما أعظم المصيبة! لولا الله وحمايته لنال المفسدون منا شيئاً كثيراً.
فاللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء...