البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
سنة الاستبدال تتخلص في عبارة وجيزة الكلمات ضخمة الآثار والأبعاد أن الجيل القائم إذا تخاذل عن نصرة الدين، والقيام بواجب الدفاع عن المقدسات، والذب عن حياض الدين، وانغمس في الدنيا وشهواتها، ورضي بها عن الآخرة، ونسي مهمته التي خلق من أجلها - فإن الله -عز وجل- يستبدل هذا الجيل ويأتي بأجيال وأمم أخرى تقوم بالدين حق القيام وتؤدي مهمة الاستخلاف في الأرض ..
الحمد لله مقلب الليل والنهار، ومسخر السحاب ومنزل الأمطار، ومجري البحار ومفجر الأنهار، الذي كل شيء عنده بمقدار، مجيب دعوات المستغفرين بالأسحار، وسامع نداء من دعاه ورجاه في الحواضر والقفار، وهو العفو الغفار، والصلاة والسلام على رسول الأنوار، الذي نزل عليه الوحي بالغار، فكان دليلا للجنة وجنة من النار، وعلى آل بيته وأزواجه الأطهار، وصحابته الغر الميامين الأخيار، وعلى من سار على نهجه واتبع سنته ما أقبل ليل وطلع نهار.
أما بعد:
عباد الله أتباع محمد بن عبد الله: إن لله -عز وجل- سننا في خلقه وفي كونه لا تتبدل ولا تتخلف أبدا، دلنا عليها الله -عز وجل- في كتابه وسنة نبيه صلوات ربي وتسليماته عليه، وهي السنن التي تعمل في الجماعات والأفراد والشعوب والأمم بأسرها، والله -عز وجل- يريد منا أن نفقهه هذه السنن ونتتبع آثارها في الأمكنة بالسعي والسير، وفي الأزمنة بالاعتبار بالتاريخ والأحداث، قال جل وعلا: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدي وموعظة للمتقين ) [آل عمران:137-138]، وقال: (يريد الله ليبين لكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم) [النساء:26] وقال: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) [فصلت].
وللسنن الإلهية خصائص لابد من وعيها ومعرفتها لفهم طبيعة عملها في خلق الله، لأنها كاشفة لمستقبل الأمة، وتظهر بوضوح مصير وعاقبة كل فريق، ولقد ميز الله تعالى: سننه بعدة أمور لابد من معرفتها منها:
أنها قدر سابق فلا يملك أحد ردها أو تغييرها مهما كان قال تعالى: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً) [الأحزاب:38].
ومنها: أنها لا تتحول ولا تتغير، قال تعالى: (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) [الأحزاب: 62] وقال: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً * سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) [الفتح:23].
ومنها: أنها ماضية بلا توقف قال تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين) [الأنفال: 38].
ومنها: أنها لا تخالف ولا تنفع مخالفتها، كما لا ينتفع بها المعاندون ولكن يتعظ بها المؤمنون.
ومنها -ومن أعظم خصائصها-: أنها تسري على الجميع البر والفاجر، المؤمن والكافر، فهي لا تعرف جورا أو محاباة، فالجميع أمام محكمة السنن سواء حتى الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: (ذلك هدي الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون * أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين) [الأنعام:88-89].
وفي الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن الحارث الأشعري، ما يدل على مدي سريان هذه السنن على الجميع، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكأنه أبطأ بهن. فأوحى الله إلى عيسى إما أن يبلغهن أو تبلغهن، فأتاه عيسى فقال له: إنك أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن، فقال له يا روح الله إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد...".
فهذا نبي الله -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم-، خاف إن تأخر عن البلاغ أن يستبدله الله -عز وجل- ويأتي بغيره، فما بالكم بمن هم دون ذلك بكثير!
أيها المسلمون: إن من أكبر وأعظم سنن الله -عز وجل- في الأمم والجماعات والأفراد هي سنة الاستبدال التي جعلها الله -عز وجل- سبيلاً من سبل نصرة دينه وإعزاز شريعته والدفاع عن الرسول صلي الله عليه وسلم وسنته، وهي من أكثر السنن ذكرا في كتاب الله -عز وجل-، وأكثر السنن عملا في الأمم والجماعات.
فما هي يا تري سنة الاستبدال؟
سنة الاستبدال تتخلص في عبارة وجيزة الكلمات ضخمة الآثار والأبعاد أن الجيل القائم إذا تخاذل عن نصرة الدين، والقيام بواجب الدفاع عن المقدسات، والذب عن حياض الدين، وانغمس في الدنيا وشهواتها، ورضي بها عن الآخرة، ونسي مهمته التي خلق من أجلها - فإن الله -عز وجل- يستبدل هذا الجيل ويأتي بأجيال وأمم أخرى تقوم بالدين حق القيام وتؤدي مهمة الاستخلاف في الأرض كما أمر الله ورسوله صلي الله عليه وسلم.
وهذا ظاهر في آيات كثيرة منها قوله -عز وجل- (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) [المائدة: 54]، وقال -أيضا-: (ألا تنفروا يعذبكم عذابا إليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير) [التوبة: 39] وقال: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) [محمد: 38].
والآيات كلها بدأت بمخاطبة الفئة المؤمنة حتى لا يظن البعض أن هذه السنة وأمثالها إنما هي فقط للكافرين والمعاندين، كلا والله، فإن السنن أول ما تدور فإنما تدور على الأمة المسلمة التي أخذ الله على عاتقها أمانة التكليف وحمل الرسالة للعالمين.
وهذه السنة الجارية كان لها عشرات بل قل مئات الأمثلة عبر تاريخ البشرية، فانتبهوا أيها المسلمون أن تجري فيكم السنن وأنتم لا تعلمون، فخلي ذهنك -يا عبد الله-، وأعرني قلب وعقلك وفكرك، ولا تعرني فقط أذنيك، للتدبر في حوادث التاريخ المليئة بالعبر والعظات.
فكم من دولة كانت قوية منتصرة وظاهرة على أعدائها أذهبها الله مع الذاهبين وصارت عبرة للأوليين والأخريين، فالدولة الأموية عندما كانت دولة مجاهدة معنية بنشر الدين في المشرق والمغرب لم تستطع الثورات الضخمة التي قامت ضدها أن تسقطها وإنما أسقطها الفساد وانتشار العصبية الجاهلية بين بطون العرب، فاستبدلها الله -عز وجل- بالدولة العباسية.
والعباسيون عندما انشغلوا بالصراع على الحكم والانغماس في الترف استبدلهم الله بعدة دويلات مجاهدة مثل الدولة الغزنوية وسلطانها العظيم محمود بن سبكتكين، والدولة السلجوقية وسلطانها العظيم طغرلبك ومن بعده مثل ألب أرسلان وملكشاه، وملوك الطوائف في الأندلس عندما اختلفوا وانغمسوا في الملذات والشهوات استبدلهم الله بالمرابطين المجاهدين الذين جاءوا من قلب الصحراء المغربية لنصرة الإسلام في الأندلس وانتصروا على الأسبان في معركة الزلاقة سنة 479، والمرابطين أنفسهم لما نسوا الجهاد وانشغلوا بالدنيا استبدلهم الله بالموحدين، والمماليك لما نسوا رسالتهم الجهادية في خدمة الدين والتي كانت سبب شهرتهم بين الناس استبدلهم الله بالعثمانيين، وهكذا الأمثلة على ذلك أكثر من الحصر
ولا يقتصر الاستبدال على الدول فحسب بل على الجماعات والدعوات والأفكار والمناهج فما من دعوة تضل وتحيد عن سبيل الله إلا استبدلها الله سبحانه بدعوة نقية وفتية، وخير دليل على ذلك دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، والتي استبدل الله -عز وجل- بها كل الدعوات التي حادت عن طريق الحق وجعلها منارة هداية وإرشاد إلى العالمين إلى يوم الدين.
فالحذر الحذر -يا عباد الله- أن تعمل فينا سنة الاستبدال من حيث لا ندري، الحذر يا عباد الله من السير في طريق الهلاك فيحق علينا قول ربنا، وبادروا بالأعمال الصالحة والدعوات الخالصة قبل أن نستبدل من حيث لا ندري أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى كل من سار على نهجه ودافع عن سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: ونحن نجول بخواطرنا في عباب التاريخ، ونلقب صفحات كتابه الكبير، لابد أن نقف عند سؤال كبير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، هذا السؤال هو: أين العرب؟
نعم؛ أين هم ابتداء من القرن الثالث الهجري؟ فالإسلام أول ما نزل نزل على العرب وبلسانهم وفي عقر دارهم، وكانوا هم أول من آمن ونصر وهاجر وجاهد، ولكن لم تلبث بهم الفتن والخطوب وفساد ذات البين في أواخر عهد الراشدين شيئا فشيئا حتى خرجوا من التاريخ وعلى ما يبدو إلى غير رجعة، وأصبحت الأحداث الجسام في الأمة يقودها غير العرب، فألب أرسلان محطم الدولة البيزنطية وبطل معركة ملاذكرد تركي، ويوسف بن تاشفين قاهر الأسبان وبطل معركة الزلاقة بربري، وعماد الدين زنكي قاهر الصليبيين وبطل معركة الرها تركي، وولده نور الدين محمود المقلب بالشهيد السعيد تركي، وصلاح الدين قاهر الصليبيين ومحرر بيت المقدس وبطل حطين كردي، ومحمود بن سبكتكين قاهر الهندوس وبطل معركة سومنات تركي، وشهاب الدين الغوري بطل معركة لاهور وقاهر الهندوس بشتوني أفغاني، وظهير الدين بابر شاه قاهر البراهمة الراجبواتا وبطل معركة باني يبات مغولي تركي، ومراد الأول وبايزيد الصاعقة ومراد الثاني ومحمد الفاتح وسليم الأول وسليمان القانوني كلهم من العثمانيين الأتراك.
فأين هم العرب من نصرة الإسلام والقيام بواجب الدفاع عن الأمة؟ وأخيرا أين العرب من قضية نصرة فلسطين وأبنائها المحاصرين المغلوبين الآن؟، فالصهاينة عليهم لعائن الله المتتابعة، أحفاد القردة والخنازير يعربدون في بلادنا ومنطقتنا منذ عشرات السنين، ويسفكون الدماء بالمجازر الواحدة تلو الأخرى، ولا يستطيع أحد من العرب أن يردعهم أو يحقق مكاسب ضدهم بعد أن تفرق العرب وأصبح بأسهم بينهم شديد، فما من دولة عربية إلا ومع جارتها مشاكل على الحدود وصراعات جانبية أضرت بالقضية الفلسطينية أيما ضرر حتى قيض اله -عز وجل- للمستضعفين من أهل فلسطين والمحاصرين من أهل غزة قوماً آخرين ينصروا الدين ويدافعوا عن المسلمين، وهم الأتراك الذين تذكروا تاريخهم المجيد وإرثهم العظيم كقادة وخلفاء للعالم الإسلامي.
واستبدل الله -عز وجل- العرب بالأتراك فصاروا الآن من أكبر أنصار الإسلام والمسلمين والقضية الفلسطينية، لا لشيء إلا لأنهم تذكروا واجبهم تجاه الأمة الإسلامية، وقاموا بما أمرهم الله به وخلقهم من أجله وتحملوا أمانة الاستخلاف في الأرض، وبرهنوا على صدق نواياهم بأنهم تحدوا كل الصعاب وأقدموا هم والأحرار من كل مكان في العالم على كسر الحصار وكسر الغطرسة الصهيونية معه أيضا، وبذلوا في سبيل ذلك دماء أبنائهم التي سفكت ظلما وعدوانا في مجزرة الحرية، كما ضحوا بالكثير من مصالحهم الحيوية مع أمريكا وإسرائيل، ليس من أجل الشهرة أو المال أو أي مصالح آخري ولكن من أجل نصرة الإسلام والمسلمين.
أيها المسلمون: إن السنن الإلهية ومنها: سنة الاستبدال لا تعمل فجأة بين ليلة وضحاها، وإنما تعمل ببطء وعلى سنوات بعيدة لا تلحظها إلا أعين الصالحين والعقلاء، وذلك حتى لا يغتر البعض ويظن أنه بخذلانه إخوانه المستضعفين والمحاصرين وهو في نفس الوقت في أمان ورفاهية، لا يظن أبدا أنه بمنجي من مطارق السنن الإلهية، لأنه هذا التلبد وانعدام الشعور بالمسئولية تجاه آلام المسلمين وأحزانهم لهو أولى علامات الاستبدال الذي سيصيب الأمة العربية، وهو ما جرى بالفعل ونحن لا نشعر ففجأة أصبح العرب خارج القضية الفلسطينية وأصبح الصراع بين الصهاينة والأتراك، ويا له من مصير إليم.
فالله -عز وجل- نسأل في عليائه أن ينصر الإسلام والمسلمين ويذل الشرك والمشركين، اللهم انصرنا ولا تنصرنا علينا، واللهم استعملنا ولا تستبدلنا، اللهم اجعلنا جندا من جنودك تستعملهم لنصرة الدين والدفاع عن المستضعفين، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة وعند الموت شهادة ويوم القيامة جنة وريحان، أقم الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا.