الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
تأمل كيف أمر الإسلام بمصاحبة هذين الوالدين بالمعروف, مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به -وهو الإشراك بالله-, فما الظنُّ بالوالدين المسلمَين, ولا سيما إنْ كانا صالحين؟! تاللهِ إن حقهما لمن أشدِّ الحقوق وآكدِها, وإن القيام به على وجهه الصحيح من أصعبِ الأمور وأعظمِها, فالمُوفَّق مَنْ هُدي إليها, والمحروم كلَّ الحرمان مَنْ صُرِف عنها...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا, وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا.
أما بعد: يُعرَّف بر الوالدين, بأنه: الاعتناء بأمرهما, والقيام بمصالحهما؛ من قضاء دين, وخدمة, ونفقة, وغير ذلك من أمور الدين والدنيا.
وفضل الوالدين كبير, وإحسانهما سابق وعظيم, وكُلُّنا يذكر رعايتهما لنا حال الصغر وضعفِ الطفولة, والله -تعالى- أمر بالاعتناء بالوالدين والقيام بمصالحهما, ومصاحبتهما بالمعروف حتى وإن كانا كافرين, فلا يختص بِرُّهما بكونهما مسلِمَين؛ بل يجب بِرُّهما وإن كانا كافرين, فعن أسماءَ بنت أبي بكرٍ الصديق -رضي الله عنهما- قالت: قَدِمَتْ أُمِّي وَهْيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ، إِذْ عاهَدَهُمْ, فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهْيَ رَاغِبَةٌ, أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ"(رواه البخاري ومسلم).
عباد الله: إن بر الوالدين من آكد وأعظم حقوق العباد التي أمر الله -تعالى- برعايتها, فقد جعله الله -تعالى- في المرتبة التي تلي حقَّه -سبحانه- في التوحيد, في ثلاثة مواضع من كتابه العزيز, منها: قوله -تعالى-:(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[الإسراء: 23]؛ تأمل كيف قرن اللهُ -تعالى- بِرَّ الوالدين بالتوحيد!.
لذا فإن رضا الرب من رضا الوالدين: قال رسول الله -صلى عليه وسلم-: "رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ, وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ"(رواه الترمذي), وفي رواية: "رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِينِ, وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا"(رواه الطبراني في "الكبير).
وبر الوالدين واجب ومؤكد عليه, حتى لو أمَراك بالكفر بالله, وألزماك بالشرك به -سبحانه-, قال الله -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[لقمان: 14, 15]؛ قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: إنْ حَرَصَا عليك كلَّ الحرص على أن تتابعهما على دينهما، فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعنَّك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً، أي: مُحسِنًا إليهما".
تأمل -أخي الكريم- كيف أمر الإسلام بمصاحبة هذين الوالدين بالمعروف, مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به -وهو الإشراك بالله-, فما الظنُّ بالوالدين المسلمَين, ولا سيما إنْ كانا صالحين؟! تاللهِ إن حقهما لمن أشدِّ الحقوق وآكدِها, وإن القيام به على وجهه الصحيح من أصعبِ الأمور وأعظمِها, فالمُوفَّق مَنْ هُدي إليها, والمحروم كلَّ الحرمان مَنْ صُرِف عنها.
أيها الأحبة الكرام: إن بر الوالدين من صفات الأنبياء -عليهم السلام-, فجميع الرسل والأنبياء بَرَرَة بوالديهم, وممن ذُكِر بِرُّهم في القرآن الكريم, نوح -عليه السلام-, حيث قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)[نوح: 28], وقال إبراهيم -عليه السلام-: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)[إبراهيم: 41].
ومن أروع أمثلة البِرِّ في تاريخ البشرية: استجابة إسماعيل لأبيه إبراهيم -عليهما السلام-, فلمَّا قال له أبوه: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)؛ فماذا كان رد ذلك الولد الصالح: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102], وقال الله -سبحانه- عن يحيى -عليه السلام-: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا)[مريم: 14], وقال عن عيسى -عليه السلام-: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)[مريم: 32].
وهذا سيد الأنبياء وخاتمهم -صلى الله عليه وسلم- زار قبر أمه, فبكى وأبكى مَنْ حوله, ثم قال: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي, وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي" (رواه مسلم).
عباد الله: إنَّ بر الوالدين مقدَّم على الجهاد في سبيل الله -تعالى-, والذي هو ذروة سنام الإسلام, فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ, فَقَالَ: "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟", قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ" (متفق عليه), وفي لفظ لمسلم: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ؛ أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ, قَالَ: "فهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟". قَالَ: نَعَمْ بَلْ كِلاَهُمَا, قَالَ: "فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ", قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا".
فالابن إذا بلغ جهده في برهما والإحسان إليهما, وآثر هواهما على هواه؛ فإن ذلك يقوم مقام الجهاد في سبيل الله.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ, فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده, وآله وصحبه ومن تبعه.
أيها الأحبة الكرام: إنَّ بر الوالدين من أفضل الأعمال, عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا", قُلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ", قُلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"(رواه البخاري).
وبر الوالدين من أسباب دخول الجنة, عن أبي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ, فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ"(رواه الترمذي), وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ -رضي الله عنهما-, أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ, وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ, فَقَالَ: "هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ", قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "فَالْزَمْهَا؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا"(رواه النسائي)؛ أي: نصيبك من الجنة لا يصل إليك إلاَّ برضاها, وكأنه لها وهي قاعدة عليه, فلا يصل إليك إلاَّ من جهتها, وفي لفظ: "أَلَكَ وَالِدَانِ؟", قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "الْزَمْهُمَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ أَرْجُلِهِمَا"(رواه الطبراني).
ومن بر الوالدين إدخال السرور عليهما, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ, وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ, فَقَالَ: "ارْجِعْ عَلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا"( رواه أبو داود).
ولعظم حق الوالدين كان الولدُ وما مَلَك لوالديه, عن عبدِ الله بنِ عمرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ أَبِي اجْتَاحَ مَالِي, فَقَالَ: "أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ", وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ"(رواه ابن ماجه).
ولعظم حقهما أكرم الله مَنْ بَرَّهما بإجابة دعواته وتفريج كرباته, ومن ذلك: حديث الثلاثة الذين انحدرت عليهم صخرة عظيمة, فأغلقت عليهم باب الغار؛ فإن منهم رجلاً كان بَرًّا بوالديه, فتوسل بذلك العمل الصالح فاستجاب اللهُ دعاءه, عن عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ, حَتَّى آواهم الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ, فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ, فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلاَ مَالاً -أي: مَا كُنْت أُقَدِّم عَلَيْهِمَا أَحَدًا فِي شُرْب نَصِيبهمَا عِشَاءً مِنْ اللَّبَن، وَالْغَبُوق: شُرْب الْعِشَاء، وَالصَّبُوح: شُرْب أَوَّل النَّهَار-, فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ, وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا, حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ"(رواه البخاري).
وفي بر الوالدين سعة للرزق, وطول للعمر: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ, أَوْ يُنْسَأَ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" (رواه مسلم), وبر الوالدين أعظم صور صلة الرحم.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].