الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الله الواكد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
لغةُ خاتِمِ الأنبياءِ والمرسلينَ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-. فهي لغةٌ غنيةُ المفرداتِ، وارفةُ المترادفاتِ، لها عذوبةٌ في النطقِ، ونغمٌ في اللفظِ، وجمالٌ في التعبيرِ. أشادَ بها أدباءُ العالمِ منْ غيرِ أهلِها، استوعبتْ جميعَ مصطلحاتِ الحضارةِ القديمةِ، حتَّى أنَّ المناهجَ العلميةَ في...
الخطبة الأولى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) [الكهف: 1].
وأشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لاَ شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ، أفصحُ العربِ لساناً، وأبلغُهُمْ بياناً، صلىَّ اللهُ عليهِ وسلمَ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلَى يومِ الدينِ.
أمّا بعدُ:
فأوصيكُمْ -عبادَ اللهِ- ونفسِي بتقوَى اللهِ -عزَّ وجلَّ- القائلِ: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الزمر: 27- 28].
أيها المسلمون: إنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ هيَ إحدى اللغاتِ القديمةِ المعروفةِ باللغاتِ الساميةِ نسبةً إلى سامِ بنِ نوحٍ -عليهِ السلامُ-، وهذهِ اللغاتُ هي: الكنعانيةُ والفينيقيةُ والعبريةُ والآراميةُ والنبطيةُ والبابليةُ والكلدانيةُ والهيروغلوفيةُ والحبشيةُ، ولقدْ بادتْ كلُّ هذهِ اللغاتِ وانقرضتْ إلا اللغةَ العربيةَ، فلقدْ سادتْ وانتشرتْ، فاللغةُ العربيةُ الآنَ ملءُ الأسماعِ وملءُ القلوبِ، يتكلمُ بها مئاتُ الملايينِ منْ سكانِ هذهِ الأرضِ، وتهوي إليها قلوبُ آلافِ الملايينِ منَ المسلمينَ؛ لأنَّها لغةُ القرآنِ، قال تعالى: (لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء: 10].
ولغةُ خاتِمِ الأنبياءِ والمرسلينَ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-.
فهي لغةٌ غنيةُ المفرداتِ، وارفةُ المترادفاتِ، لها عذوبةٌ في النطقِ، ونغمٌ في اللفظِ، وجمالٌ في التعبيرِ.
أشادَ بها أدباءُ العالمِ منْ غيرِ أهلِها، استوعبتْ جميعَ مصطلحاتِ الحضارةِ القديمةِ، حتَّى أنَّ المناهجَ العلميةَ في الحضارةِ الأوروبيةِ أولُ ما انطلقتْ باللغةِ العربيةِ؛ لأنَّها أداةٌ فريدةٌ لنقلِ روائعِ الخيالِ، وبدائعِ الفكرِ.
ولماَّ دخلَ الناسُ في دينِ اللهِ أفواجاً وانتشرَ الإسلامُ في كُلِّ مكانٍ أثَّرتْ هذهِ اللغةُ العظيمةُ باللغاتِ الأوروبيةِ، وغيرِها، كاللغةِ التركيةِ والفارسيةِ، وعمومِ اللغاتِ اللاتينيةِ، وانسابتْ بعضُ مفرداتِها الجميلةِ في تلكَ اللغاتِ، حتى أصبحتْ في العصورِ الوسطى هيَ لغةُ الفلسفةِ والطبِّ والعلومِ الأخرى، وأصبحتْ لغةً دُوليةً للحضارةِ.
وفي القرنِ السادسِ عشرَ والسابعِ عشرَ الهجريِّ تقريباً فرضتْ بعضُ الدولِ الأوروبيةِ تدريسَ اللغةِ العربيةِ في بلدانِها.
ولماَّ أحسَّ الغربُ بخطورةِ ذلكَ على ثقافَتِهم وعلى مجتمعاتِهم، وذلكَ أوائلَ القرنِ التاسعِ عشرَ الميلاديِّ تقريباً، بدأتْ حملاتُ التغريبِ لهذهِ اللغةِ على أيدي كُتَّابٍ ومفكرينَ أجانبَ.
ثم حَملَ لواءَ هذهِ الدعواتِ التغريبيةِ -وللأسفِ الشديدِ- كُتَّابٌ مِنْ بني جلدتِنا، وقَدْ قدَّمَ بعضُهُم مشروعاً في مِصرَ بأنْ تُكتبَ اللغةُ العربيةُ بالحروفِ اللاتينيةِ، فقوبِلَ ذلكَ المشروعُ المأفونُ مِنْ حُماةِ الدينِ وحُماةِ اللغةِ العربيةِ والذائدينَ عنها في مِصرَ بالسخطِ والنكيرِ، فلم يجدْ ذلكَ المشروعُ قبولاً في مِصرَ، ولكنَّهُ وجدَ قُبولاً في تركيا وأندونيسيا والصومال، فاستبدلوا الحروفَ العربيةَ بالحروفِ اللاتينيةِ.
ولا تزالُ حملاتُ التغريبِ تتوالى على لُغتِكُم العربيةِ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وصَوبٍ، مِنَ الغربِ ومِنْ بني جلدتِنا ، فلولا حِفظُ اللهِ لها بالقرآنِ لكانتْ أثراً بعدَ عينٍ.
أيها المسلمونَ: يَدَّعِي دعاةُ التغريبِ في بلادِنا والحاقدونَ علينا مِنَ الأجانبِ أنَّ اللغةَ العربيةَ، هذهِ اللغةَ التي استوعبتْ كلامَ اللهِ القرآنَ واستوعبتْ شريعةَ اللهِ، غيرُ قادرةٍ على استيعابِ مصطلحاتِ الطبِّ والهندسةِ والعلومِ الأخرى، وأنَّها لغةُ دينٍ وأدبٍ فقط، وهذا -واللهِ- مِنَ الحقدِ الدفينِ، ومِنَ العداءِ الظاهرِ البيِّنِ لهذهِ اللغةِ وأهلِها، فاللغةُ العربيةُ بقوةِ ألفاظِها، وشساعةِ تراكيبِها، قادرةٌ إلى حدِّ الإعجازِ في صياغةِ المعاني والألفاظِ.
وفي اللغةِ العربيةِ امتحانٌ للمسلمينَ، فمَنْ أحبَّ هذهِ اللغةَ فإنَّما أحبَّ اللهَ ورسولَهُ فهيَ لغةُ القرآنِ ولغةُ السنةِ.
ومن خصائصِ هذهِ اللغةِ: أنَّها لغةٌ ثريَّةٌ جداَّ تنبعثُ التراكيبُ المختلفةُ للكلماتِ مِنَ الأفعالِ نفسِها بقوةٍ عجيبةٍ وثراءٍ منقطعِ النظيرِ، فهيَ لغةٌ لها صلةٌ وثيقةٌ بالطبيعةِ وبالبيئةِ التي نشأتْ وتكونتْ منها، فمِنَ البيئةِ وأصواتِها الطبيعيةِ نشأتِ الكثيرُ منَ الأفعالِ والأسماءِ، حتى كأنَّ الإنسانَ وهو يتكلمُ بهذهِ اللغةِ الجميلةِ يشعرُ أنَّهُ جزءٌ مِن هذهِ البيئةِ، ولهذهِ اللغةِ صلةٌ وثيقةٌ وترابُطٌ مُحكمٌ بالمجتمعِ الذي نشأتْ وتطورتْ فيهِ؛ لأنَّ المجتمعَ العربيِّ الذي سادتْ فيهِ اللغةُ العربيةُ، لهُ نمطٌ شجريٌّ فيهِ اتساعٌ وترابُطٌ وانحدارٌ، فهوَ مجتمعٌ يختلفُ عنِ المجتمعاتِ الأخرى، فيهِ تفاصيلٌ كثيرةٌ، فهوَ قبائلُ وأنسابٌ وبطونٌ وأفخاذٌ، وأسرٌ ومجتمعاتٌ، وعلى صورةِ هذا المجتمعِ الرَّحِبِ انبرى الكلامُ، وجرى اللسانُ، ونَمتْ ألفاظُ لغةِ الضادِ في وسَطٍ فسيحٍ، وبيئةٍ ثريةٍ تُنبِتُ الألفاظَ، ويتقارعُ أهلُها بنوادِرِ الكَلِمِ وفصيحِ اللسانِ، والشعرِ والنثرِ الذي لا يزالُ محفوظاً حتى اليومَ، حفظَهُ كمالُهُ، وحسنُهُ وجمالُهُ.
فهذهِ لغتُنا -أيها المسلمونَ- يَنبغي عليناَ جميعاً أنْ نهتمَّ بِهاَ، وأنْ نُعلِّمَها ونَتعلَّمَها، وذلكَ مِنْ منطلَقٍ دينيٍّ وليسَ من منطلَقٍ قوميٍّ؛ لأنَّ ارتباطَ علمِ اللغةِ بالدينِ يجعلُها أقوى انتشاراً، ولأنَّ قراءةَ القرآنِ وفهمَهُ وفهمَ السُنَّةِ متوقفٌ على فَهمِ الإنسانِ للغةِ العربيةِ، ولقدْ أفتى الإمامُ الشافعيُّ -رحمهُ اللهُ- في كتابِهِ: "الرسالةِ" بأنَّ تعلمَ اللغةِ العربيةِ فرضٌ على كلِّ مسلمٍ عربياً كانَ أمْ أعجمياًّ، كما أفتى بذلكَ شيخُ الإسلامِ بنُ تيميةَ -رحمهُ اللهُ- في كتابِهِ: "اقتضاءِ الصراطِ المستقيمِ" وقالَ بهِ وأكَّدَهُ الشاطبيُّ في كتابيْهِ: "الاعتصامِ"، و"الموافقاتِ"، فما لا يتمُّ الواجبُ إلاَّ بهِ فهوَ واجبٌ.
وبهمةِ هؤلاءِ الجهابذةِ مِنَ العلماءِ، تعلَّمَ العربيةَ الفارسيُّ والتركيُّ والهنديُّ، وشاركُوا في بناءِ الحضارةِ الإسلاميةِ التي دامتْ زُهاءَ عشرةِ قرونٍ مِنَ الزمنِ.
ولقدْ شَهِدَ المنصِفونَ مِنَ الكُتَّابِ الأجانِبِ كصاحبِ كتابِ: "تراثِ الإسلامِ" أنَّ اللغةَ العربيةَ لغةٌ عبقريةٌ لا تدانيها لغةٌ في مرونتِها واشتقاقاتِها.
وقدْ بلغتْ حروفُ اللغةِ الروسيةِ خمساً وثلاثينَ حرفاً، ولكنَّها مع ذلكَ لم تبلغْ ما بلغتْهُ العربيةُ مِنْ مخارجَ ونبراتٍ، وما حملتهُ مِن معاني وكلماتٍ.
أيها المسلمون: أكدتْ دراسةٌ حديثةٌ في علمِ الأصواتِ أنَّ اللغةَ العربيةَ فاقَتْ جميعَ اللُّغاتِ الحيَّةِ قاطبةً، كَما أنَّ اللغةَ العربيةَ على درجةٍ عاليةٍ من التنظيمِ في مخارِجِها وأصواتِها ومقاطِعِها ونبراتِها وتنغيمِها وصرفِها وإعرابِها، كما أنَّ لها قدرةً عجيبةً في الاقتصادِ والإيجازِ، لا يجاريها في ذلكَ لغةٌ أخرى.
ومنْ خصائِصِها: أنها لغةٌ ولودةٌ، تلدُ الألفاظَ الجديدةَ، وتستوعبُ المصطلحاتِ عن طريقِ الإشتقاقِ والمجازِ والإلصاقِ.
كما أنَّ لها نغمٌ خلابٌ تدركُهُ الأذنُ ولو كانَتْ غيرَ عربيةٍ.
ولِلُّغةِ العربيةِ قدرةٌ عجيبةٌ في النحتِ مثلُ البسملةِ من "بسم الله"، والحوقَلَةِ مِنْ "لا حولَ ولا قوةَ إلاَّ باللهِ"، ولهَا القدرةُ على الترجمةِ وعلى التعريبِ.
ولقدْ أحصى الخليلُ بنُ أحمدَ في سنةِ مائةٍ وأربعةَ عشرَ للهجرةِ ألفاظَ اللغةِ العربيةِ فوجدَهَا ستةَ ملايينَ وستمائةَ وتسعةً وتسعيَن ألفاً وأربعمائةَ لفظٍ، أُستُعْملَ مِنْ تلكَ الألفاظِ آنذاكَ ستٌّ وسبعونَ في المائةِ فقطْ.
فكم يا تُرى يَستَخدِمُ الناسُ في هذا الزمانِ مِنْ هذهِ الثروةِ الهائلةِ؟ لا أظُنُّهُ يتجاوزُ العشرةَ بالمائةِ؟
إنَّها لغةُ القوةِ والجمالِ، لغةُ العراقةِ والأصالةِ، لو قرأَ العربيُّ شعراً كُتبَ في الجاهليةِ قبلَ الإسلامِ لفَهِمَهُ، ولكنَّ الألمانيَّ مثلاً لا يستطيعُ فهمَ كلمةٍ واحدةٍ مِنْ كلامِ أجدادِهِ قبلَ ألفِ عامٍ، فما أعظمَها من لُغَةٍ، حقيقٌ بأهلِها أنْ يلزمُوها، وجديرٌ بهم أنْ يحفظُوها.
أقولُ قولِي هذَا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُمْ فاستغفرُوهُ...
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ خلقَ الإنسانَ, علَّمَهُ البيانَ، وأشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لاَ شرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أرسَلَهُ ربُّهُ بلسانٍ عربِيٍّ مبينٍ ليكونَ هدًى ورحمةً للعالمينَ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ علَى سيِّدِنَا محمَّدٍ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.
أما بعدُ:
فأوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ القائلِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المسلمونَ: لقد توسَّعَ الناسُ في استخدامِ اللهجةِ العاميةِ، وأصبحوا لا يستطيعونَ الحديثَ إلا بِهاَ، واللهجة العاميةُ معولُ هدمٍ للغةِ العربيةِ الفصحى، حتى أصبحَ للغةِ العاميةِ قنواتٌ، وصارَ الواحدُ مناَّ لا يُحسِنُ إيصالَ ما في نفسِهِ للآخرينَ إلا بالعاميةِ، حتى أُفردَ للهجةِ العاميةِ أعمدةٌ في الصحفِ، وبرامجُ في القنواتِ، ونحنُ نعلمُ أنَّ الناسَ لا يستطيعونَ تركَ اللهجةِ العاميةِ بسهولةِ، لكنْ ينبغي علينا أنْ نقتصدَ فيها، فلا نسمحُ للعاميةِ أنْ تَنْموَ فتكونَ في المدارسِ ودورِ العلمِ، واللقاءاتِ والاجتماعاتِ الرسميةِ.
عبادَ اللهِ: مَا أعظمَ هذِهِ اللُّغةَ العربيةَ الَّتِي نزَلَ القرآنُ الكريمُ بِهَا، وحُقَّ لأهلِهَا أنْ يفخَرُوا بِهَا، حُقَّ لنا أنْ نفخرَ بها، ونتمسَّكَ بِهَا، ونَعَضَّ عليهَا بالنَّواجذِ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْه، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
ويَقُولُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عليهِ بها عشرا".