البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
والأمم والجماعات في هذا القانون كالأفراد والأشخاص سواء بسواء، فالأمة التي لديها ثروة معنوية طائلة، أو التي تملك تراثا حضاريا خصبا، تعتبر أمة غريبة إذا نسيت ما لديها من كنوز، وما تقتنى من مصادر الغنى المادي والأدبي، ثم حاولت الالتحاق بجبهة شرقية أو جبهة غربية، أو اصطبغت بلون من هذه الألوان التي تلقب حينا باليمين أو حينا باليسار بعد أن شرفها الله بصبغة واحدة: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فقد اتفق أصحاب الفطر السليمة على أن الإنسان إذا تسول وكان لديه في بيته ما يكفيه ويغنيه، فهو شخص غريب الأطوار، شاذ المسلك؛ فإذا احترف التسول مع وجود ما يكفيه يقينا، وما يغنيه، فهو شخص مريض يستحق العلاج، أو مجرم يستحق العقاب.
والأمم والجماعات في هذا القانون كالأفراد والأشخاص سواء بسواء، فالأمة التي لديها ثروة معنوية طائلة، أو التي تملك تراثا حضاريا خصبا، تعتبر أمة غريبة إذا نسيت ما لديها من كنوز، وما تقتنى من مصادر الغنى المادي والأدبي، ثم حاولت الالتحاق بجبهة شرقية أو جبهة غربية، أو اصطبغت بلون من هذه الألوان التي تلقب حينا باليمين أو حينا باليسار بعد أن شرفها الله بصبغة واحدة: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) [البقرة:138].
إن الأمة الإسلامية بالذات أمة أفاء الله عليها من المبادئ والقيم، من المشاعر الناضرة في قلبها، والأفكار الذكية في عقلها، ما يجعلها تعطي ولا تأخذ، وما يجعل يدها العليا لا السفلى، وكل ما تحتاج إليه أن تعرف نفاسة ما عندها، وعظمة ما زودتها الأقدار به.
ولذلك جاء في القرآن الكريم تساؤل إنكاري، تساؤل فيه توبيخ لأولئك الذين يتطلعون إلي شيء آخر غير ما لديهم، وما لديهم كبير لأنه تراث السماء، وثروة خاتم الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- واسمعوا إلي هذا التساؤل في كتاب الله عز وجل: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) [الأنعام:114]. الكتاب مفصل لم يدع شيئا، قال تعالي: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل:89].
يقول إمام من أئمة الفقه: إن التشريع الإسلامي له أوصاف في كل ميدان عمل فيه، إنه تشريع يكون أحيانا مخبرا، ويكون أحيانا منشئا، ويكون أحيانا مصلحا. متي يكون هذا التشريع مخبرا؟ يكون مخبرا في ميدان الاعتقاد، أي في أصول الإيمان، هنا نجد الوحي الأعلى يجيء بجمل إخبارية يقينية الحكم لا ريب فيها، مثل قوله تعالي: (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ) [الصافات:4] هذا خبر صادق، ومثل قوله تعالي: (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) [الذاريات:6] أي: إن الجزاء حق. في ميدان العقيدة جاء التشريع الإسلامي بأخبار، الصدق لبابها وعنوانها؛ قال تعالي: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87].
فالتشريع في ميدان العقيدة مُخبِر، وفى ميدان العبادة مُنْشِئ، أي: يكوِّن الإسلام صورا لعبادات جاء بها، كالصلاة مثلا، كونها من قيام وقراءة وركوع وسجود، ورتب على هذه المجموعة من الأقوال والأفعال آثارا نفسية بعيدة المدى، تشعر بعظمة هذه الآثار النفسية والاجتماعية عندما تعلم قول الله في الحديث القدسي: " إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مصرا على معصيتي، وقطع نهاره في ذكرى، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المصاب، ذلك نوره كنور الشمس...".
فالتشريع هنا منشئ؛ لأنه يكون صورا جديدة لم يألفها الناس من قبل، كما يكوِّن الطبيب مركبا كيماويا يكون به الدواء لعلل الأجساد عندما يصنعه من عناصر معينة. ويعود التشريع الإسلامي مصلحا في ميدان المعاملات، فإن الناس قبل الدين ووجوده كانوا يتزاوجون أو يتناسلون، وكانوا يتبايعون، فجاء الإسلام فوضع لهذه المعاملات، شخصية كانت أو عائلية أو اجتماعية أو دولية، وضع لها قواعدَ دقيقةً. فرفض في البيوع التغرير والغبن، وتعريض حقوق الناس للضياع، ونزلت أطول آية في القرآن الكريم كي ترشد الناس إلى أحكام مالية، في الديون وكتابتها، والبيوع والتجارات وإدارتها وهى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة:282].
هذه النواحي الثلاث: أن الدين مخبر في ميدان العقيدة، منشئ في ميدان العبادة، مصلح في ميدان المعاملات العامة، هي التي جعلت القرآن الكريم بعد أن قال الله رب العالمين: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) [الأنعام:114]، قال مبينا أن ابتغاء الحكم من غيره جهل وعجز. لماذا؟ قال في الآية التالية مباشرة: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام:115].
فالصدق والعدل كلاهما جوهر الشريعة الإسلامية، فمن خرج عليها، أو ابتعد عنها، أو طلب غيرها، فهو يطلب شيئا غير الصدق، ويطلب شيئا غير العدل، ولذلك يقول -جل شأنه- فيمن يطلبون غير الصدق، ويطلبون غير العدل: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الجاثية:7-10]، والإفك ضد الصدق، والإثم ضد العدل.
هذه حقائق نذكرها بين يدي ما سوف يشغل الأمة في الأيام المقبلة، بل ما بدأ يشغلها الآن من "ورقة الحوار" التي قدمها رئيس الدولة إلى أمتنا كي تفكر في مستقبلها، وتحدث بعض الناس فقال إنه ربما كان هذا التفكير مخططا لمصير أمتنا إلى نهاية هذا القرن، وطبعا الصحافة عندنا لا تعنى القرن الرابع عشر للهجرة، فإن التاريخ الهجري أهمل مع إهمال الإسلام كله، إنما يُقصد التاريخ الميلادي الذي استعلى في الأمة العربية والإسلامية، لأن الاستعمار العالمي هو الذي هيمن على مقدراتها المادية والأدبية، وفرض عليها أن تحترم تاريخه، وأن تستهين بتاريخها! والمهم أن هذه "الورقة" عندما تدرس فإنما تدرس لأن مستقبل الأمة القريب والبعيد مرتبط بها.
نحن نتبع دينا غنيا بأفكاره، خصبا بمبادئه، ونحن نعلم أن الفقيه في الإسلام يقتحم كل ندوة، وُيقْدِم على كل مناظرة أو مناقشة، وهو يعلم أن الحق ظهيره، وأن ما يمثل من ثقافة وما يحمل من قيم جدير بأن يُثْقِلَ كلَّ كفة يوضع فيها. وكل ما نريده أن يُحتَرَمَ الحق، قيل كلام في أن هناك أمورا ليست موضع مراجعة، ليكن، وهذه الأمور هي: الوحدة، والحرية والاشتراكية. وأنا أريد أن ألقى ضوءا على الكلمات الثلاث التي قيل إنها ليست موضع مناقشة!.
إن الكلمات الثلاث عندنا لها معانٍ شتَّى، وهى فوق المناقشة عندما ترتكز إلى تعاليم الإسلام، وعندما تستمد من ديننا، وعندما تستقى من منابعنا وحدها. لكن الكلمات الرجراجة التي يحاول البعض أن يكسبها ميوعة لا تثبت بها في قالب، ولا تنضبط بها مع مبدأ محدد، هي كلمات غريبة في ميدان التربية والتوجيه، ولا تصلح لشىء، نحن بداهة نريد أمة واحدة : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الإنبياء:92].
إن الأمة الواحدة هدفنا، وعليها ربينا، وكان ذلك مثلنا الأعلى طوال تاريخنا، بل نحن نعلم أن تمزيق أمتنا كان الفكر الأول للاستعمار العالمي، والقوى الشريرة التي تختبئ في طياته، وتتحرك وراء قوافله؛ تمزيق أمتنا غرض، ونجن نجمع، ولكن التجميع على الإسلام، أي عار في أن نتجمع على الإسلام؟.
إن أمة نبتت إلى جوارنا لم تخجل أن تنتسب إلى اليهودية! فإذا كان غيرنا لم يشعر بأى استحياء في أن يعتنق التوراة والتلمود، فلِم نستحي عندما نقول: يجب أن نعتنق الكتاب والسنة؟.
إن غيرنا لم يشعر باستحياء عندما أعاد الحياة إلى اللغة العبرية التي كانت جثة متعفنة زكمت روائحها الأنوف، رد إليها الحياة، وتكلم بها دون خجل، فما الذي يجعل اللغة العربية لغة منكورة في ميدان الثقافة، مستغربة في ميدان التخاطب العام؟ وما الذي يجعل هذه اللغة مقصاة في ميادين الطب والهندسة والعلوم، وشتى آفاق الحضارة الحديثة؟ إننا نريد الوحدة، ولكننا نقول: من ثلاثين سنة أو أكثر أو أقل اشتبكنا مع اليهود، وبدأت هزائمنا تترى، فما السبب؟ من حقنا أن ندرس الأسباب! من حق أي طبيب أن يدرس الجسم المعتل بين يديه، فإذا شخَّص العلة بحق لا بباطل، بصراحة لا بدجل، فإن وصف الدواء يجئ سهلا.
ونحن نريد أن نقول: إن اليهود انتصروا في معاركَ كثيرةٍ لأنهم اعتمدوا صراحة على عقيدتهم، أما نحن فإننا -إلى الآن- لا نريد أن نجعل الوحدة المنشودة على الأساس الإسلامي الفذ الذي تنبت عليه وتنمو فيه؛ كلمة الحرية كلمة جميلة. لكن، ما المقصود بالحرية؟ المقصود بالحرية حرية الفكر في أن يبحث، حرية الإنسان في أن يحتفظ بكرامته، وليست الحرية حرية الشهوة الحيوانية أن تنطلق، حرية بعض السفهاء من الرجال أو النساء أن يبيحوا تمزيق الأعراض، وأن يجعلوا بلدنا مفتوحة لإرضاء نزوات أصحاب النزوات...
الحرية حرية العقل لا حرية الهوى، تحديد المفاهيم أمر لابد منه، إذا قلنا الحرية فمعنى ذلك أن البلاد التي سُرقت تحت الشمس يجب أن يطرد سارقوها، وأن يُبعدوا عن ترابها، وأن تعود إليها كرامتها؛ إذا قلنا: الحرية؛ فمعنى الحرية أن أصحاب الذكاء لا يجوز أن يتحكم فيهم الأغبياء! إذا قلنا الحرية فمعنى الحرية أن اللسان الذي يدعو إلى الله يجب أن يأخذ الضمانات كلها حتى يستطيع أن يقول الحق، لا كما يقول المبطلون... هذه هي الحرية.
كلمة الاشتراكية أنا أحد المسؤولين عنها، لأني أحد الكتاب المسلمين الذين تداولت أقلامهم هذه الكلمة من ثلاثين سنة، من أول كتاب صدر لي، هل أنا مخطئ؟ خطَّأني بعض الناس. هل أنا مُصيب؟ صوَّبَ لي بعضُ الناس. لكن أريد أن أذكر الأمر بأمانة حتى تُعرف الأمور بدقة فأنصف نفسي و أنصف الناس، لقد كنت أكره الاستبداد، وأفهم كلمة عمر -رضي الله عنه- وهو يقول لعَمرو بن العاص -رضوان الله عليه-: "متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!".
إنني حَمِيُّ الأنف! خلقني الله أحب الحرية لكل عباد الله! وأكره كل فاجر من الحكام يستبد أو يطغى؛ أكره الفرعونية في تاريخها كله، ولذلك حاربتها بكل ما لدي من طاقة، فإذا كنت قلت: إن الشعوب تحكم بالديمقراطية، فأنا قلت الكلمة، أخطأت في نظر بعض الناس لأني استعملت كلمة أجنبية، وأصبت في نظر بعض الناس لأنني قررت حقيقة يحترمها الإسلام، أنا أتعصب للغة العربية، وقد أكون مخطئا عندما أقول كلمة "الديمقراطية" بدل كلمة الشورى الإسلامية، لكن ما قصدته هو محاربة الجبروت، محاربة الفرعونية؛ ولعلي أول من استعمل في كتبه "الفرعونية الحاكمة" و"القارونية الكانزة"، وهو تعبير في بعض كتبي، قصدت به محاربة طوائف من الناس عبدت المال من دون الله، وأكلت الحق المعلوم للفقراء والمساكين، كنت أريد أن أقف باسم الإسلام مدافعا عن طبقات كادحة كانت كما قيل: تزرع القمح وتأكل الطين! تزرع القطن وتعيش عارية!.
قلت: أقف إلى جانب هؤلاء، وجعلت شعاري: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) [النساء:75]. وعندما قلت كلمة "اشتراكية"، كنت أقصد أن أعترض بهذه الكلمة المد الشيوعي الذي انطلق في أماكن كثيرة، وأغرى القلوب والعقول ممن نشأوا في كنف الاستعمار لا يعرفون دينا، ولم يتلقوا في مراحل التعليم المختلفة ما يجعل الإسلام واضحا أمام أعينهم، فاستعملت كلمة الاشتراكية! وقال لي بعض الناس بعد ذلك: أخطأتَ. فقلت -في نفسي-: إذا كان الخطأ في استعمال كلمة فإن الحقيقة التي أقصدها جزء من تعاليم الإسلام، والخلاف على العنوان شيء لا يساوى الكثير من العناء؛ ولهذا، ومنعا لكل لغط، فإني أقول: إذا كان شعار أمتنا: الحرية والاشتراكية والوحدة، فليقل قبل ذلك وبعد ذلك إن هذا كله في إطار الإسلام، وإن ما خالف الإسلام من تعاليم أو تطبيقات فهو تحت الأقدام، ولا كرامة، وتوجيهات الله أعلى وأقرب، وهى أولى عندنا بالتقديم على أي شيء آخر، وبذلك نغلق الأبواب أمام الذين يريدون العبث بتراثنا من سماسرة الاستعمار العالمي، وما أكثرهم!.
في "ورقة الحوار" أريد أن يعلم ما يأتي: أن الأمم تبنى نفسها أو تنهدم بنفسها، فعراك الأقوياء أو صلحهم لا قيمة له إذا كانت الأمم لا تبنى نفسها، إذا اصطلح الأمريكان أو الروس أو اختصوا فهذا كله لا قيمة له إذا كانت أمتنا ذاهلة عن دينها ودنياها، ونحن أولا وقبل كل شيء الذين نبنى أنفسنا، فإذا أردنا البناء واعتمدنا على الله ساندنا الله، فلم يقف أمامنا جبار في الشرق أو الغرب، أما إذا نسينا أنفسنا، وجهلنا حق الله علينا، وانتظرنا من الصدف أو من الأمور العشوائية أن تساندنا، فنحن أغبياء! ولن ترضى عنا الأرض ولا السماء!.
إننا قبل كل شيء المسؤولون عن أنفسنا، إن أحدا لن يفكر لك، ولن يعمل لك، ولن يموت بدلك، أنت الذي تحيا، أنت الذي تموت، لا غير، أنت بنفسك، أنت وحدك، وعلى ذلك فعلى الأمة الإسلامية أن تبني نفسها على هذا الأساس: أن الله ظهيرها والمدافع عنها يوم تقرر الاحتماء به، والإيواء إليه؛ ويوم تعتمد على كتاب ربها، وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم-، ويوم تعرف قيمة التراث النفيس الذي زودها الله به.
وأمتنا لكي تعرف هذه الحقائق يجب أن أوضح شيئا في الدين غامضا عند بعض الناس، مع أننا تكلمنا فيه كثيرا، إن بعض الناس يظن أن الدين خصم للدنيا، وأن المتدينين يعيشون على هامش الحياة، و أن التدين بفلسفته النزَّاعة إلى الآخرة، الموجهة إلى ما وراء المادة، هذا التدين بطبيعته يجعل أممه على آخر الطريق، أو في ذيل الركب الإنساني وهو يتحرك إلى الأمام، هذا كلام قد توصف به أديان أخرى، أما الإسلام فإن وصفه بهذا الأسلوب جهل فاضح بحقيقة دين.
إن التمكين في الأرض فضل من الله على الناس وعلى الصالحين منهم خصوصا، فإن الله يقول عن يوسف بعد أن طلب أن يكون أمينا على المال متصرفا في خزائنه، قال: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:56]، أي: هذا التمكين في الأرض جزاء المحسنين، ثم يقول بعد ذلك عن الجزاء الأخروي: (وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يوسف:57]، ويقول الله عن ذى القرنين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) [الكهف:84].
التمكين في الأرض نعمة، التمكين في الأرض بماذا؟ بالمال؟ بالعلم؟ كلاهما مما قال النبي عليه الصلاة والسلام، إن التنافس يكون في هذا، إن الحسد يكون في هذا، الحسد بمعنى التنافس؛ صاحب الرسالة صلى الله علية وسلم يقول: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضى بها ويعلمها". العلم، والمال.
قال شوقي:
بالعِلْمِ والمالِ يَبْنِي الناسُ مُلْكَهُمُ | لَمْ يُبْنَ مُلْكٌ علَى جَهْلٍ وإِقْلَالِ |
ديننا دين العلم والمال، سمي المال خيرا في مواضع لا حصر لها، يكفى فيها قول الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) [البقرة:180]. سماه خيرا في قوله: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) [البقرة:272]، سماه خيرا في قوله: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8].
يقول عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بعث إليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيته فأمرني أن آخذ على ثيابي وسلاحي ثم آتيه قال: ففعلت، ثم أتيته وهو يتوضأ، فصعد في البصر ثم طأطأ ثم قال: "يا عمرو، إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله، ويسلِّمك، وأرغب لك رغبة صالحة من المال" قال: فقلت: يا رسول الله! إني لم أسلم رغبة في المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال: "يا عمرو، نعما بالمال الصالح للرجل الصالح".
إن حضارة الإسلام قامت على المال الكثير، والعلم الكثير، وعندما مَنَّ اللهُ عَلَى أهل مكة قديما، وهيأهم لاستقبال الرسالة الخاتمة، قال في حقهم: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش:3-4]. كلمة أطعمهم من جوع تعنى العدل الاجتماعي بالتعبير الحديث، تعنى الاشتراكية الصالحة بالتعبير الحديث، تعنى الشبع الموفور لكل الناس بأي تعبير لغوى، تعنى ضمان الحق المعلوم والعدل المكتوب بتعبير الإسلام؛ لكن الاقتصاد الكامل لا يكفى وحده، فإن البشر ليسوا قطعانا من الحمير أو البغال يعنيها أن تشبع وكفى! لا! لابد مع الشبع كفالة الضرورات البشرية، لابد من ضمان الكرامة للناس، لابد من أن أبيت مطمئنا على مالي وعرضي ونفسي وولدي، وهذا معنى: (وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).
النظام الاجتماعي الذي يؤمِّن كل إنسان، ويجعله يعيش آمنا على نفسه، هو النظام الذي يسمى في العصر الحديث ديمقراطية، فعلا ديمقراطية، لأن رجل الشارع الآن يشتم رئيس الدولة في أمريكا ورئيس الدولة مهموم في الدفاع عن نفسه ولا يستطيع إلا أن يبحث عن محامين يدفعون عنه! وبعض مرتزقة الصحافة هنا يتحدثون عن هذا كأن ذلك تأخر، كأن التقدم هو في الفرعونية التي تجعل الناس يختبئون بالنهار لا بالليل في بيوتهم!.
إننا نريد أن نعلم الكلمة كاملة، قال لي صديق توفى -رحمه الله-، كان رقيق القلب، يقول: وضعت حبوبا للعصافير في نافذة بيتي، ووقفت أرمقها، وأنتظر أن تجيء لتأكل فلم تجئ، فبحثت عن السبب، وأدركت أنى تركت باب النافذة مفتوحا فخَشِيَت العصافير أن تنزل حتى لا تصطاد! فذهبت فأغلقت الباب، فنزلت العصافير لتأكل! فعلمت أن الشبع لا يغنى عن الأمان، وعرفت قوله تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).
إن "ورقة الحوار" التي ستعرض علينا سوف نتناولها باسم الفكر الإسلامي الحر، وهذا الفكر الإسلامي الحر هو ما تحتاج إليه أمتنا كي تنهض من كبوتها، وكي تسترد خسائرها، وكي تمسح سواد العار الذي صبغ وجهها في معاركها المتلاحقة مع بنى إسرائيل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعلموا أنني أضيق بخلق في المتدينين، خلق كريه لنفسي، وهو السلبية، كأنما ينتظرون من الأقدار أن تساعدهم وهم لا يريدون أن يساعدوا أنفسهم، ستعرض "ورقة العمل" على الناس، وأريد أن أقول: إن المتدينين يجب أن يتكلموا، يجب أن يقولوا رأيهم، صحيح مضت على مصر فترة كان التدين فيها جريمة، وكان الجبن سيد الأخلاق، وكان ناس كثيرون يفرون من كلمة الحق لأنهم يخشون مغبتها، لكن الذين فعلوا هذا في السجون الآن -قبح الله وجوههم-!.
لا أريد أن يجبن المتدينون، لا أريد أن ينفرد بالطريق وبالميدان وبالكلام من لا شرف لهم ولا خلق، من الرجال المعروفين، والنساء المعروفات، الذين يحاربون الفضيلة، ويريدون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين والمؤمنات، لا أريد أن ينفرد هؤلاء بالجو، على المتدينين أن يتكلموا، ورئيس الدولة قال: إن جو الحرية سيتوفَّر لكل متكلم.
ويجب على المسلم أن يتكلم ابتغاء وجه الله و نصرة دينه، ابتغاء تسليم الإسلام لأولادنا كما تسلمناه من آبائنا، فإن سماسرة الاستعمار العالمي وهم يعملون في كل بلد عربي وإسلامي، ويتلقون أوامرهم من سادتهم، هؤلاء يجتهدون لمحو الإسلام ثقافيا، وقانونيا، وأدبيا، و في كل ناحية؛ يجب عندما تعرض "الورقة" ألا ندع ميدانا إلا وطئناه بأقدامنا، وقلنا فيه ما يُرضي الله.
هذه حقائق يجب أن تعرف، نحن أمة على مفترق طريق، وإذا كان مستقبلنا سيصنع لعشرين سنة فما يجوز أن يصنعه المحامون والمحاميات عن البغايا في شارع الهرم! لا يصنع تاريخنا ولا مستقبلنا رجال ونساء خربت قلوبهم وأفكارهم من الدين وقيمه، هؤلاء يجب أن نقدرهم قدرهم، أنا شخصيا تمتلئ نفسي بالازدراء المطلق لهؤلاء كلهم، وإذا كان بعض الناس يعبرون بالبصق على هذه الأفكار أو هذه المبادئ فإن هذا التعبير لا ينقصني فيما أقول وفيما أكتب، إنني أحتقر من أعماق قلبي سماسرة الاستعمار العالمي، وفى كتاب لي جعلت عنوان أحد أبوابه "في عالم البغال" وذكرت أسماء معروفة مرموقة في بلدنا سجلت عليها ما قالته ضد الإسلام، وضد القرآن وضد السنة.
ورقة العمل ستلقى قريبا، يجب أن يتقبلها ا لمؤمنون كبداية لحركة قوية في عودة الأمة إلى إسلامها تشريعات، وأدبا، وتقاليد، وتعليما، وتربية؛ هذا معنى أحب أن نعرفه، أنا متفائل، أحس أن المستقبل للإسلام، أدرك أن قوى الشر -وإن كان نقيقها يملأ أكناف المجتمع- فهي كالضفادع الصغيرة التافهة المغروسة في الطين، التي تموت تحت أي قدم، ومع ذلك فهي تملأ الليل بنقيقها؛ هي ضفادع! سوف تختفي حتما من تاريخنا، ومن حياتنا، وأنا متفائل، وكلما وجدت البناء في هذا المسجد يمضى في طريقه، كلما شعرت بأن يوما ما يقترب ليكون هذا المسجد غريبا عن الصورة الاولى التي ألفناها، كان غارقا في القمامة، كانت القمامة من أسفله إلى سقفه، حتى قيض الله رجلا صالحا هو "محافظ القاهرة" ففعل ما فعل، ومضى في طريقه إلى أن يبنى هذا المسجد.
نريد أن يعود المسجد! بدأه الفاتح الكبير عمرو بن العاص -رضي الله عنه- مدرسة إسلامية تشع الأنوار والهدايات، نريد أن يعلم الناس أن القاهرة ليست عاصمة الصعيد والدلتا، الوجه البحري والقبلي! لا، القاهرة عاصمة العالم الإسلامي. نريد أن تعود القاهرة بدورها التاريخي في هذا الجيال، وأنا أعلم أن هذا المسجد من أكثر من نصف قرن وضعت المؤامرات لسحقه وجعله مقبرة، وللأسف! الآثار المصرية أدت دورا غير مشكور في هذا المجال، لكن -على كل حال- الأمور بدأت تأخذ طريقها إلى الخير.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر"
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].