الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | فيصل بن جميل غزاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
يجِبُ أن نُصحِّحَ المفهومَ الخاطِئَ للعبادة الذي يقصُرُها على بعضِ الطاعات والأفعال والفرائِض، وأن يعتَقِدَ المرءُ اعتِقادًا جازِمًا أنه إن عمِلَ أيَّ عملٍ يرضَى الله عنه، ويُخلِصُ فيه النيَّةَ لله - عزَّ وجل -، أنه مأجُورٌ عليه؛ بل إنه عبادةٌ مِن العبادات التي يُتقرَّبُ بها إلى الله، فلا يستَهِينُ بشيءٍ مِن الأعمال صغُرَ أو كَبُر؛ فتبسُّمُك في وجهِ أخيك صَدقةٌ، وإماطةُ الأذَى عن الطريقِ صَدقةٌ. ويندرِجُ في العبادات أبوابٌ مِن الخير كثيرةٌ؛ كالحياء، وحُسن الخُلُق، وحُسن العِشرة، والأُخُوَّة في الله، والصِّدقِ في الحديثِ، والمغفِرَة للآخرين...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فيقولُ الله - جلَّ ثناؤُه - في مُحكَم التنزيل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
فهذا البيانُ الربَّانيُّ والتقريرُ الإلهيُّ يُؤكِّدُ لنا أن الغايةَ مِن خلقِ الجنِّ والإنسِ، والعِلَّةَ التي أوجَدَ الله الخلقَ مِن أجلِها هي العبادة؛ إذ حصَرَ - عزَّ وجل - الحِكمةَ مِن خلقِ المُكلَّفِين في إرادتِه أن يعبُدُوه ولا يُشرِكُوا به شيئًا.
وهذا ما بعَثَ الله به جميعَ الرُّسُل فدعَوا أقوامَهم إليه، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36].
أيها المُسلمون: مِن البديهات: أن يعرِفَ كلٌّ منَّا الحِكمةَ التي مِن أجلِها خلقَه الله، لكن ما هي العبادةُ التي أرادَها الله منا؟ وما مفهومُها في الإسلام؟ وهل هو ما يعتقِدُه بعضُ الناس مِن مُجرَّد أداء الصلاة، والزكاة، والصيام، والحجِّ فقط، وليس لها علاقةٌ بالأخلاق والسلوكيَّات والمُعاملات المُجتمعيَّة؟
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "العبادةُ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبُّه الله ويرضَاه مِن الأقوال والأعمال الباطِنة والظاهِرة".
فالصلاةُ، والزكاةُ، والصيامُ، والحجُّ، وصِدقُ الحديثِ، وأداءُ الأمانة، وبِرُّ الوالدَين، والوفاءُ بالعُهُود، والأمرُ بالمعروفِ، والنهيُ عن المُنكَر، والجِهادُ للكفَّار والمُنافقِين، والإحسانُ إلى الجار واليتيم، والمِسكين والمملوك مِن الآدميِّين والبهائِم، والدُّعاءُ والذِّكرُ والقراءة، وأمثالُ ذلك مِن العبادة.
وكذلك حبُّ الله ورسولِه، وخشيَةُ الله والإنابةُ إليه، وإخلاصُ الدين له، والصبرُ لحُكمه، والشكرُ لنِعمه، والرِّضاءُ لقضائِه، والتوكُّلُ عليه، والرجاءُ لرحمته، والخوفُ مِن عذابِه، وأمثالُ ذلك هي مِن العبادات لله.
أيها المُسلمون: إن غايةَ الوُجود الإنسانيِّ كلِّه محصُورةٌ في العبادة لا تتعدَّاها إلى شيءٍ غيرِها على الإطلاق، بمعنى: أنها تستغرِقُ حياةَ المُسلم جميعَها، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162، 163].
فالإسلامُ هو الحياةُ، فلا بُدَّ أن يشملَ كلَّ مناحِي الحياة، ولا يقتَصِرُ على جانِبٍ دون جانِبٍ.
وعندما سألَ النجاشِيُّ جعفرَ بن أبي طالبٍ عن الإسلام، أخذَ يصِفُ ما كانُوا عليه في الجاهِليَّة، وما أصبَحَ عليه حالُهم بعد دعوة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لهم، وقال: "حتى بعَثَ الله إلينا رسُولًا مِنَّا، نعرِفُ نسَبَه وصِدقَه، وأمانتَه وعفافَه، فدعانا إلى الله تعالى لنُوحِّدَه ونعبُدَه، ونخلَعَ ما كنَّا نعبُدُ نحن وآباؤُنا مِن دُونِه مِن الحجارة والأوثان، وأمرَ بصِدقِ الحديثِ، وأداء الأمانة، وصِلةِ الرَّحِم، وحُسن الجِوار، والكفِّ عن المحارِم والدم، ونهانا عن الفواحِشِ وقَول الزُّور، وأكل مال اليتيم، وقذفِ المُحصَنَة، وأمرَنا أن نعبُدَ الله وحدَه لا نُشرِكُ به شيئًا، وأمرَ بالصلاةِ، والزكاةِ، والصيامِ"، قال: "فعدَّد عليه أمورَ الإسلام" الحديث (رواه أحمد).
وبِناءً على ذلك؛ يجِبُ أن نُصحِّحَ المفهومَ الخاطِئَ للعبادة الذي يقصُرُها على بعضِ الطاعات والأفعال والفرائِض، وأن يعتَقِدَ المرءُ اعتِقادًا جازِمًا أنه إن عمِلَ أيَّ عملٍ يرضَى الله عنه، ويُخلِصُ فيه النيَّةَ لله - عزَّ وجل -، أنه مأجُورٌ عليه؛ بل إنه عبادةٌ مِن العبادات التي يُتقرَّبُ بها إلى الله، فلا يستَهِينُ بشيءٍ مِن الأعمال صغُرَ أو كَبُر؛ فتبسُّمُك في وجهِ أخيك صَدقةٌ، وإماطةُ الأذَى عن الطريقِ صَدقةٌ.
ويندرِجُ في العبادات أبوابٌ مِن الخير كثيرةٌ؛ كالحياء، وحُسن الخُلُق، وحُسن العِشرة، والأُخُوَّة في الله، والصِّدقِ في الحديثِ، والمغفِرَة للآخرين والصَّفح عنهم، والإصلاح بين المُتشاحِنين، إلى غير ذلك مِن التعامُلات والسلُوكيَّات، والعلاقات الاجتماعيَّة.
معاشر المسلمين: وإذا أرَدنا أن نُجلِّيَ خطأَ مَن يعتَقِدُ تضييقَ نطاقِ العِبادة، فلنَنظُر كم تستغرِقُ هذه الشعائِرُ التعبُّديَّة مِن اليوم والليلة ومِن عُمر الإنسان؛ فالصلاة تأخُذُ جُزءًا مِن اليوم والليلة، والصيامُ شهرٌ واحدٌ مِن السنة، والزكاةُ تكونُ في حقِّ مَن تجِبُ عليه بشُرُوطها مرَّةً في كل عامٍ، والحجُّ لمَن استطاعَ إليه سبِيلًا مرَّةً واحدةً في العُمر يُؤدَّى في أيامٍ قليلةٍ.
إذًا فما النِّسبةُ بين الوقتِ الذي تأخُذُه هذه الشعائِرُ وبين عُمر الإنسان؟ إنها نِسبةٌ يسيرةٌ لا تُذكَر؛ فهل يستطيعُ المُسلم أن يقضِيَ واجِبَ العبادة المفرُوضة بالشعائِر التعبُّديَّة، وقد تقرَّرَ أن العِبادة تستغرِقُ حياةَ المُسلم جميعَها؟!
أيها الناس: وعندما يتَّسِعُ مفهومُ العبادة في حِسِّ المُسلم يعلَمُ أن الأعمالَ الصالِحةَ عمومًا، والتي لم تُصبَغ بصِبغةٍ تعبُّديَّةٍ بَحتَة يُمكنُ أن تتحوَّل إلى عِبادة، وذلك بإصلاح النيَّة لله تعالى، وابتِغاء مرضاتِه بذلك الفعلِ.
فقد جاء في الحديث المُتَّفق عليه عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ سُلامَى مِن الناسِ عليه صَدقةٌ كلَّ يومٍ تطلُعُ فيه الشَّمسُ، يعدِلُ بين الاثنَين صدقَة، ويُعينُ الرجُلَ على دابَّته فيحمِلُ عليها، أو يرفعُ عليها متاعَه صدقَة، والكلمةُ الطيبةُ صدقَة، وكلُّ خُطوةٍ يخطُوها إلى الصلاة صدقَة، ويُميطُ الأذَى عن الطريقِ صدقَة».
بل إن طلَبَ الرِّزقِ والكَسبِ، والسعيَ على النفسِ والرَّعِيَّة مِن العبادات العظيمة التي يُؤجَرُ عليها صاحِبُها، إذا كان مُتَّبِعًا فيه الشرعَ، ناوِيًا مِن ورائِه مقصِدًا شريفًا.
فعن كَعبِ بن عُجرَة - رضي الله عنه - قال: مرَّ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجُلٌ فرأَى أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن جلَدِه ونشاطِه فقالوا: يا رسولَ الله! لو كان هذا في سبيلِ الله! فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن كان خرَجَ يسعَى على ولَدِه صِغارًا فهو في سبيلِ الله، وإن كان خرَجَ يسعَى على أبوَين شيخَين كبيرَين فهو في سبيلِ الله، وإن كان خرَجَ يسعَى على نفسِه يُعِفُّها فهو في سبيلِ الله، وإن كان خرَجَ يسعَى رِياءً ومُفاخَرةً فهو في سبيلِ الشيطان» (رواه الطبراني).
وليس ذلك فحسب؛ بل إن المُباحات للمُسلم قد تَصِيرُ طاعةً يُثابُ عليها؛ فالأعمالُ الغريزيَّة قد تُصبِحُ عبادةً بالنيَّة الصالِحة، ويُؤجَرُ عليها المرءُ.
فقد جاء في حديثِ أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «وفي بُضع أحدِكم صدقَة»، قالوا: يا رسولَ الله! أيأتِي أحدُنا شهوَتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: «أرأيتُم لو وضَعَها في حرامٍ أكانَ عليها فيها وِزرٌ، فكذلك إذا وضعَها في الحلالِ كان له أجرٌ» (رواه مسلم).
فدلَّ هذا على أن المُباحات تَصِيرُ طاعاتٍ بالنيَّات الصادِقات.
ومما يشهَدُ لذلك أيضًا: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما زارَ سعدَ بن أبي وقَّاصٍ قبل وفاتِه قال له: «ولَستَ تُنفِقُ نفقةً تبتَغِي بها وجهَ الله إلا أُجِرتَ بها، حتى اللُّقمةَ تجعَلُها في فِيِّ امرأتِك» (رواه مسلم).
قال النوويُّ - رحمه الله -: "وفِيه: أن المُباحَ إذا قُصِدَ به وجهُ الله تعالى صارَ طاعةً، ويُثابُ عليه".
وقد نبَّه - صلى الله عليه وسلم - على هذا بقولِه: «حتى اللُّقمةَ تجعَلُها في فِيِّ امرأتِك»؛ لأن زوجةَ الإنسان هي مِن أخصِّ حُظوظِه الدنيويَّة وشهوَاته وملاذِّه المُباحة، وإذا وضعَ اللُّقمةَ فِي فِيها فإنما يكون ذلك في العادَةِ عند المُلاعَبَة والمُلاطَفَة، والتلذُّذ بالمُباح، فهذه الحالةُ أبعَدُ الأشياء عن الطاعةِ وأمورِ الآخرة، ومع هذا فأخبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا قصَدَ بهذه اللُّقمة وجهَ الله تعالى حصَلَ له الأجرُ بذلك.
فغيرُ هذه الحالة أولَى بحُصولِ الأجرِ إذا أرادَ وجهَ الله تعالى، ويتضمَّنُ ذلك: أن الإنسانَ إذا فعلَ شيئًا أصلُه على الإباحة وقصَدَ به وجهَ الله تعالى يُثابُ عليه، وذلك كالأكل بنيَّة التقَوِّي على طاعةِ الله تعالى، والنوم للاستِراحة ليقُومَ إلى العبادة نشيطًا، والاستِمتاع بزوجتِه وجارِيته ليكُفَّ نفسَه وبصَرَه ونحوَهما عن الحرامِ، وليقضِيَ حقَّها، وليُحصِّلَ ولَدًا صالِحًا.
أيها الإخوة: إن مرجِعَنا في فَهم معنَى العبادة هو الكتابُ والسنَّة، والصورةُ العمليَّةُ لذلك هم الصحابةُ الذين ربَّاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، والذين أدرَكُوا معنى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، وفهِمُوا مِن ذلك أن العبادةَ غايةُ الوُجود الإنسانيِّ، فيقومُ المُسلمُ بالعبادة وهو يُمارِسُ الحياةَ في شتَّى المجالات، وأن الشهادتَين، والصلاةَ، والزكاةَ، والصومَ، والحجَّ هي أساسُ العبادة، والركائِزُ الأساسيَّة في الدين، ولكن ليسَت هي العبادة فقط؛ بل هي محطاتُ تزوُّدٍ تُعينُهم على أداء بقيَّة العبادة التي تستغرِقُ حياتَهم.
وهذا الفهمُ الحقيقيُّ لمعنَى العبادة جعلَ إحساسَهم بواجِبِهم في العملِ كواجِبِهم في الصلاة، كإحساسِهم بضرورةِ الزواج، وطلبِ الرِّزقِ، وطلبِ العلمِ، وعِمارةِ الأرض.
وهكذا ينبَغي أن نفهَمَ، فنستشعِرَ أننا في عِبادةٍ ونحن نتعلَّمُ ما ينفَعُنا، ونحن نسعَى في طلبِ الرِّزقِ ونُعمِّرُ الأرضَ، ونحن نأكلُ ونشرَبُ وننامُ، ونُروِّحُ عن أنفُسِنا، ونُلاعِبُ أطفالَنا، وعندما نذهَبُ لشراءِ حاجاتِنا مِن السوق، وعندما نُنفِقُ على أهلِينا وأولادِنا، وعندما نقومُ بصِلةِ أرحامِنا، والتواصُل مع جِيرانِنا وأصدِقائِنا، وعندما نسعَى في قضاءِ حوائِجِ غيرِنا، وعندما ننطلِقُ في ميادِين الحياةِ المُختلِفَة.
فلا يَغِيبُ عن بالِنا أننا نُحقِّقُ العبادةَ لله - سبحانه -، فلا يتناقَضُ الإحساسُ لدَينا عندما نُصلِّي وعندما نُؤدِّي تلك الأعمال.
فعن مُعاذٍ - رضي الله عنه - قال: "أما أنا فأنامُ وأقومُ فأحتَسِبُ نومَتي كما أحتَسِبُ قَومَتي" (رواه البخاري).
فكان - رضي الله عنه - يحتَسِبُ الأجرَ في النومِ كما يحتَسِبُه في قيامِ الليلِ؛ لأنه أرادَ بالنومِ التقَوِّي على العبادة والطاعة.
قال ابنُ حجرٍ - رحمه الله -: "ومعناه: أنه يطلُبُ الثوابَ في الراحة كما يطلُبُه في التعبِ؛ لأن الراحةَ إذا قُصِدَ بها الإعانةُ على العبادة حصَّلَت الثواب".
أيها الإخوة: لقد أثَّر الفِكرُ الذي يدعُو إلى فصلِ الدين عن الحياةِ على كثيرٍ من الناس؛ فأخرَجُوا العبادةَ عن جوانِبِ الحياةِ المُختلفة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والفِكريَّة وغيرِها، وصارُوا يرَون أن العبادةَ تُمارَسُ في المسجِد، أما إذا كان في الأعمال الدنيويَّة فلا علاقةَ للدين بذلك.
حتى إن بعضَ الناس ينظُرُ إلى الشعائِرِ التعبُّديَّة على أنها هي كلُّ العبادة المطلُوبة مِن المُسلم، وأنه إذا أدَّاها فقد أدَّى كل ما عليه مِن العبادة، ولم يعُد لأحدٍ أن يُطالِبَه بالمزيدِ، فإذا قامَ أحدٌ بنُصحِه وذكَّرَه بما يجِبُ عليه قال: يا أخي! ماذا تُريدُ منَّا؟! فقد صلَّينا وزكَّينا، وصُمنا وحجَجنا! وهذا مِن أعظم الانحِرافات في تصوُّر مفهُوم العبادة.
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه مِن الآياتِ والذِّكرِ الحكيم، أقولُ قَولِي هذا، وأستغفِرُ الله الجليلَ لي ولكم، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله لا معبُودَ بحقٍّ إلا إيَّاه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له أمرَنا بعبادته وحدَه وتَرك عبادةِ ما سِواه، وأشهدُ أن مُحمدًا عبدُه وخليلُه ومُصطفَاه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه ومَن والاه.
أما بعد: فيقولُ الله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]؛ أي: اعبُد ربَّك حتى يأتِيَك الموتُ الذي أنت مُوقِنٌ به.
قال القُرطبيُّ - رحمه الله -: "والمُرادُ: استِمرارُ العبادة مُدَّة حياتِه، كما قال العبدُ الصالِحُ: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)[مريم: 31]".
فعلينا - عباد الله - أن نبقَى على عبادةِ ربِّنا حتى نلقَاه، وأن نستَقِيمَ على شرعِ الله، مُمتَثِلين أمرَ الله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) [هود: 112].
وعن الزُّهريِّ، أن عُمرَ بن الخطاب تلَا هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت: 30] قال: "استقامُوا واللهِ لله بطاعته، ولم يرُوغُوا روَغَان الثعالِب".
وقال سُفيانُ الثقَفِيُّ: يا رسولَ الله! قُل لِي في الإسلام قَولًا لا أسأَلُ عنه أحدًا بعدَك، قال: «قُل: آمنتُ بالله فاستَقِم» (رواه مسلم).
وما أعظمَ كرامةَ مَن استقامَ على دينِ الله، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).
فعلى المرءِ أن يُواصِلَ سَيرَه إلى ربِّه، ويَصدُقَ في عملِه مع الله، وأن يلتَزِمَ بشرعِه دائمًا، ولا يربِطَ عبادتَه لله بزمنٍ أو مكانٍ أو أشخاصٍ؛ بل يبقَى صادِقًا ثابِتًا على دين الله على كل حالٍ.
فهذا أبو بكرٍ الصدِّيقُ - رضي الله عنه وأرضاه - قد تعلَّم منه الصحابةُ الكِرامُ درسًا في الاستِقامة؛ إذ قامَ فيهم خَطيبًا بعد وفاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قائِلًا: "ألا مَن كان يعبُدُ مُحمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فإن مُحمدًا قد ماتَ، ومَن كان يعبُدُ اللهَ، فإن اللهَ حيٌّ لا يمُوتُ، وقال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر: 30]، وقال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]".
وهكذا يتربَّى العُظماءُ على هذا المبدأ.
قال عُروةُ - رحمه الله -: "بلَغَنا أن الناسَ بكَوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ماتَ وقالوا: واللهِ لوَدِدنا أنَّا مِتنا قبلَه، نخشَى أن نُفتَتنَ بعدَه"، فقال مَعنُ بن عديٍّ: "لكنِّي واللهِ ما أُحبُّ أنِّي مِتُّ قبلَه حتى أُصدِّقَه ميتًا كما صدَّقتُه حيًّا".
كما علينا عباد الله أن نحذَر مِن إفسادِ أعمالِنا الصالِحة بالرجوعِ إلى المعاصِي، قال تعالى مُحذِّرًا لنا: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) [النحل: 92].
هذه المرأةُ البَلهاءُ الخَرقاءُ كان مِن شأنِها: أن تغزِلَ الصُّوفَ في أولِ النهار، حتى إذا أوشكَت على إتمامِ غَزلِها آخر النهار نقَضَت غزلَها وأفسَدَتْه، ثم عادَت إلى الغَزلِ والنَّقضِ مرَّةً أُخرى، فحذَّر الله مِن التشبُّه بصَنِيعِها، وذلك بإفسادِ الأعمال الصالِحة بأعمالٍ سيئةٍ تنقُضُها، وتُذهِبُ بركتَها.
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يستَعِيذُ بالله مِن الحَورِ بعد الكَورِ؛ أي: الرُّجوع مِن الإيمان إلى الكفر، أو مِن الطاعة إلى المعصِية.
فحافِظُوا - عباد الله - على أعمالِكم، ولا تُعرِّضُوها للإحباطِ أو الفسادِ، واحرِصُوا على مُداومةِ الطاعاتِ، والاستِمرار في تزكِية النفسِ وتطهيرِها، وأتبِعُوا الحسنةَ بحسنةٍ، والعملَ الصالِحَ بآخر.
ومما منَّ الله به على عبادِه، ورتَّبَ عليه عظيمَ الأجر والثوابِ: صِيامُ ستَّة أيامٍ مِن شوال.
فقد روَى مُسلم مِن حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، ان النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن صامَ رمضان ثم أتبَعَه سِتًّا مِن شوال كان كصِيام الدَّهر».
هذا وصلُّوا وسلِّموا على إمامِ العابِدين، وقُدوةِ المُؤمنين؛ فقد أمرَكم الله تعالى بالصلاةِ والسلامِ عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آلِه الطيبين الطاهِرين، وارضَ اللهم عن الخُلفاء الراشِدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائِرِ الصحابةِ أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم يا أكرم الأكرَمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافِرين، ودمِّر أعداءَ الدين، اللهم انصُر مَن نصرَ الدين، واخذُل مَن خذَلَ الدين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك، وعبادَك الصالِحين.
اللهم انصُر المُجاهِدين في سبيلِك، والمُرابِطين على الثُّغور، وحُماةَ الحُدود والمنافِذ، اللهم قَوِّ عزائِمَهم، وثبِّت أقدامَهم، واربِط على قلوبِهم، ووحِّد صُفوفَهم.
اللهم فرِّج هُمومَ المُسلمين، ونفِّس كُروبَ المُستضعَفين، وارفَع الشدَّة والبأسَ عنهم يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخوانَنا المُستضعَفين، اللهم كُن لهم في الشام، وفي العراق، وفي بُورما، وفي اليمن، وفي كل مكانٍ، اللهم كُن لهم مُعينًا ونصيرًا، ومُؤيِّدًا وظَهيرًا، اللهم انصُرهم على مَن بغَى عليهم يا ربَّ العالمين.
اللهم آمِنَّا في الأوطانِ والدُّور، وأصلِح الأئمةَ ووُلاةَ الأمور، ووفِّق وليَّ أمرِنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، وارزُقه البِطانةَ الصالِحةَ التي تدُلُّه على الخير وتحُثُّه عليه يا سميعَ الدعاء.
اللهم واجعَل بلدَنا هذا رخاءً سخاءً، وسائِرَ بلادِ المُسلمين.
اللهم ارزُقنا الاستِقامةَ على شرعِك، والثباتَ على دينِك، اللهم إنا نعُوذُ بك مِن الفتَن ما ظهرَ منها وما بطَن، ونعُوذُ بك مِن الحَورِ بعد الكَورِ وأن نُرَدَّ على أعقابِنا.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل: 90، 91].