البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | عبد الملك بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
الإنسان في هذه الدنيا تطرقه النوازل، وتمر عليه المصائب، وهو العبد الضعيف المسكين يحتاج إلى ركن يأوي إليه، وملجأ يفر له، وذلك لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى؛ فهو كاشف الكروب، ومفرج الهموم، وهو الذي يُلجًا إليه، ويُستغاث به؛ فبيده مقاليد الأمور، وعنده خزائن السماوات والأرض، ومن الناس من يصرف هذه العبادة العظيمة لغير الله؛ فيقع في الشرك الأكبر
الحمد لله خلق فسوى، وقدر فهدى، أضحك وأبكى، وأسعد وأشقى، أحمده -سبحانه- وأشكره، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله الأبر الأتقى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه آمنوا بربهم، وصدقوا بالحسنى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس: واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله.
عباد الله: الإنسان في هذه الدنيا تطرقه النوازل، وتمر عليه المصائب، وهو العبد الضعيف المسكين يحتاج إلى ركن يأوي إليه، وملجأ يفر له، وذلك لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى؛ فهو كاشف الكروب، ومفرج الهموم، وهو الذي يُلجًا إليه، ويُستغاث به؛ فبيده مقاليد الأمور، وعنده خزائن السماوات والأرض، ومن الناس من يصرف هذه العبادة العظيمة لغير الله؛ فيقع في الشرك الأكبر.
والاستغاثة -رحمكم الله-: هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، ولا تكون إلا من مكروب، وقد استغاث النبي -صلى الله عليه وسلم- بربه يوم بدر لما نظر إلى كثرة المشركين فأمده الله بالنصر، قال -تعالى-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) [الأنفال: 9].
والاستغاثة قسمان: الأول: استغاثة محرمة؛ وهي الاستغاثة بميت، أو غائب، أو حي حاضر فيما لا يقدر عليه؛ وهذا شرك أكبر.
الثاني: استغاثة جائزة؛ وهي الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه كما في قوله -تعالى-: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) [القصص: 15]
قال الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "وإذا طلبت من أحد الغوث وهو قادر عليه، فإنه يجب عليك تصحيحًا لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب، وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة؛ لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب، وهذا قادح في كمال التوحيد".
عباد الله: نهى الله -سبحانه- نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو أحدًا من دونه من سائر المخلوقين العاجزين عن إيصال النفع ودفع الضر، والنهي عام لجميع الأمة.
ولكن خاطب الله -تعالى- به نبيه -صلى الله عليه وسلم- ليتأسى به غيره، لأن ذلك أبلغ في الزجر والتحذير وإلا هو مبرأٌ منه -صلى الله عليه وسلم-؛ ودعاء غير الله شرك أكبر ينافي التوحيد.
ثم بين -سبحانه- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه لو دعا غيره؛ لكان من جملة المشركين الظالمين، قال -سبحانه وتعالى-: (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ).
فدعاء الأموات والاستغاثة بهم؛ شرك أكبر ينافي التوحيد، فالميت قد انقطع عمله، فهو بحاجة إلى من يدعو له، فكيف يُتوجه إليه بالدعاء من دون الله، فهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً أن ينفع غيره.
أيها المسلمون: إن ما يُصيب العبد من فقر، أو مرض، أو غير ذلك، من أنواع الضر لا يكشفه إلا الله وحده، وإن أصابه خير فلا راد لفضله، روى الترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك".
فالله -سبحانه- هو المتفرد بالملك، والعطاء والمنع، والنفع والضر، فيلزم من ذلك أن يكون هو المدعو وحده لا شريك له، قال -تعالى-: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107]
والفرق بين الاستغاثة والدعاء؛ أن الدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من مكروب وغيره، وينقسم على قسمين:
الأول: دعاء عبادة؛ وهو كل ما يتقرب به إلى الله من الأعمال الصالحة رجاء ثوابه، وخوفًا من عقابه؛ كالصلاة، والصيام، وتلاوة القرآن، والصدقة، والتسبيح، والاستغفار، وغير ذلك؛ فيجب أن يُصرف لله وحده، وصرفه لغير الله شرك أكبر.
الثاني: دعاء مسألة؛ وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع، أو دفع ضر، كأن يطلب من ربه صحة في بدنه، أو كشف بلاء حلَّ به، فعلى العبد أن ينزل حوائجه بربه، فهو -سبحانه- الذي يجيب دعوة الداعين، ويفرج كرب المكروبين، قال -تعالى-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60]
وقال -سبحانه-: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: 17]
وقد نفى الله -سبحانه- في الآية صفة الرزق عن غيره، وأمر عباده بثلاثة أمور هي:
أولاً: طلب الرزق منه وحده كأن يقول: "اللهم ارزقني علمًا نافعًا"، أو"اللهم ارزقني مالاً حلالاً"، فهو -سبحانه- المتفرد بالرزق، قال -سبحانه-: (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ).
ثانيًا: عبادته وحده لا شريك له، فلا يدعو غيره، قال -سبحانه-: (وَاعْبُدُوهُ).
ثالثًا: شكر الله على نعمه، قال -سبحانه وتعالى-: (وَاشْكُرُوا لَهُ).
قال الشيخ محمد بن عثيمين عند قوله -تعالى-: (وَاشْكُرُوا لَهُ) قال -رحمه الله-: "إذا أضاف الله الشكر له متعديًا باللام؛ فهو إشارة إلى الإِخلاص؛ أي: واشكروا نعمة الله لله؛ فاللام هنا لإِفادة الإِخلاص؛ لأنّ الشاكر قد يشكر الله لبقاء النعمة، وهذا لا بأس به، ولكن كونه يشكر الله وتأتي إرادة بقاء النعمة تبعًا، هذا هو الأكمل والأفضل، والشكر فسَّروه بأنَّه: القيام بطاعة المُنْعم، وقالوا: إنَّه يكون في ثلاثة مواضع:
الأول: في القلب، وهو أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله، فيرى لله فضلاً عليه بها، قال -تعالى-: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ) [النحل: 53]، وأعظم نعمة هي نعمة الإِسلام، قال -تعالى-: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) [الحجرات: 17]، وقال -تعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) [آل عمران: 164]
الثاني: ذكرها باللسان، وهو أن يتحدَّث بها على وجه الثناء على الله والاعتراف وعدم الجحود، لا على سبيل الفخر والخيلاء والترفع على عباد الله؛ فيتحدَّث بالغنى لا ليكسر خاطر الفقير، بل لأجل الثناء على الله، وهذا جائز؛ كما في قصة الأعمى من بني إسرائيل لما ذكره الملَك بنعمة الله، قال: "نعم، كنت أعمى فردَّ الله عليَّ بصري، وكنت فقيرًا فأعطاني الله المال"؛ فهذا من باب التحدُّث بنعمة الله. والنبي -صلى الله عليه وسلم- تحدَّث بنعمة الله عليه بالسِّيادة المطلقة؛ فقال: "أنا سيد الناس يوم القيامة" رواه البخاري.
الثالث: أن تستعمل الجوارح التي أنعم الله عليك بها في طاعة المُنعم، وعلى حسب ما يختص بهذه النعمة.فشكر الله على نعمة العلم: أن تعمل به، وتعلّمه الناس، وشكر الله على نعمة المال: أن تصرفه بطاعة الله، وتنفع الناس به، وشكر الله على نعمة الطعام: أن تستعمله فيما خُلق له، وهو تغذية البدن.
عباد الله: إن الله -سبحانه- هو المستحق للعبادة فمن دعا غيره فهو أضل الضالين، قال - تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ) [الأحقاف: 5]
وهذا الضلال لأسباب هي:
الأول: أن المدعو لا يستجيب دعاء من دعاه، ولو دعاه إلى يوم القيامة، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ) [الأحقاف: 5] فصارت دعوته له هي غاية الضلال والخسران.
الثاني: أنهم غافلون عن دعائهم: فلا يشعر المدعو بدعاء من دعاه لأنهم: إما أموات، أو جماد، أو ملائكة مشغولون بما خلقوا له، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، فكيف يملكون ذلك لغيرهم؟! قال -تعالى-: (وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ).
الثالث: أنهم يكونون لهم أعداء، فتلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي، وعداوته له يوم القيامة، قال -تعالى-: (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء).
الرابع: أنهم يكفرون بعبادتهم، فيتبرأ المعبود من العابد حتى لو رضي بعبادته له في الدنيا، قال -تعالى-: (وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ).
فهذه الأمور الأربعة كل واحد منها كاف في ضلال من يدعو غير الله، فكيف وهي مجتمعة؟! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) [الزمر: 11]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على ما منح من الإِنعام وأسدى، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره من خطايا وذنوب لا تحصى عدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله أعظم به رسولاً وأكرم به عبدًا، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه؛ كانوا أمثل طريقة وأقوم وأهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: قال -سبحانه وتعالى-: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62]
يقيم الله -سبحانه وتعالى- الحجة على المشركين في بطلان اتخاذهم الشفعاء من دونه؛ بما قد علموه وأقروا به من إجابة الدعاء لهم إذا دعوه في حال الشدة، وكذلك كشفه السوء النازل بهم، وكذلك جعلهم خلفاء في الأرض جيلاً بعد جيل!
فإذا كانت آلهتهم لا تفعل شيئًا من هذه الأمور، فكيف يعبدونها مع الله -جل وعلا-؟! فما أقل تذكر هؤلاء المشركين فيما يرشدهم إلى الحق والطريق المستقيم!
وروى الطبراني بإسناده: أنه كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: "قوموا بنا نستغيث برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا المنافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنه لا يُستغاث بي، وإنما يُستغاث بالله -عز وجل-".
كان عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحصلت منه أذية للمؤمنين، فقال بعضهم: "اذهبوا بنا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- نستغيث به؛ يصدَّ عنا شرَّ هذا المنافق بقتل أو ضرب، أو تهديد.
والاستغاثة في هذا الحديث جائزة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- حي قادر؛ يقدر على كشف أذية ذلك المنافق، لكنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن هذه الصيغة، فقال: "إنّه لا يستغاث بي وإنّما يستغاث بالله" حماية للتوحيد، وسدًا لباب الشرك، وأدبًا وتواضعًا لربه.
فإذا كان هذا فيما يقدر عليه -صلى الله عليه وسلم- في حياته، فكيف يجوز أن يُستغاث به بعد وفاته؟! فدلَّ ذلك على أن دعاء الأموات والغائبين، أو الأحياء فيما لا يقدرون عليه، أو الاستغاثة بهم؛ شرك أكبر ينافي التوحيد.
قال الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- عن استغاثة أهل هذا الزمان بغير الله: "وهذا موجود الآن، فمن الناس من يسجد للأصنام التي صنعوها بأنفسهم تعظيمًا، فإذا وقعوا في الشدة دعوا الله مخلصين له الدين، وكان عليهم أن يلجؤوا للأصنام لو كانت عبادتها حقَّا.
إلاّ أن من المشركين اليوم من هو أشد شركًا من المشركين السابقين، فإذا وقعوا في الشدة دعوا أولياءهم؛ كعلي والحسين، وإذا كان الأمر سهلاً دعوا الله، وإذا حلفوا حلفًا هم فيه صادقون حلفوا بعليّ أو غيره من أوليائهم، وإذا حلفوا حلفًا هم فيه كاذبون حلفوا بالله ولم يبالوا".
هذا، وصلوا وسلموا على من بعثه الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، ولراية التوحيد مناديًا ودليلاً.