الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - المنجيات |
كم من علاقاتٍ زوجية، وكم من صحبة ورفقة ومودة، وكم من إخاء تعطَّل وتصرَّم بسبب الظنون السيئة؛ ولهذا يجب على المسلم أن يحذر أشد الحذر من الظن السيء بأخيه، وهي التهمة والتخوُّن الذي يقع في القلب، بل يلقيه الشيطان في القلب بلا مستندٍ ولا دليل. إن هذا الظن واجبٌ على المسلم أن يبتعد عنه، لأنه إن لم يبتعد عنه أرداه.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله ربكم، وراقبوه جلَّ في علاه في جميع أعمالكم؛ مراقبةَ من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه.
أيها المؤمنون: إنَّ من المطالب العظيمة التي ينبغي على كل مسلم أن يرعاها وأن يحافظ عليها؛ الأخوَّة الإيمانية والرابطة الدينية التي هي أعظم الروابط وأوثق الصلات، وأن يحذر أشدَّ الحذر من كل ما يُضعِفها أو يوهِّيها أو يخرمها، قال الله -عز وجل-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]؛ إنها أخوَّة الإيمان ورابطة الدين، فما أعظمها من رابطة وما أوثقها من أخوَّة!
عباد الله: وثمة أمور حذَّر الله -عز وجل- عباده منها ونهاهم عنها تؤثِّر في هذه الأخوَّة تأثيرًا عظيمًا ضعفًا ووهاءً؛ ومن ذلكم -عباد الله- ما جاء في السياق الكريم بعد قول الله -عز وجل-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، قال -عز وجل- في هذا السياق: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 11].
عباد الله: الظن الآثم، الظن السيء الذي يظنه المسلم في أخيه يترتب عليه من الآثار العظيمة والأضرار الوخيمة في إضعاف هذه الأخوة، بل وفي إذهابها.
والظن السيء -عباد الله- هو التهمة التي تقع في القلب بلا دليل إثر كلمةٍ يسمعها المرء من أخيه أو فعلٍ يراه من أفعاله؛ فيبني عليه ظنونًا وأوهامًا، ولذا يقع كثيرٌ من الناس في ظنون واهية وتُهمٍ باطلة يُبنى عليها عداواتٌ وقطيعةٌ وتناحرٌ وعِداء.
ولهذا فإن الظن السيء -عباد الله- بالأخ المسلم في قوله أو فعله يترتب عليه من الشر والفساد ما لا يعلم مداه إلا الله. فكم من علاقاتٍ زوجية، وكم من صحبة ورفقة ومودة، وكم من إخاء تعطَّل وتصرَّم بسبب الظنون السيئة؛ ولهذا يجب على المسلم أن يحذر أشد الحذر من الظن السيء بأخيه، وهي التهمة والتخوُّن الذي يقع في القلب، بل يلقيه الشيطان في القلب بلا مستندٍ ولا دليل. إن هذا الظن واجبٌ على المسلم أن يبتعد عنه، لأنه إن لم يبتعد عنه أرداه.
أيها المسلم: إذا بلغتك الكلمةَ من أخيك وتواردت على ذهنك الظنون والأوهامُ والتُّهم فأبعِدها عنك وتلمَّس لأخيك المحامل الطيبة قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ مُسْلِمٍ شَرًّا، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا"، ولهذا تحرص على تلمُّس المحامل الطيبة؛ تحمل فعل أخيك أو قوله عليها لتسْلَمَ ويُسلَمَ منك، قال محمد بن سيرين -رحمه الله تعالى-: "إذا بلغك عن أخيك شيء، فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد له عذرًا، فقل: لعل له عذرًا".
أيها المؤمن: وأما إذا دخل المرء في الظنون الواهية تُهما وتخونًا وظنونًا فاسدةً كاسدة فإنه يضر بنفسه ضررًا عظيمًا، بل ربما صارت حاله أسوء حالاً ممن ناصبه العِداء بسبب موقف ما أو خطأٍ ما. روى البخاري -رحمه الله- في الأدب المفرد عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "مَا يَزَالُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ يَتَظَنَّى حَتَّى يَصِيرَ أَعْظَمَ مِنَ السَّارِقِ"؛ "يتظنى": أي يدخل في الظنون والأوهام.
وهذه حال كثير من الناس إذا سُرق منه أو ارتُكب في حقه خطأ لا يدري من فعَله يبدأ بالظنون: "أعتقد أنه فلان، بل إنه فلان، نعم لقد رأيت فلانًا في ذلك المكان"، ثم يدخل في تُهم وغيبة ووقيعة ونميمة وآثام عظيمة، حتى إن حاله لتصبح أعظمَ إثما من إثم السارق. قُل مثل ذلك في سائر الأخطاء والمخالفات.
وعلى سبيل المثال: قد يصاب المرء بالعين فيتضرر إما في بدنه أو في بعض ممتلكاته فيبدأ في هذه الظنون والتهم: "إنه فلان، بل هو فلان، إنني أعرف من فلانٍ كذا"، ويخوض في أعراض إخوانه تُهمًا باطلة ودعاوى زائفة لا تقوم على دليل، يخوض في أعراضهم غيبةً ونميمةً واستطالةً وأذًى عظيما؛ فتكون حاله أشدَّ حالًا من العائن الذي حسده أو أصابه بالعين.
أيها المسلم: أرِح نفسك في هذا الباب وأرح قلبك، وعليك بحسن الظن بإخوانك وحمْل الأخطاء أو الأقوال على أحسن المحامل، كما تحب أن يُفعل معك لو كنت أنت صاحب ذلك القول أو صاحب ذلك الفعل. قال بكر بن عبدالله المزني -رحمه الله تعالى-: "إياك من الكلام ما إن أصبتَ فيه لم تؤجر، وإن أخطأتَ فيه أثِمت؛ وهو سوء ظنك بأخيك المسلم"؛ إن أصبت في سوء ظنك فيه وصار الأمر مطابقًا لم تؤجر على ذلك، فليس من وراء سوء الظن فائدة، وإن لم تُصِب وكان الأمر مجرد تهمة بلا دليل فإنك تبوء بإثمٍ عظيم.
ولاسيما -عباد الله- إذا تبِع هذا الظن السيء ما تبِعه من أمور وأعمال، وفي الغالب أن الظن يتبعه أمور كثيرة منها التجسس؛ إذا ظن فيه بدأ يتجسس عليه وعلى أفعاله، وإذا تجسس ترتب على ذلك وقيعةً وغيبةً ونحو ذلك، ولهذا لما نهى الله -عز وجل- عن الظن السيء أتبع ذلك بالنهي عن التجسس، ثم أتبعه بالنهي عن الغيبة، لأنها أمورٌ وشرور يتوالدُ بعضها من بعض.
أيها المؤمنون: قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ"؛ فليحذر عبدُالله المؤمن من هذه الظنون والأوهام التي أفسدت في حياة الناس كثيرًا، ونخَرت في أخوَّتهم وعلاقاتهم وأوجدت بينهم من العداوات والبغضاء ما لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى-، فلنحذر من ذلك أشد الحذر، ولنعامل غيرنا بما نحب أن نُعامل به، فإن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى، فإنَّ في تقوى الله خلَفًا من كل شيء، وليس من تقوى الله خلَف.
أيها المؤمنون: ما أجمل الحياة بالمسلم عندما يجاهد نفسه على التمتع بالأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة من هدايات هذه الشريعة وتوجيهاتها العظيمة التي تكفُل للناس في حياتهم راحةً وأمنًا وطمأنينةً وقوةً في المحبة والصفاء والإخاء، وإنه -عباد الله- متأكدٌ على كل مسلم أن يرعى هذه الحقوق والآداب تجاه إخوانه المسلمين إبقاءً لأخوَّة الإيمان ورابطةِ الدين؛ فإن المسلم أخو المسلم.
نسأل الله -عز وجل- أن يحفظ علينا أخوَّتنا وأمْننا وإيماننا، وأن يزيد المحبة والألفة بيننا، وأن يصلح لنا شأننا كله، وأن يعيذنا من الشيطان من كيده ومكره ووساوسه، إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان، اللهم كُن لهم ناصراً ومُعينا، اللهم ارحم ضعفهم يا حي يا قيوم، اللهم كُن لهم ناصرًا ومعينا.
اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك. اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، وأعِنه على طاعتك، اللهم وفِّقه وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.
اللهم أعنَّا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، إليك أوَّاهين منيبين، لك مخبتين لك مطيعين، اللهم تقبَّل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبِّت حجتنا، وسدِّد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا.
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك أنت الغفور الرحيم.