المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | علي بن عبد الرحمن الهوني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن كنت من أهل الطاعات والقربات؛ فلا تدع للشيطان عليك سبيلاً، فيتركك عن فعل ما اعتدت عليه من خير وبر وصلة رحم، ولا تقل: لا أستطيع أن أفوّت مشاهدة هذه الهجمة، فإن هجمة الشيطان على قلبك هي التي تحول دون عملك للخير والمبادرة إليه، فزيّن الشيطان لك الاشتغال بالمشاهدة، والإفراط فيها حتى ينغمس فيها عقلك وقلبك، فيثقل ويركن إليها فيبرد
عباد الله: خطبتنا في هذا اليوم المبارك الأغر عن قضية هامة قلما يتنبه لها الناس ويتفطنون لخطورتها، حيث سيشهد العالم بعد أيام معدودة حدثاً رياضياً معروفاً، له كرَّةٌ وفرَّة كل أربع سنوات، فينشغل به الصغير والكبير، والرجال والنساء، فتتعطل في موسمه الأعمال، وتضطرب منه البيوت والأحوال.
سيحلّ بعد أيام قليلة ضيف ثقيل علينا، يدوم شهراً أو أكثر من ذلك، له تاريخ طويل في زياراته؛ إنه منافسات كأس العالم لكرة القدم.
ولنا مع هذه التصفيات وقفات، وجب التأمل فيها والمراجعة قبل أن يقع الكثير منا فريسة شباكها، فتنال من دينه قبل أن تنال من دنياه:
الوقفة الأولى: يقول رسول الله: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحّة والفراغ" رواه البخاري.
عبادَ الله: إنّ قضيّةَ إشغال الفراغ باللّهو واللّعب والمرح والفرح لهيَ قضيّة لها صِبغة واقعيّة على مضمار الحياة اليوميّة، لا يمكن تجاهلُها لدى كثيرٍ من المجتمعات، بل قد يشتدُّ الأمر ويزداد عند وجودِ موجبات الفراغ كالعُطَل وهذه التصفيات ونحوِها.
والتّرويح والتّرفيه -عبادَ الله- لا بأس به، وهو من قبيل إدخال السّرور على النفس والتنفيس عنها وتجديد نشاطِها وزمّها عن السّآمة والمَلل، وواقعُ النبيّ إبَّانَ حياتِه يؤكِّد أحقِّية هذا الجانب في حياة الإنسان.
يقول سماك بن حَرب: "قلتُ لجابر بن سمرة: أكنتَ تجالس رسول الله؟ قال: نعم، كان طويلَ الصّمت، وكان أصحابه يتناشَدون الشعرَ عنده، ويذكرون أشياء من أمر الجاهليّة، ويضحكون فيبتسمُ معهم إذا ضحكوا" رواه مسلم.
وأخرج البخاريّ في الأدب المفرد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "لم يكن أصحاب رسول الله منحرفين ولا متماوتِين، وكانوا يتناشدون الأشعارَ في مجالسهم ويذكرون أمرَ جاهليتهم، فإذا أريد أحدُهم على شيءٍ من دينه دارَت حماليق عينيه".
وذكر ابن عبد البر -رحمه الله- عن أبي الدرداء أنّه قال: "إنّي لأستجمّ نفسي بالشيء من اللّهو غيرِ المحرّم، فيكون أقوى لها على الحقّ"، يقول ابن الجوزيّ: "ولقد رأيت الإنسانَ قد حُمّل من التكاليف أمورًا صَعبة، ومِن أثقل ما حُمّل مداراةُ نفسِه وتكليفها الصبرَ عمَّا تحبّ وعلى ما تكرَه، فرأيتُ الصّوابَ قطعَ طريق الصّبر بالتسلية والتلطّف للنّفس". غيرَ أنّنا نودّ أن نبيّن هنا وجهَ الهوّة بَين مفهوم الإسلام للتّرويح والتّسلية، وبين ما يخالط اللّهو والمرَح في عصرنا الحاضر من أخطاء ومحرمات.
واعلموا أنّ شريعةَ الإسلام شريعة غرّاء، جاءت بالتّكامل والتّوازن والتّوسُّط؛ ففي حين أنّ فيها إعطاءَ النّفس حقَّها مِن التّرويح والتسلية فإنّ فيها كذلك ما يدلّ على أنّ منه النافعَ ومنه دون ذلك؛ فقد صحَّ عند النسائي وغيره أنّ النبيّ قال: "كلّ لهوٍ باطل غيرَ تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله ورميه بسهمه" الحديث.
الوقفة الثانية: الحرص على الطاعات والثبات عليها؛ فإن الأعمال الصالحة بِعَامَّة لا تأخذ من الناس وقتًا طويلاً ما لم يُشَرِّع الناس لأنفسهم ما لم يأذن به الله، فيشقوا على أنفسهم ويرهقوها عُسرًا.
فاعلم -أيها المسلم- أنك في ميدان سباق، والأوقات تُنْتَهَب، وإياك إياك والخلود إلى الكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم، وثمرة الأمرين أنَّ تعب المحصل للفضائل راحة في المعنى، وراحة المقصر في طلبها تعب وشَين، إن كان ثَمَّ فَهْمٌ لديك يا رعاك الله.
والدنيا كلها إنما تراد لِتُعْبَر لا لِتُعْمَر، وما يناله أهل النقص بسبب فضولها والانشغال بها عما هو خير منها - فإنه يؤذي قلوب معاشريها حتى تنحط، ومِن ثَمَّ يأسف أمثال هؤلاء على فَقْدِ ما وجوده أصلح لهم، في حين إن تأسفهم ربما يكون شبه عقوبة عاجلة على تفريطهم.
فيا أخي: إن كنت من أهل الطاعات والقربات؛ فلا تدع للشيطان عليك سبيلاً، فيتركك عن فعل ما اعتدت عليه من خير وبر وصلة رحم، ولا تقل: لا أستطيع أن أفوّت مشاهدة هذه الهجمة، فإن هجمة الشيطان على قلبك هي التي تحول دون عملك للخير والمبادرة إليه، فزيّن الشيطان لك الاشتغال بالمشاهدة، والإفراط فيها حتى ينغمس فيها عقلك وقلبك، فيثقل ويركن إليها فيبرد.
ولذلك كان نهج السلف واضحًا في الإقلال من المباحات الملهية والتي يأنس لها القلب؛ فتقعده عن قُربة مستحبة أو فرصة سانحة، ولذلك قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "إني لأدع ما لا بأس فيه خشيه الوقوع مما فيه بأس".
الوقفة الثالثة: إن خلال مشاهدة هذه المباريات على الشاة المرئية الصغيرة يضيّع الكثير من المسلمين صلواتهم المكتوبة فضلاً عن النافلة، يضيعونها عن أوقاتها، وفي هذا خطر كبير على إيمان المسلم وطاعته لمولاه؛ ولقد روي عن رسول الله أنها عمود الدين حيث قال: "رأس الأمرِ الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله".
هذه الصلاة التي فرضها الله على رسوله وعلى أمته: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) [النساء:103]، كِتَابًا أي: فريضة، مَوْقُوتًا: موقوتا بوقت، لكلّ صلاة وقتها التي لا تصح إلا فيه إلا أن يكون ثَمَّ عذر.
ومن عجبٍ أن يجهل قوم من المسلمين قدر هذه الصلوات، أو يتجاهلوه ويتغافلوا عنه حتى كانت الصلاة في أعينهم من أزهد الأعمال قدرا، وصاروا لا يقيمون لها وزناً في حساب أعمالهم، ولا يبذلون لها وقتاً من ساعات أعمارهم.
فأي دين -يا عباد الله- لهذا؟! أي دين -يا عباد الله- لشخص يدع هذا العمل، يدع الصلاة بسبب مشاهدة مباراة مع يسر عملها ووقتها، وكثرة ثوابها وعظم مصالحها ومنافعها على القلب والبدن والفرد والجماعة والقول والعمل؟! وأخبر النبي أنّ من لم يحافظ على هذه الصلوات فليس له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة، ويحشر مع أئمة الكفر: فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
فأي دين لشخص يدع الصلاة بسبب مباراة، فلا يصليها في المسجد، وإذا ما انتصف وقت المباراة بين الشوطين نقرها نقر الديك حتى لا تفوته التعقيبات على أحداثها؟! هذا إذا ما صلاها بعد خروج وقتها؛ فهل يؤمِن هذا بالوعيد على مضيعها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله على من تهاون بها أو تغافل عنها؟!
قال الله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [مريم:59-60]، وهذه الآية ظاهرة في أن من أضاع الصلاة واتبع الشهوات فليس بمؤمن؛ لأن الله تعالى قال: (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ)، ومما لا شكّ فيه أن مشاهدة هذه التصفيات لا تتعدى كونها من الشهوات، وقال سبحانه: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4- 5]
فاتقوا الله -عباد الله-، وحافظوا على صلواتكم في كل حين؛ فماذا يبقى من دينكم إذا ضيعتموها بسبب كرة؛ فإنّ آخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، قال الإمام أحمد: "كل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء".
الوقفة الرابعة: الغضب بسبب هفوة أو سقطة أو ضياع فرصة في المباراة، وهذا الغضب في غير محلّه، بل والتصرف أحياناً بعد الغضب بما يخالف الشرع؛ فإنه من الخصال المذمومة، ومن سمات أهل الجهل والحمق والخرق، وهو من أخطر الذنوب، ومن أسباب موت القلوب وفوات المطلوب، وتشوه الصورة ونقص الخلق، وموجبات الندم والإصابة بالصرع، وموجبات فساد الطبع.
فاتقوا هذا الغضب واحذوره، وإذا ابتليتم به فداووه وعالجوه، فقد جاء الشرع بما يقضي على الغضب وينجي من العطب، ومن ذلك: الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان، وتذكر ما توعد الله به أهل البغي والعدوان، وأرشد من غضب وهو قائم أن يجلس، فإن ذهب عنه وإلا فليضطجع، وقال: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". وروي عنه أنه قال لرجل: "لا تغضب ولك الجنة".
إن الغضب شعبة من شعب الجنون، إنه يغير الإنسان؛ ولذا النبي يقول: "ألا تنظرون إلى احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه"، فإن الغضب يحول بين العبد وبين التصرف في الأمور، فربما يحمله الغضب على أن يفعل أفعالاً يندم عليها إذا فاء من غضبه، فمن عباد الله لا يتماسك عندما يغضب، يقول ما يتمنى أنه ما قاله، ويفعل أمرًا يندم على فعله بعد ذلك؛ كيف تجعل قطعة جلد ممتلِئة بالهواء تفسد عليك دينك ودنياك؟!
الوقفة الخامسة: الخلاف والشقاق والشحناء بين المشاهدين المشجعين، فهذا ينتصر لهذا الفريق، وذاك ينتصر لذاك الفريق، فيحدث بينهم الفرقة والنزاع، فيجافي بعضهم بعضا، روي أن رسول الله بلغه أن ناسًا من أصحابه تنازعوا فقال قائل منهم: "يا للمهاجرين، وقال قائل منهم: يا للأنصار، فخرج سيدنا رسول الله من بيته غاضبًا يجر ردائه فقال: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة".
لقد بعث سيدنا المصطفى للقضاء على العنصريات الجاهلية المنتنة مهما كان نوعها، ولأيّ كان انتسابها، وليقيم بدلاً منها صرح الإيمان الذي يجتمع تحت لوائه جميع المؤمنين إخوانًا متحابين، تربط بينهم رابطة واحدة، وشيجة واحدة، وهي رابطة الإيمان، ووشيجة الإسلام، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران:118]
ولنقرأ معًا هذا الحديث النبوي المتفق عليه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات-، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه".
الوقفة السادسة: ضياع حقوق الوالدين بالبر والزوجة والأبناء بأداء واجب الأمانة فيهم خلال مشاهدة المباريات، بأن يكون حال المشاهد متعلقاً بالمباراة؛ فلا يطيع والديه إذا طلباه في أمر ما، ويضيع حقوق زوجه وأبنائه، والنبي يقول: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته".
وعقوق الوالدين -أيها الإخوة- من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وكيف لا يكون كذلك، وقد قرن الله برهما بالتوحيد فقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء:23]، وقال تعالى: (قُلْ تَعَالَوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الأنعام:151]
بل هي من المواثيق التي أخذت على أهل الكتاب من قبلنا، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة:83]، وها نحن نسمع بين الحين والآخر -وللأسف- من أبناء الإسلام من يزجر أمه وأباه لمجرد أن طلبا منه أمراً أثناء مشاهدة ومتابعة المباراة، وقد ينهرهما أو يسبّهما، وهذه جريمة كبيرة.
أيها الإخوة: من أبشع الجرائم، ليست في الإسلام فحسب، بل في عرف جميع بني آدم، أقول: إن انتشارها نذير شؤم وعلامة خذلان للأمة، قال الهيثمي عند قوله تعالى: (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) أي: "اللين اللطيف المشتمل على العطف والاستمالة وموافقة مرادهما وميلهما ومطلوبهما ما أمكن، لا سيما عند الكبر"، (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، ثم أمر تعالى بعد القول الكريم بأن يخفض لهما جناح الذل من القول، بأن لا يُكلَّما إلا مع الاستكانة والذل والخضوع، وإظهار ذلك لهما، واحتمال ما يصدر منهما، ويريهما أنه في غاية التقصير في حقهما وبرهما".
وها هو رسول الله يجعل حقّ الوالدين مقدمًا على الجهاد في سبيل الله، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها"، قلت: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "ثم الجهاد في سبيل الله"، وعنه -أيضًا- أن النبي قال: "رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد" رواه الترمذي وصححه ابن حبان.
وبر الوالدين من أعظم القربات وأجلّ الطاعات، وببرهما تتنزّل الرحمات وتكشف الكربات.
أما الأبناء والزوجة: فحدث ولا حرج، هذه المسكينة تتعطّل كل متطلباتها البيتيّة ولوازم الأسرة؛ لمجرد بداية صفارة الانطلاق التي يصفّر معها الشيطان، فينذر كل من حوله بعدم الحراك والكلام، والويل كل الويل لمن يعبر أمام الشاشة أو يشوّش، والويل لمن يطلب حاجة أو يسأل معروفاً، وما أدراك ما ينتج عن ذلك من المشكلات العائلية والفتن الاجتماعية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الوقفة السابعة: بم يفرح المؤمنون؟ هل بفوز هذا الفريق وانتصاره على خصمه؟! لا، إنما يفرح المؤمنون بفضل الله ورحمته، افرحوا -أيها الناس- بفضل الله، أي: الإسلام ورحمته، أي: القرآن، فإنهما أعظم نعمة ومنّة تفضل الله بها عليكم، ليست نعمةً دنيويّة تنسي فضل الله ومنته، بل هي نعمة عظيمة إسلامية قرآنية دينية تقرّب إلى الله تبارك وتعالى، وتشعر بالفرح والسرور بهذه المنة الربانية الكريمة، ذلك خير من كل ما يجمعه الناس من زينة الدنيا وزهرتها ومتاعها المضمحلّ عن قريب، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58]
وأما الفرح المذموم: فهو الفرح المطلق الذي يَخرج ويُخرج عن السيطرة، فتلتهب به المشاعر، وتنفعل معه الجوارح، قفز وهزّ، وطرب ومجون، ومطاردات بالسيارات وزغاريد وشماتات، فرح لمجرد فوز هذا أو خسارة ذاك، فرح بغرور الدنيا ولعبها وباطلها ولهوها وزينتها، ويفتخرون بذلك ويتباهون، ويلهو بذلك ويلعب الشيطان بعقله ويذهب كل مذهب بسبب هذا الإفراط في الفرح، وبهذه الطريقة يكون الفرح مذموماً وباطلاً ومنهياً عنه في شرع الله وسنة رسول الله.
ويقابل ذلك الحزن الشديد، والهمّ والغمّ لمجرد خسارة الفريق، فتجد الكآبة تعمّ البيت، والصمت والوجوم والغم والحداد، فلا طعام، ولا شراب، ولا نوم، ولا أحباب، دموع ونحيب، وجوه خاشعة عاملة ناصبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فيا أيها الإخوة الكرام: نسأل الله تعالى أن لا يجعل قلوبنا تهشّ أو تبش أو تفرح أو تحزن إلا بما يرضي الله تعالى، آمين.
بارك الله لي ولكم في فهم القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما في السنة من نهج كريم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: فيا عباد الله: فأما الوقفة الثامنة: فمع أخلاق المسلم في الكلام، الكلام الطيب، الكلام الحسن، الكلام النافع الذي يحقّق الخير ويهدف للخير، فلسان المسلم مهذب، لا يتفوّه إلا بكلام طيب ينفع ويفيد، قال الله تعالى آمرًا عباده المؤمنين بذلك فقال: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة:83]، وقال جل جلاله: (وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) [الإسراء:53]، وفي الحديث: "ليس المسلم بالسباب ولا باللعان، ولا بالفاحش ولا بالبذيء".
فيا أخي المشاهد لهذه المباريات والتصفيات: حذار من الاتصاف بأخلاق أهل النار؛ السباب بينهم، ولعن بعضهم لبعض يوم القيامة، المؤمنون بخلاف ذلك، (وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر:47]
نعم أيها المسلمون: إن المسلم مسؤول عن كل تصرفاته وألفاظه وأفعاله، فلا ينجرّ للسب والشتم واللعن على اللاعبين والفِرَق، فلن يشفع له هذا الفريق أو ذاك إذا ما سبّ لاعباً أو مدرّباً، أو فريقاً أو مشاهداً أو حكماً يوم القيامة، لذا وجب علينا -أيها المسلمون- أن نحاسب أنفسنا، وأن نحسب لتصرفاتنا ألف حساب.
أيها المسلمون: لقد أصبح كثير من المسلمين اليوم لا يبالون بتصرفاتهم وما يصدر عنهم من أقوال، وقد يكون في هذه الأقوال ما فيه خسارة دينهم ودنياهم، روى الإمام الترمذي والنسائي وغيره من حديث بلال بن الحارث أن رسول قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة"، فكان علقمة أحد رواة هذا الحديث يقول: "كم من كلام منعَنيه حديث بلال بن الحارث".
عباد الله: ولقد أصبح اللعن والقذف عادة عند كثير من الناس في هذا الزمان؛ حتى أصبح وكأنه تحية عند البعض، مع أن اللعن كبيرة من كبائر الذنوب، ذلك أن اللعن معناه الطرد والإبعاد عن رحمة الله -عز وجل-، فما بالك فيمن يكون هذا دأبه مع أبنائه وإخوانه؟! قال رسول الله: "ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش والبذيء" رواه الإمام الترمذي، بل إن اللعانين يحرمون في الآخرة من الشفاعة لغيرهم، روى الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه: "إن اللعانين لا يكونون يوم القيامة شفعاء ولا شهداء".
أيها المسلمون: ثم هناك مسألة مهمة تكثر حين مشاهدة هذه المباريات، وهي الحلف، وإن شأن اليمين عند الله عظيم، وخطر التساهل بها جسيم، فليست اليمين مجرّد كلمة تمر على اللسان، ولكنها عند الله عهد وميثاق، يجب على المسلم أن يقف عند حده ويوفيه حق قدره، فقد قال: "من حلف بالله فليصدق، ومن حلِف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله"، قال الله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)، قال ابن عباس: "يريد: لا تحلفوا"، فيكون معنى الآية هو النهي عن الحلف.
فلا ينبغي للمسلم أن يكون متسرعًا في اليمين إلا عند الحاجة؛ فإن كثرة الحلف تدلّ على الاستخفاف بالمحلوف به، وعدم تعظيمه وتوقيره.
واعلموا -رحمكم الله- أن كثرة الحلف من صفات الكفار والمنافقين، قال تعالى في صفات الكفار: (وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)، فنهى سبحانه عن طاعة الحلاف، وهو من يكثر الحلف، وقال عن المنافقين: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [المجادلة:14] وقال عنهم: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [المنافقون:2]، أي: جعلوا الحلف وقاية يتوقون بها ما يكرهون، ويخدعون بها المؤمنين.
ومن قبلهم حلف إبليس اللعين لآدم وزوجه ليخدعهما باليمين، قال تعالى عن إبليس: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) [الأعراف:21- 22]، أي: أقسم لهما إنه يريد لهما النصح والمصلحة، (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) أي: خدعهما بذلك القسم وأوقعهما في المعصية.
الوقفة التاسعة والتي قد يقع فيها بعض الناس: المراهنة بحيث يتراهن شخصان أو مجموعتان على أنّه إذا فاز الفريق المعيّن فإنه يقوم مشجّع الفريق المهزوم بتقديم مبلغ مالي أو وجبة عشاء لصاحبه بعد انتهاء المباراة، وهذا الرهان باطل، فإن ألزم الخاسر بالإطعام فالأكل منه حرام، وإن استضافهم بطيب نفسه فهو حلال، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) [المائدة:90- 91]
وعمدة هذا الباب حديث واحد هو قوله: "لا سبَق إلا في خف أو حافرٍ أو نَصْل" أخرجه أبو داود وغيره. والسَبقُ هو ما يُدْفع عند الفوز بالرهان. والخف: إشارة إلى سباق الإبل. والحافر: إشارة إلى سباق الخيل. والنصل: إشارة إلى السباق برمي السهم. فهذه الأمور الثلاثة قد أجاز الإسلام المراهنة فيها لمن يقوم بها بنفسه لا من يتفرّج عليها بنص الحديث.
الوقفة العاشرة: وجعلتها الوقفةَ الأخيرة؛ لأنها مهمة وأهم ما يجب أن نختم به، فهي تدخل في اعتقاد المسلم، وهي المحبّة المفرطة للاعبين بحيث يقدّم حبهم على حب الله ورسوله بالتعلّق المفرط الذي يوصل للشرك، بحيث تصبح كالمحبة المختصة محبة العبودية، وهي المذكورة في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).
فأخبر تعالى أن من أحبّ من دون الله شيئاً كما يحبّ الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً في الحب والتعظيم؛ لأن الله توعد من قدم هذه المحبة على محبة الله، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْناؤكمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
فتوعد سبحانه من قدم هذه المحبوبات الثمانية على محبة الله ورسوله والأعمال التي يحبها ولم يتوعد على مجرد حب هذه الأشياء؛ لأن هذا شيء جبِل عليه الإنسان، ليس اختيارياً، وإنما توعد من قدم محبتها على محبة الله ورسوله، ومحبة ما يحبه الله ورسوله، ويلاحظ أثره على سلوكه وأخلاقه ظاهراً وباطناً، فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده.
وعَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ: "مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" قَالَ: لا شَيْءَ، إِلا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَقَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، قَالَ أَنَسٌ: "فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، قَالَ أَنَسٌ: "فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ".
وفي رواية: "أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ: مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاةٍ وَلا صَوْمٍ وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أحببت".
فتذكر -يا أخي الشاب- مصير أحبابك يوم القيامة، فإن كانوا من أهل الجنة والنعيم كنت معهم، وإن كانوا من أهل النار والسعير، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فاتقوا الله -عباد الله-، وتوبوا إليه، ولا تقعوا في المعاصي وكثرة الذنوب، قال ابن القيم -رحمه الله- تعالى في كتابه الداء والدواء: "ومن عقوبات المعاصي: أنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب"، وقال أحد السلف -رحمه الله- تعالى: "ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة"، وقال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]، ولقد أحسن القائل:
إذا كنت فِي نعمة فارعها
جنبني الله وإياكم أسباب سخطه وعقابه، وجعلنا جميعًا من أهل محبته ورضوانه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:42-45]
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]