الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | سالم العجمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إذا كان مصاحباً فليصاحب مَن يزينُه ولا يشينُه؛ فإنّ الصاحبَ للصاحبِ كالرقعة في الثوب إن لم تكن مثله شانته، ولذا فليس العجبُ من جاهلٍ يصحب جاهلاً، ولكن العجب من عاقلٍ يصحبه؛ لأن كلَّ شيءٍ ينفر من ضده، ويميل إلى جنسه، وقد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحكم العدل اللطيف الخبير، أحمده سبحانه وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك والخلق والتدبير، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: فإنّ المرء لا بدّ له من مخالطة الناس في مجتمعاتهم ومجالسهم؛ ولذا فالواجب على العاقل أن يكتسب من الجلساء مَن تميز بالفضل؛ واتصف بمكارم الأخلاق؛ فإن ذا الشرف لا يصاحب إلا مَن كان مثله؛ قال صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".
وإذا كان مصاحباً فليصاحب مَن يزينُه ولا يشينُه؛ فإنّ الصاحبَ للصاحبِ كالرقعة في الثوب إن لم تكن مثله شانته، ولذا فليس العجبُ من جاهلٍ يصحب جاهلاً، ولكن العجب من عاقلٍ يصحبه؛ لأن كلَّ شيءٍ ينفر من ضده، ويميل إلى جنسه؛ وقد قيل:
وما بَقِيَت من اللذات إلا | محادثة الرجال ذوي العقول |
وقد كنا نعدهمُ قليلاً | فقد صاروا أقل من القليل |
وليكن المرء متحرياً من الجلساء من يكون له عوناً على طاعة الله، وعلى استقامة حاله في أمور دينه ودنياه؛ قيل لخالد بن صفوان: "أي إخوانك أحب إليك؟ قال: الذي يسد خلتي، ويغفر زلتي، ويَقيل عثرتي".
إن أخا الهيجاءِ من يسعى معكْ | ومَن يضرُّ نفسَه ليَنْفَعَكْ |
ومن إذا ريبُ الزمان صَدَعَكْ | شَتَّتَ فيك شمْلَه ليَجْمَعكْ |
كما ينبغي للمرء أن يتأدّب بآداب المجالسة حتى يتميز بجميل مجلسه بين الأقران، فيرغب الناس في مجالسته، ويأنسوا بملاقاته؛ فمن ذلك: أن يعتاد المرء حسن المعاشرة لجلسائه بأن يتعامل معهم بالبشاشة والبِشْر، وحسن الخلق والأدب، كان القعقاع بن شور الهذلي إذا جالسه رجل يجعل له نصيباً من ماله، ويعينه على حوائجه، ودخل يوماً على معاوية، فأمر له بألف دينار، وكان هناك رجل قد فسح له في المجلس، فدفعها للذي فسح له، فقال الرجل:
وكنت جليس قعقاع بن ثور | وما يشقى بقعقاع جليس |
ضحوك السن إن نطقوا بخير | وعند الشر مطراق عبوس |
وعليه أن يكون موقراً للكبير فلا يحسن به أن يدخل رجلٌ أكبر منه سناً، أو موقراً في قومه فلا يوسع له في المجلس؛ فإنَّ فعل ذلك مخالف للأدب، ولذا من الخطأ أن يغرس في نفوس الصغار مثل هذه الأخلاق، فإنها تنشئهم على الكِبْر والأنانية واحتقار الناس؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لِجَليسي عليَّ ثلاثٌ: أن أرمقه بطرفي إذا أقبل، وأوسع له إذا جلس، وأصغي له إذا حدَّث".
ومن آداب المجالسة: أن المرء إذا صاحب من هو أكبر منه -خصوصا إذا كان أباً أو أخاً أكبر- إلى مجلسٍ ما، فلا يدخلْ قبلَه ولا يتحدُّث قبله، فإنَّ هذا خلاف الأدب وداعٍ إلى احتقار الناس للكبير وتهكمهم بالصغير؛ فعن رافع بن خديج قال: "إن عبد الله بن سهل ومحيصةَ بنَ مسعود أتيا خيبر فتفرقا في النخل؛ فقُتِل عبد الله بن سهل فجاء عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيّصة ابنا مسعود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فتكلموا في أمر صاحبهم، فبدأ عبد الرحمن -وكان أصغر القوم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كبِّر الكُبُر" قال الراوي: "يعني لِيَلي الكلامَ الأكبرُ فتكلموا في أمرِ صاحبهم".
ومما ينبغي للعاقل أن يتصفَ به من آداب المجلس: أنْ لا يُقبِلَ بحديثه على مَنْ لا يُقبِل عليه، فإنَّ نشاط المتكلم بقدر إقبالِ السامع.
كما يتعين عليه أن يحدِّث المستمع على قدر عقله ولا يبتدع كلاماً لا يليق بالمجلس؛ فإنَّ لكل مقام مقال، وخير القول ما وافق الحال؛ وقد قيل: "ثمانيةٌ إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم: الجالسُ في مجلس ليس له بأهل، والمقبلُ بحديثه على من لا يسمعه، والداخلُ بين اثنين في حديثهما ولم يدخلاه فيه، والمتعرضُ لما لا يعنيه، والمتآمرُ على رب البيت في بيته، والآتي إلى مائدة بلا دعوة، وطالبُ الخير من أعدائه، والمستخفُ بقدر السلطان".
ومن أدب الاستماع: أنه إذا ورد عليه من المتكلم ما كان قدّ مر بسمعه أن لا يقطع عليه ما يقوله، بل يسكت إلى أن يستوعب منه القول؛ وهذا من أعظم الأدب؛ ولعله إذا صبر وسكت استفاد من ذلك زيادة فائدة لم تكن في حفظه؛ قال عطاء بن أبي رباح: "إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه قط، وقد سمعت به من قبل أن يولد"، وكان ابنُ خارجة يقول: "ما غلبني أحدٌ قط غلبةَ رجلٍ يُصغي إلى حديثي".
قال أبو العباس السفاح: "ما رأيت أغزر من فكر أبي بكر الهذلي؛ لم يَعِد عليَّ حديثاً قط"، وذُكر أنَّ أبا العباس كان يحدثه يوماً إذ عصفت الريح فأَرْمَت طَستاً من سطحٍ إلى المجلس، فارتاع من حضر ولم يتحرك الهذلي ولم تزل عينُه مطابقةً لعين السفاح؛ فقال: ما أعجب شأنك يا هذلي، فقال: إن الله يقول: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) [الأحزاب: 4]، وإنما لي قلب واحد؛ فلما غمره النور بمحادثة أمير المؤمنين لم يكن فيه لحادثٍ مجال، فلو انقلبت الخضراءُ على الغبراءِ ما أحسَسْتُ بها ولا وَجَمْتُ لها، فقال السفاح: لئن بقيتُ لك لأرفعنَّ مكانك، ثم أمر له بمالٍ جزيل وصلةٍ كبيرة.
ويتعين على الجليس: أن يراعي ألفاظه، ويكون على حذر أن يعثر لسانه، خصوصاً إذا كان جليسه ذا هيبة، فقد قيل: "رب كلمة سلبت نعمة".
كما ينبغي لمن جالس الناس أن يتجنّب الصفات التي تنفرهم منه؛ فقد قالت الحكماء: إذا أردت حسن المعاشرة فالْقَ عدوَّك وصديقك بالطلاقة ووجه الرضا والبشاشة؛ ولا تنظر في عطفيك؛ ولا تكثر الالتفات، ولا تقف على الجماعات، وإذا جلَسْتَ فلا تتكبر على أحد؛ وتحفَّظ من تشبيكِ أصابعك، والتثاؤبِ في وجوه الناس؛ وليكن مجلسك هادئاً؛ وحديثك منظوماً مرتباً، ولا تُلحَّ في الحاجات، ولا تشجع أحداً على الظلم؛ ولا تهازل خادمَك فيسقط وقارُك عنده، وإذا خاصَمْتَ فأنصف، وتحفَّظ من جهلك؛ وتجنب عجلتك؛ وتفكر في حجتك، ولا تكثر الإشارة بيدك؛ ولا الالتفات إلى من وراءك؛ وهدّئ غضبك وتكلم، وإذا قرَّبك سلطان فكن منه على حذر، واحذر انقلابه عليك، ولا يحملنَّك لطفُه بك على أن تدخل بينه وبين أهله وحشمه، وإياك وصديق العافية فإنه أعدى الأعداء؛ ولا تجعل مالك أكرم من عرضك، ولا تجالس الملوك؛ فإن فعلت فالتزم تركَ الغيبة ومجانبةَ الكذب وصيانةَ السر وقلةَ الحوائج وتهذيبَ الألفاظ والمذاكرةَ بأخلاق الملوك، مع الحذر منهم وإن ظهرت المودة، ولا تتجشأ بحضرتهم ولا تخلل أسنانك بعد الأكل عندهم، ولا تجالس العامة فإن فعلت فآداب ذلك ترك الخوض في حديثهم؛ وقلة الإصغاء إلى أراجيفهم؛ والتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم، وإياك أن تمازح لبيباً أو سفيهاً، فإن اللبيب يحقد عليك؛ والسفيه يتجرأ عليك، كما أنَّ المزاحَ يخرقُ الهيبة؛ ويَذْهبُ بماء الوجه؛ ويعقِّب الحقد؛ ويذهَب بحلاوة الإيمان والود، ويشينُ فقه الفقيه، ويجرئُ السفيه؛ ويميت القلب؛ ويباعد عن الرب -تعالى-؛ ويكسب الغفلة والذلة، ومَن بلي في مجلس بمزاح أو لغط، فليذكر الله عند قيامه، فقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من جلس في مجلس فكثر فيه لغَطُه؛ فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غُفِر له ما كان في مجلسه ذلك".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فعلى العاقل أن يجتنب مؤاخاةَ قليلِ الوفاء، عديم المكافأة، الذي ليس له صديق، ولا يحبُّ إلا نفسه، ولا ينظر إلا إلى مصلحته؛ فإنَّ ذلك مما يعظم به البلاء ويزداد، وما أكثرَ مَن هذا وصفُه؛ قال وهب بن منبه: "صحبْتُ الناس خمسين سنة؛ فما وجدْتُ رجلاً غفر لي زلة؛ ولا أقالني عثرة ولا ستر لي عورة"، قال علي بن أبي طالب: "لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته"، وإذا كان الغدرُ طبعاً، فالثقة بكل أحد عجز. وقيل لبعضهم: ما الصديق؟ قال: اسم وضع على غير مسمى.
وقد قيل:
سمعنا بالصديق ولا نراه | على التحقيق يوجد في الأنام |
ومنَ رأى تغير أحوال الناس علم أن منتهى عقل المرء تقليله من المعارف؛ فقد كان الناس ورقاً لا شوك فيه، فصاروا شوكاً لا ورق فيه؛ قال جعفر الصادق: "إنْ كان لك مائةُ صديق فاطرح تسعة وتسعين وكن من الواحد على حذر".
ومما يجب أن يعرفه العاقل: أن من يخالطهم المرء على طبقتين؛ فلا بدَّ أن يلبس لهم لباسينِ ليس له بدٌّ منهما، ولا عيشَ ولا مروءةَ إلا بهما: فطبقةٌ من العامة يلبسُ لهم لباسَ انقباضٍ وتحفظٍ في كل كلمةٍ وخطوةٍ؛ ولا يعني ذلك أن يتكبّر عليهم ولكن يعاملهم بشيء من الحذر.
وطبقةٌ الخاصة من أصدقائه يخلعُ عندهم لباسَ الانقباض والتحفظ، ويلبس لهم لباسَ انبساطٍ واستئناسٍ، فيلقاهمُ بذاتِ صدره، ويفضي إليهم بمصونِ حديثه، ويضعُ عنه مؤونةَ الحذرِ، والتحفظِ في ما بينه وبينهم.
ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحداً من الألف، وكلهم ذو فضلٍ في الرأي، وثقةٍ في المودة، وأمانةٍ في السر، ووفاءٍ بالإخاء.